محرزية التي ماتت.. وقيس سعيّد الذي صار رئيسا
بقلم / نور الدين الغيلوفي
أجرى الكاتب والناشط السياسي، نور الدين الغيلوفي، مقابلة بين الفقيدة، المرحومة، محرزية العبيدي، ورئيس الجمهورية، قيس سعيّد، تضمن وجهة نظر عميقة ومؤثرة، بطابع نقدي للرئيس قيس سعيّد.
“الرأي الجديد”، تنشر تدوينة السيد نور الدين الغيلوفي، تعميما للرأي والرأي الآخر..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
** محرزيّة كانت طالبة جامعيّة مناضلة لمّا أحرق بن علي الأرض من تحتها وقطّع الأشجار التي تستظلّ بها وتأكل من ثمرها.. وسجن الشباب من حولها.. وفرّ من معتقلاته قليل القليل للاستجارة بخارج حدود الوطن الذي ضاق بأهله.. وكانت هي بين أهله الذين فرّوا من جحيم الدكتاتوريّة…
ــــ قيس سعيّد كان يدرّس بالجامعة وينفث دخان الكريستال في وجه الدكتاتوريّة ليغمض عينه عمّا يجري من حوله.. فلا يسمع غير زقزقة العصافير ولا يرى غير الربيع ولا يتكلّم إلّا بمقدار.. ويبني له من طمأنينته بمدينة المنيهلة بيتا يستكمله من محاضرات كان يلقيها بين يدي الصادق شعبان يفصّل فيها القول في دستور التغيير المبارك.. ليجزل له شعبان من العطاء ما شاء.. لتأثيث البيت الجديد…
** محرزيّة عادت مع الثورة وانخرطت في تشييد الانتقال إلى الديمقراطية.. دخلت الانتخابات وفازت لها بمعقد بالمجلس الوطنيّ التأسيسيّ.. ووصلت نهارها بليلها مثل نحلة تحوّل زهر الحديقة إلى شراب مختلفٍ ألوانه فيه شفاءٌ للناس.. بعيدا عن زوجها وبنيها…
ــــ قيس سعيّد لا تزال سيجارته تلازم شفتيه يمتصّها لتضيء في رأسه مسألة في القانون الدستوري يُسأل فيها فيدلي بفتواه باللغة العربية الفصيحة ويعود أدراجه إلى بيته الذي بناه حجرا حجرا.. ينعم بتأمّلاته الدستوريّة.. ولا يكتب.. ولا يقول إلّا إجابةً عن سؤال.
** محرزية صارت نائبة رئيس المجلس الوطنيّ التأسيسيّ الأولى.. ترأّست جلسات شتّى وأدارت حوارات لا تحصى وعبرت طرقات وعرة تهون أمامها أودية الصحاري سلاحُها ابتسامة تصلح لفكّ الألغام وتنقية الحقول لا أحد يدري من أيّ الجنان كسبتها.. وساهمت في كتابة دستور الجمهورية الثانية الذي يمكّن أيّ مواطن تونسيّ، مهما كان شأنه، من أن يكون، إذا أراد، رئيسا للجمهورية.. دستورٍ قطع مع الدكتاتورية وشرع طريق الديمقراطيّة.. وفسح الطريق أمام قيس سعيّد ليكون سيادة رئيس الجمهوريّة.
ــــ قيس سعيد قدحت في رأسه فكرة فسافر في أنحاء البلاد في حملات تفسيرية للتبشير بها ولكسب الأنصار لها دون أن يراه من الناس أحد كأنّ على رأسه ورؤوس مريديه مظلّة للاختفاء.. وليكون رئيسا بفضل دستور أكل من عمر محرزيّة ونزف من أعصابها وانتهب من نبض قلبها ومن قدح دماغها قال فيه بعد أن صار الرئيس: إنّ حمارا قد أكله.. والدستور الحقيقيّ هو ذاك المكتوب على الجدران.. فعليكم بقراءة الجدران.
** ماتت محرزيّة.. انتهى عمرها بعد أن احترقت أعصابها وكُتم قلبها وتجلّط دماغها من فرط ما عاشت من ضغط أثقلها وصراخ أرهقها ونيران حقد نزفتْها دفاعا عن الدستور وصَوْنًا للبرلمان وحمايةً لمسار انتقال الوطن إلى الديمقراطيّة…
ــــ الرئيس يرى في محرزية حجر عثرة أزالها القدر من طريقه.. القدَر ذاتُه الذي وضعه هو رئيسا، بفضل صوت محرزيّة وأصوات أشباهها ونظائرها وأنصارها.. لم يتحرّك له جفن، عند موتها، وسكت عن العزاء الإنسانيّ المباح…
أكل الرئيس من ثمرات محرزيّة التي ساهمت في وضعه على كرسيّ الرئاسة.. ولكنّه لم يعترف لها بجميل.. كأنّه وجد في موتها عزاءً له ولحاشيته المانعة ولمقرَّبيه الممتنعين.. فكيف يعزّي في من وجد العزاءَ بموته؟ أخلاقه لا تسمح بذلك ولا المبادئ الثابتة !
** محرزية، الآن، في الما وراء الفسيح تسبح في عوالم لا تُرى.. فوق التناقض والصراع.. وقد تحرّرت من أسباب الأوجاع.. فلا سياسة يدنّسها بشرٌ ولا نظام يُشترط تغييره لتحقيق الخلاص.. ولا مؤامرات ولا غرف مظلمة.. ولا حتّى حاجة إلى إرادة تستحقّ التهاني، لانقطاع الحاجات.. فهناك لا حاجة لمحتاج.. ولا “هنيئا” لمن أراد لأنّه أراد.
ــــ قيس سعيد الرئيس لا يزال يحتال لحلّ البرلمان ومنع الأحزاب وقتل السياسة وإلحاق أشباه محرزيّة بها نكاية بالمتآمرين من أبناء تونس وبناتها.. ليجلس هو على الربوة يقدح سيجارته من رماد الحريق.. قبل أن يلقى محرزيّة، بعد عمر طويل مديد، هناك حيث يجتمع الخصوم.. وتوضع موازين القسط…
هناك حيث لا حاجة لعزاء..
فالمعزِّي والمُعَزَّى فيه سواء..