حركة النهضة ومعركة الرئاسة: هل تسحق مبادرة “التأسيس الجديد” “مجموعة المائة” ؟
بقلم / صالح عطية
عندما صرح القيادي في حركة النهضة، وعضو مجلس الشورى، المنذر لونيسي، بأنّ نحو 100 شخصية قيادية متعددة داخل الحركة، تقدمت بعريضة إلى رئيس الحزب، راشد الغنوشي، لمطالبته بعدم الترشح لرئاسة الحركة في المؤتمر القادم، المقرر نهاية هذا العام، تبادرت إلى ذهني جملة من الأسئلة والإستفهامات، أبرزها:
لماذا الإعلان عن هذه المبادرة في هذا التوقيت ؟ ولماذا يخرج لونيسي، شخصيا، ليعلن عن هذه “المبادرة”، وليطرح نفسه “خصما” لرئيس الحركة، وللمجموعة التي من حوله، حتى وإن لم يكن يرغب في ذلك ؟ هل تملك “مجموعة المائة”، القدرة على مواجهة جيلين على الأقلّ، من حول رئيس الحركة، جزء من جيل السبعينات ومخاضاتها، وجزء واسع من جيل الشباب، الذي يراهن على “الشيخ / الزعيم”، ويحرص على أن يتلقى منه المشعل، بحثا عن زخم رمزي، يحتاجونه في تجربتهم ومستقبلهم السياسي ؟؟
اللافت في هذا السياق، أنّ السيد مذر لونيسي، عاد في ذات التصريح الإعلامي، ليشير إلى أنّ هناك من يرى ضرورة “مواصلة الاستقرار داخل الحزب”، في إطار ما تمر به البلاد من مشاكل صحية في علاقة بجائحة كورونا، إضافة إلى أن حركة النهضة حزب “لا يتحمل الزعزعة أو تغيير القيادة”، مختزلا بذلك، حقيقة الصراع داخل هذا الحزب، الذي يمتدّ تاريخه إلى نهاية سبعينات القرن المنقضي، عندما كان يسمى “الجماعة الإسلامية”، ثم “الاتجاه الإسلامي”، مطلع الثمانيات، قبل أن يتحوّل إلى “حركة النهضة” نهاية العام 1989..
بل إنّ لونيسي، أضاف بأنّ “تغيير قيادة زمن الحرب، قرار غير حكيم”، حسب تعبيره، بما يجعل الرجل ــ عمليا ــ في حلّ من هكذا مجموعة أو مبادرة، لا يبدو أنّ لونيسي، يرى أفقا حقيقيا لها..
المجموعة المعارضة لاستمرار “الرئيس”
لا شك أنّ ثمّة صراعا شديدا على رئاسة “حركة النهضة”، انطلق في الواقع منذ بضع سنوات، في شكل رغبات، غلفها أصحابها بضرورة التغيير، حينا، ووضع حدّ لهيمنة الرئيس الحالي على مقاليد الأمور، حينا آخر، ومعارضة “سياسة الوفاق” مع جزء من المنظومة القديمة، في أحيان أخرى..
تنامت هذه الرغبات في مرحلة لاحقة، لتتحوّل إلى حرص شخصي، ثم في إطار مجموعة، لخلافة “الشيخ”، على كرسي الرئاسة، الذي لا يرى فيه البعض إلا جانبه الرمزي، ومخرجاته السياسية بالأساس..
حاول عبد الحميد الجلاصي، مثلا، قيادة هذا “التيار” من داخل الحزب، مستفيدا مما يعرف بــ “الماكينة الحزبية”، التي كان أحد رموزها البارزين، و”المدير التنفيذي” لها، إن صح القول، لكنّه أدرك لاحقا أنّ هذه الطريق، “ممنوعة” لأسباب كثيرة، أحدها، أنّ رئيس الحزب، سحب البساط من تحت قدميه، عندما شعر أنّ شيئا ما يجري ترتيبه “من الداخل”، لاستخدام “الماكينة” في مسارات أخرى قد تدخل الحزب في دوامة من الصراعات التي ربما، عصفت به، وأجهزت عليه..
