الديمقراطية.. كحالة مزاجية !؟
بقلم / د. خالد شوكات*
تعزز الأحداث التي تعيش الديمقراطية الناشئة في تونس على وقعها منذ سنوات، أنّها “حالة دراسية” (case study) حقيقية، لما تتّسم به من فرادة وامتياز يستدعي الحيرة البحثية ويشجّع الخبراء والدارسين المهتمين بالفكر الديمقراطي على تناولها، سواء في سياق خاص أو في إطار مقارن، بالنظر إلى خروجها الواضح عن القواعد والخصائص التي لطالما ميزت البلدان الديمقراطية.
والواضح أن هذه الديمقراطية الناشئة قد أضحت وهي تشرف على الاحتفال بالذكرى العاشرة لانطلاق مسارها، مهددة في وجودها واستمراريتها وقدرتها على الصمود في وجه الأعاصير التي تواجهها، رغم تهوين بعض أنصارها من أمر “التحدي الوجودي” الذي تواجهه، مستعينين بمنطق “التدافع” الذي يرتبط بصراع القديم والجديد في مستوى المفاهيم والسلوك والمصالح، لكن هذا المنطق لا يبدو قويا بما يكفي لطمأنة القلقين على هذا التجربة الفريدة من نوعها، والتي أفلتت بالكاد من حصاد الربيع العربي المر، الذي تحوّل معه العالم العربي إلى مجال للفتن الداخلية والحروب الأهلية كما لم يكن في أي مرحلة من مراحل تاريخه السابق.
خارج مربّع الاعتدال
الأصوات التي تشيطن الديمقراطية والتي تطالب بعودة الديكتاتورية ولا تتردد في تمجيد الطغاة والمستبدين السابقين أو المعاصرين الماسكين بالحكم في دول الجوار، لم تعد أصواتا خافتة وخجولة، بل أصبحت أصواتا عالية تصدح بكل وقاحة معلنة عن نفسها حتى داخل مؤسسات الحكم الديمقراطي، فيما تظهر الأصوات الديمقراطية عاجزة ومترددة وغير واثقة، في بلد لا رعاية ديمقراطية له بل إن أعداء الديمقراطية هم من يجدون رعاة أقوياء في المنطقة، وهذا ما يخالف الحالات المقارنة في أوروبا مثلا، فألمانيا ما بعد النازية وجدت رعاية لديمقراطيتها الجديدة من الحلفاء، وهي من قام برعاية الديمقراطية الفتّية في أوروبا الشرقية، عندما ترنحت بعد عشر سنوات من سقوط جدار برلين، ولو لا الدور الألماني لانحرفت قافلة التحول الديمقراطي في بلدان تلك المنطقة، بل إن البعض لا يتردد في القول بانحراف بعضها كما هو حال “المجر” التي أصبحت تحت حكم رجل قوي رغم هذا الدور الألماني.
ما هو مفترض في الممارسة الديمقراطية أن تمنح الحكم غالبا لقوى الوسطية والاعتدال، من اليمين واليسار، وهذا هو احد أهم ضمانات اشتغالها واستمراريتها وقدرتها على تحقيق التداول السلمي على السلطة، لكن هذا ليس هو حال التجربة التونسية التي تدحرجت باستمرار وعلى مر السنوات العشر الأخيرة التي سار فيها قطار الانتقال الديمقراطي، من مربع الوسطية والاعتدال إلى مربع التطرف والانقسام، وهو ما يتجلى بوضوح في طبيعة المجالس البرلمانية المتعاقبة، فهذا البرلمان الحالي هو مثال حيٌّ وساطع لصراع الأجنحة الراديكالية لجميع العائلات السياسية، أجنحة تتمترس وراء خطوط إيديولوجية عالية الحواجز وتتبادل القصف الكلامي خارج كل الأعراف المألوفة في الديمقراطية وترفض الاعتراف بحق بعضها في الوجود، بل تجعل عنوان فوزها السياسي نفي الآخر وإقصاؤه، وهو ما يضيّق من مساحة التوافق الضروري للإصلاح المطلوب إلى ابعد حد، بل يكاد يعدمه، فمراجعة القانون الانتخابي كمدخل لإصلاح النظام السياسي مثلا، تظهر شيئا فشيئا شبه مستحيلة، وهو ما يعني عمليا مزيدا من توريط الديمقراطية.
