تاريخية إشكالية القيادة في الإسلام
بقلم / خالد شوكات*
من حيث الواقع التاريخي الغالب في معالجة إشكالية القيادة في الإسلام، منذ تفجّرها بعد وفاة الرسول (ص) في السنة العاشرة للهجرة (632 ميلادية)، فان الخلاصة هي عبارة عثمان بن عفان الخليفة الثالث (رض):”لن انزع سربالا سربلينه الله”، فقد كان تأويله للنص وسيرة الشيخين من قبله أن تفويض الحكم الهي وأن التنازل عنه مرفوض، وقد كان هذا جوابه في مواجهة ثوّار الأمصار الذين طالبوه بالتنحي، حتى اضطر بعضهم إلى تسوّر داره وإنهاء حياته في فاجعة ما تزال الأمة الإسلامية تدفع ثمنها إلى اليوم.
ويبدو أن هذا التأويل في ولاية الحكم المفتوحة، كانت محل إجماع بين أهل الحل والعقد على اختلاف مشاربهم في قضايا الحكم التي طرحت في زمانهم، وهو ما جرت عليه السنن عند المسلمين طيلة القرون الخمسة عشر الماضية، وهو ما لم تختلف فيه الطوائف والمذاهب والملل والنحل تقريبا، إذ بمجرد أن يأخذ حاكم ما البيعة، برضا الناس أو غصبا عنهم، كان يحكم مدى حياته، إلا إذا مات أو قتل أو تنازل من نفسه عن عرشه.
وكان الاختلاف يدور أكثر حول مصدر الشرعية لا مدة الولاية، فقد قال الشيعة بالتفويض الإلهي لمحمد من نسل علي وفاطمة، وقال السنة بالبيعة والغلبة والقهر، ولم يجدوا غضاضة في القبول بالملك الوراثي العضوض، رغم اعتراض قلة منهم على ذلك، وقالت الخوارج بالانتخاب، لكنهم لم يروا مانعا في الولاية الزمنية المفتوحة، وشددوا على خصال العدل والكفاءة، رافضين نظرية الأصل الهاشمي والقرشي.
وفي مجال التجارب الإسلامية المعاصرة، لم يختلف الأمر كثيرا عند المسلمين، شيعة وسنة، فولاية الفقيه التي تحكم الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ينتخب فيها مجلس الخبراء المرشد الأعلى والقائد الاسمي لولاية مفتوحة مدى الحياة، وكذا كان حال جماعة الإخوان المسلمين منذ تأسيسها سنة 1927، وعلى الرغم من تعدد مرشديها المنتخبين من مجالس الإرشاد، فأنهم جميعا قد تولوا مناصبهم مدى الحياة إلا من مرشد واحد وهو محمد مهدي عاكف الذي تنازل من نفسه عن موقعه، وهو أمر شاذ تقريبا عن القاعدة المعمول بها طيلة ما يفوق تسعين عاما من وجود هذه الجماعة أو الحركة الأبرز في العالم الإسلامي بين الحركات الدينية الإسلامية أو الحركات السياسية ذات المرجعية الدينية.
ولم تفارق الجماعات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي هذه السيرة إلا نادرا، خصوصا تلك التي ترتبط بجماعة الإخوان المسلمين الأم، بصلة تنظيمية أو معنوية، فقد تولى الشيخ محفوظ النحناح رئاسة حركة مجتمع السلم إلى أن توفي، ولم تبتعد بقية الجماعات الإسلامية المتعددة في الجزائر عن هذا التمشي، خصوصا عندما يتعلق الأمر بشيخ مؤسس كبعد الله جاب الله الذي كلما أخرجه أصحابه من رئاسة حركة أسس حركة جديدة فصارت هي الأصل وسرعان ما تذوي الحركة القديمة التي اخرج منها غصبا عنه.
وفيّ المغرب التي لم تنضوِ في السابق تحت لواء الخلافة العثمانية، وحافظت بذلك على خصوصيتها الدينية، ظهرت جماعتان رئيسيتان، جماعة العدل والإحسان التي قادها مؤسسها الشيخ عبد السلام ياسين حتى وفاته، بينما تميزت الجماعة الإسلامية التي تحولت في نسختها الأخيرة إلى حزب العدالة والتنمية الحاكم، بنوع من التداول المحدود على القيادة، وهو تداول كان فيه لتجربة السلطة دور أساسي في فرضه وتحققه.
وهنا لا مناص من التوقّف عند قضية التأسيس والمؤسسين، فالمؤسسون الذين غالبا ما انطلقوا “شيوخا” لجماعات بالمعنى الديني وانتهوا “رؤساء” لحركات وأحزاب بالمعنى السياسي، غالبا ما تمسكوا بمواقعهم حتى نهاية أعمارهم، وهو ما أكدته الرسالة المنسوبة للشيخ راشد الغنوشي في رده على رسالة المائة، إذ أشارت الرسالة إلى مكانة المؤسس الرمزية والاعتبارية لكونه زعيما لا مجرد رئيس، وهذه مسألة مركبة منها ما يعود إلى طبيعة الجماعات الإسلامية التي قررت التحول إلى أحزاب سياسية، ومنها ما يعود إلى ثقافة الحكم التي سادت في العالم العربي الإسلامي منذ موجة الاستقلاليات في الخمسينيات والستينيات، إذ هيمنت “مدرسة الرئاسة مدى الحياة” على جميع الأنظمة والأحزاب والتنظيمات مهما تباينت مرجعياتها، شيوعية وإسلامية وقومية وليبرالية، فالزعيم والرئيس غالبا ما يود البقاء حتى يموت ميتة طبيعية أو يأتي من يزيحه على الكرسي بالقوة، وهنا علينا الانتباه إلى أن السنة البورقيبية غالبة على الشيخ راشد والأستاذ نجيب والرفيق حمّة، وأظن أن السيدة عبير لن تشذ عنهم مستقبلا، وان مسالة الحزب تظل لدى هؤلاء ثانوية فهم من صَنَعَ أحزابهم برأيهم لا العكس كما يتصور بعض إخوانهم ورفاقهم أو هكذا تخيّل لهم ربما.
وحتى النماذج التي بدت ناجحة من حيث أثرها الواقعي في النهوض بأوطانها وبلدانها، كما هو حال تركيا أو ماليزيا، فتشبث الزعماء بمواقعهم جراء هذا التأويل الراسخ لقرون، قائم وثابت حتى إن أربكان مات غاضبا على تلميذه أردوغان الذي اضطر إلى الانشقاق عن شيخه، وها هو المريد أي أردوغان نفسه يسير حثيث الخطى نحو رئاسة مدى الحياة، وهي ذات الورطة التي يقع فيها المسلمون، يحسنون كتابة المقدّمات لكنهم يجدون مشكلة في كتابة خواتيم جيدة ومقبولة.
هذا الاختبار الكبير الذي تعيشه حركة النهضة الإسلامية التونسية هو اختبار حقيقي نابع من إشكالية كبرى مطروحة على المسلمين منذ الإسلام المبكر، وقد ازدادت هذه الإشكالية تعقيدا مع تطور تجارب الحكم على الصعيد الإنساني وفرض الديمقراطية قواعدها كنموذج امثل للحكم على البشرية، ولا شك أن نتيجة الاختبار ستكون مفيدة للفكر الإسلامي المعاصر في اجتهاده لإعادة تمثل محدودية الولاية من تجربة الخلافة الراشدة، أو في سياق التفاعل مع منتجات الفكر الإنساني التي تكاد تفرض الالتزام بذات القاعدة.
* وزير سابق وناشط سياسي، ورئيس المعهد العربي للديمقراطية