أدرك الجلاصي، البارع في الكتابة السياسية، وفي إدارة التنظيم، أنّ الأمر “قد قضي”، وأنّ معارضته “للرئيس”، لا تبدو ذات أفق، فقرر مغادرة الحزب، عبر استقالة، دوّن فيها مقاربته وأسبابه وحيثيات القرار..
زادت استقالة الجلاصي، في إضعاف “الخط المعارض” لــ “الشيخ”، وبات الوزير عبد اللطيف المكي، رفيقه في هذا التيار “اللامرئي”، شبه وحيد في معركة، ربما نظر إليها وزير الصحة السابق، بشكل مختلف، لكنّه عجز ــ على الأرجح ــ أن يجعل منها “الخطّ السائد” في الحركة.
ومع ظهور لائحة سحب الثقة من رئيس البرلمان (ورئيس الحركة)، وتنامي الأصوات المطالبة بتنحي الغنوشي عن رئاسة مجلس النواب، دبّت في “المجموعة المعارضة” حياة جديدة، إذ سرعان ما اتسعت حلقاتها لتشمل قيادات بارزة في الحزب، بل أسماء لا تراها إلا مرافقة “للشيخ” في كل حلّه وترحاله، في الداخل كما في الخارج..
صحيح أنها حرصت على الدفاع عن “رئيس الحركة”، واعتبرت معركة “الآخرين” معه، معركة “كسر عظام”، ورفضت الانخراط في هكذا “أجندا” داخلية، مشحونة بترتيبات خارجية، لكنّها، من حيث تدري أو لا تدري، استثمرت “صراع الخصوم”، في “صراع الرفاق”، وحاولت أن تجرّ الحركة في ذات الاتجاه، رغم اختلاف البوصلة والأفق والمعنى والهدف..
لقد بادرت هذه المجموعة التي باتت تضم أسماء بارزة، بينها علي العريض، الأمين العام، وشقيقه عامر، القيادي البارز، ومحسن النويشي، الذي عهد إليه في وقت سابق، ومن قبل رئيس الحركة بالذات، بــ “الماكينة”، التي كانت بحوزة الجلاصي، العائد في الصورة مجددا ضمن المبادرة الجديدة، بالإضافة إلى ما يعرف بــ “مجموعة المشائخ” (الحبيب اللوز، ومحمد العكروت، وغيرهما، ….)، وقيادات أخرى في مجلس الشورى (بعضهم لا يظهر في الإعلام مطلقا)، بادرت في البداية بممارسة ضغوط من داخل مجلس شورى الحزب، في محاولة لقيادة اللجان الأساسية لإعداد المؤتمر 11 للحركة، خاصة لجنة الإعداد المادي، ولجنة المضامين، غير أنّ المجموعة، لم تحصد سوى مقاعد قليلة ومحدودة صلب هذه اللجان، فيما عادت رئاستها، لأشخاص يمثلون ما بات يعرف بــ “المجموعة الجديدة”، التي بدأت في التشكّل قبل فترة، واستطاعت أن تحشد معها “أجيالا” مختلفة من داخل الحزب..
وهكذا أصبح “اللعب على المكشوف” بين “الفريقين”..
مضمون الصراع.. ومخرجاته
جوهر هذا “اللعب”، هو خلافة “الشيخ / الرئيس”، وهذا يمرّ عبر سيناريو عدم ترشح الغنوشي لرئاسة حركة النهضة في المؤتمر القادم، لأنّ ابتعاد الرجل عن المنافسة، قد يمهد الطريق، لبعض “الأسماء” من “مجموعة المائة”، لكي تحلّ محلّه.