المزاجية.. وحلّها مزيد من المزاجية
إن التوقّف عند الميول الانتخابية المعلنة مؤخرا يكشف حجم الورطة التي دفع إليها النظام الديمقراطي الفتيّ، فحلّ الأزمة المستفحلة جراء التصويت المزاجي الذي ميّز الممارسة الانتخابية الماضية سنة 2019، وكان سببا في إفراز مؤسسات الحكم العاجزة، هو تصويت مزاجي أعلى، سيفضي إن تحقّق إلى ظهور مؤسسات أكثر عجزاً، وهو اقرب إلى تجسيد المثل العربي القائل “كالمستجير من الرمضاء بالنّار”، فحل الشعبوية عند غالبية التونسيين بحسب نتائج سبر الآراء الأخيرة، هو تعويض “الشعبوية” ب”الفاشية”، ومنح الأولوية لحزب منبوذ من جميع العائلات السياسية لن يتمكن أبدا من تشكيل ائتلاف حكومي في نظام لا يمكن لأي حزب أن يصل فيه للحكم بمفرده، وهو ما يعني دفع البلاد إلى أزمة اشد بدل الأزمة الشديدة الراهنة.
إن الذين اخترعوا النظام الديمقراطي افترضوا بقاء الطبقة الوسطى في موقع أغلبي، ليس بالمعنى الاقتصادي والاجتماعي فحسب، بل وبالمعنى السياسي والفكري أيضا، كما افترضوا بقاء الممارسة العقلانية الضابط الأساسي للعملية الانتخابية، في مقابل أقلية “مزاجية” مقدور عليها، لكن هذا الافتراض بدا غير مضمون وهو ما أثبتته التجربة التونسية التي اتسع فيها نطاق المزاج على حساب العقل كلما ذهب التونسيون مرة جديدة إلى صناديق الاقتراع، في حالة تبدو مع تقدم الزمن حالة هياج وهستيريا جماعية لا تصدق.
ولعل العنصر الجديد الطارئ الذي لم يأخذه الفكر الديمقراطي في الحسبان بعد، أو لم يأخذه بالأهمية الكافية على الأقل، هو العنصر الإعلامي والاتصالي الذي جعلته التكنولوجيا العصرية عاملا فاعلا ومهما ومحددا في الممارسة الديمقراطية عامة والعملية الانتخابية تحديدا، فالشعب لم يعد مادة “مواطنية عقلانية” كما كان لعقود خلت ربّما، إنما أضحى مادة “إعلامية اتصالية” تعبث بها مراكز النفوذ والتأثير والمصالح وتساهم في تشكيلها وفقا لتوجهات ليست محددة أو معروفة دائما.
اجتماع الأضداد
إن أخطر ما في موضوع الديمقراطية التونسية الناشئة، والتحدّي الوجودي الذي تعيشه، هو اجتماع أضداد واسع على إيذائها، وإلّا ما الذي يمكن أن يحشد في جبهة واحدة كل هذه الفؤوس والمعاول التي تحفر وتدق وتخرب جدار النظام الديمقراطي الهش أصلا جراء استفحال الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية، حيث تضرب القوى الفاشية والشعبوية والفوضوية والمجالسية والنقابية و”الكناترية” و”السلفية الجهادية” في ذات الوقت هذا الجسد الديمقراطي المرهق والمثخن بالجراح.
إن هذا اللقاء المدهش للأضداد الأيديولوجية والسياسية والطبقية والمناطقية والجيلية (من أجيال) والإقليمية والدولية في مواجهة نظام ديمقراطي ناشئ لم يستكمل منظوماته الضرورية (أحزاب قوية، وسائل إعلام مهنية، مجتمع مدني ناضج) ومؤسساته الحيوية(محكمة دستورية، قيادة فاعلة،..) ويعيش على وقع أثار جائحة دولية غير مسبوقة (كورونا..)أشبه ما يكون بالحرب العالمية، سيجعل قدرة الديمقراطية على الصمود والاستمرار أشبه بالمعجزة، إن تحققت فلن تكتفي تونس بالبقاء فريدة ومتميزة في محيطها المشدود شدا للاستبداد، بل ستقود سربها العربي إلى الحداثة بجميع أبعادها، السياسية والتنموية والحضارية، فهل ستفلت الديمقراطية التونسية يا ترى من تحالف الأضداد الشِّرِّير هذا؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ناشط سياسي ومدير المعهد العربي للديمقراطية