ويرى هذا الطرف، أنّ استمرار الرئيس الحالي، على رأس الحركة، من شأنه أن يفقدها أوراقا مهمة في المستقبل، خصوصا من جهة تسويق “الديمقراطية داخل الحركة”، وفكرة “التداول السلمي على القيادة” صلب الحركة، التي قد تطمئن خصوم الحزب، ومناهضي “الإسلام السياسي”، وجزء من “الخارج”، خاصة في الخليج وأوروبا والإقليم، وفق تقدير هؤلاء..
وطبعا، تطرح هذه المجموعة الموضوع، ضمن دائرة أوسع، هي ابتعاد الغنوشي، وتغيير تحالفات الحزب، وتعديل خطابه السياسي، من أجل إعادة استقطاب “الخزان الانتخابي” للحزب، الذي تهرّى خلال السنوات الماضية، بشكل لافت للنظر، وبات اليوم مهددا من قبل “الحديقة الخلفية” للحركة، (ائتلاف الكرامة)، الذي يعدّ أكثر المتربصين بمثل هذه الصراعات، وما سيرشح عنها من “غضب” سيجري استثماره في المواعيد الانتخابية المقبلة..
لكنّ “المادة الأساسية” التي يشتغل عليها أصحاب هذه المبادرة، هي عدم استمرار الغنوشي على رأس حركة النهضة، وإحداث “تغيير استراتيجي” في قيادة الحزب، كما يقولون، دون أن تكون صورة هذا “التغيير الاستراتيجي”، واضحة إلى حدّ الآن.
مبادرة “التأسيس الجديد”
في مقابل هذه المبادرة، طرحت مجموعة واسعة صلب الحركة، يقودها أنور معروف ونور الدين البحيري وفوزي جاب الله وفوزي كمون وأحمد المشرقي وخليل البرعومي ونجم الدين الحمروني وغيرهم ممن مارسوا الحكم، وتمرسوا على دواليب الدولة وملفاتها، بالإضافة إلى جيل شبابي كثيف، مبادرة، أطلقوا عليها اسم “التأسيس الجديد” لحركة النهضة، ضمن نظرة تصفها بــ “المغايرة” و”العميقة” للطروحات التي تقدمت بها “مجموعة المائة” في جنح الظلام، كما وصفها رئيس الحركة في رسالته الصادرة اليوم، ردّا على ما يمكن تسميتها بــ “مجموعة عزل الرئيس”.
ووفق النص الأساسي لهذه المبادرة، الذي حصلت عليه “الرأي الجديد”، حرص “مهندسو” هذه المبادرة، على جملة من المعطيات، أهمها:
ــــ أنّ المبادرة لا تنطلق من معادلة تنحية الغنوشي من عدمها، وهي لا تخوض في هذا الموضوع بالشكل المباشراتي الملاحظ في المجموعة الأولى.
ــــ أنّ أي مبادرة تصدر من داخل الحركة، يتعيّن طرحها ومناقشتها داخل هياكل الحزب بكامل العلنية، قبل طرحها على استفتاء حزبي عام، بغاية معرفة مدى “شعبيتها” صلب الحزب، وهو ما لا يرغب فيه دعاة “إزاحة الغنوشي”، لذلك هم يحرصون على حسم الموضوع قبل المؤتمر، ودون اللجوء إلى صندوق الاقتراع..
ــــ تتضمن المبادرة، حدّا واضحا لصلاحيات رئيس الحركة في المرحلة المقبلة، باتجاه التأسيس لتشاركية واضحة ومقننة، لاتخاذ القرار التنظيمي والسياسي، بعيدا عن الأشكال المتعارف عليها اليوم صلب الحركة..
ــــ من شأن المبادرة، خلق فرص جديدة، تنظيمية وسياسية للجيل الشبابي، ولمن يأنس في نفسه القيادة السياسية خلال المرحلة المقبلة، دون أي إقصاء..
وعلمت “الرأي الجديد”، من مصادر موثوقة، أنّ أصحاب هذه المبادرة، أنشأوا 3 لجان لبلورة نص “التأسيس الجديد لحركة النهضة”، وهي “لجنة المضامين: الحركة والسياسات العمومية”، و”لجنة إعداد قانون أساسي جديد”، و”لجنة التأطير السياسي” للمبادرة.
وتعمل هذه المجموعة، التي تدير نقاشات واسعة ضمن فرق عمل مغلقة على فيسبوك، على ما تسميه، “تحويل حركة النهضة من حزب يتحكم فيه عقل ديني”، إلى “حزب محافظ في الحكم”، بعبارة أدقّ، تفصل هذه المبادرة، بين واجهة الحكم، التي يمكن أن تستقطب مستقلين وشخصيات من أحزاب أخرى، ومن عموم المجتمع، وواجهة الحزب، الذي تطرح المبادرة أن يكون بعقل تنظيمي جديد، تتكتم على تفاصيله في الوقت الراهن.
ويبدو أنّ القانون الأساسي الجديد المقترح من قبل جهة المبادرة، سيكون مثل “الغربال”، الذي قد يسقط من دائرته عددا من “بارونات” الحزب، و”شيوخه التاريخيين”، لكنّه يتوقع أن يكون كذلك، “مصعدا” لأسماء وشخوص من الجيل الجديد، أو هكذا يعتقد أصحاب هذه المبادرة..
“أدوات” الغنوشي.. الأحزاب والزعامات
في ظل هذا الصراع، يرقب رئيس الحركة، “اتجاهات الريح” التنظيمية، دون أن يعني ذلك عدم توفره على “استراتيجيا”، لمواجهة الوضع بالشكل الذي تتطلبه لحظة المؤتمر وما قبله وما بعده..
فللغنوشي، “أدوات” سياسية وتنظيمية وعلائقية، وكاريزما، وقدرة على إدارة الصراع، ودهاء بيّن في التحكم في مسارات المؤتمر القادم واتجاهاته المختلفة..
لم تدرك “مجموعة المائة”، أنّ الغنوشي لم يعد يفكّر ــ على ما يبدو ــ في مستقبله السياسي، بعد كل هذه التجربة السياسية الواسعة، وتراكم السنوات والعقود، إنما بات يفكر في تاريخه: ماذا فعل؟ وماذا أنجز؟ وما الذي خلفه من بعده؟ وماذا سيقول عنه التاريخ، تاريخ بلاده وحزبه، وتاريخه الشخصي..
ويقيننا أنّ “الشيخ”، لا يرغب في أن يغادر حركة النهضة، وقد أكل الرجل جميع الرؤوس، كما لا يبدو أنّه يرغب في تركها، ضعيفة منقسمة ومشتتة، مثلما ترك أغلب الزعماء التاريخيين أحزابهم، ضعيفة ومنهارة وعاجزة..
لقد خلف المرحوم “أبو عمار” (ياسر عرفات)، حركة فتح، على النحو الذي عليه الآن من الضعف والوهن، وغادر فرانسوا ميتران العالم، بعد أن ترك الحزب الاشتراكي في أسوإ أيامه، وأجهد نيلسون مانديلا نفسه للحفاظ على حزب المؤتمر الوطني، قويا مهابا، لكنّه رغم ذلك لم يفلح، والقائمة تطول، مع اختلاف السياقات والقامات والزعامات.
هذه الصورة لا تبدو مغرية للغنوشي، الذي يبدو ــ وفق بعض التسريبات ــ أكثر الحريصين على إبقاء حركة النهضة، قوية، ومتماسكة، وقادرة على أن تكون رقما في المعادلة السياسية، انطلاقا من تحالفاتها الداخلية، وعلاقاتها الخارجية، وثقل رئيسها في الخارج، قبل الداخل، في إطار توازنات إقليمية، يدرك “الشيخ / الرئيس”، أنها مفاتيح لمرحلة مقبلة، ستكون بكل المقاييس، مختلفة ومفارقة لهذه المرحلة الصعبة والمعقدة..
وعندما خرج رئيس الحركة اليوم برسالته المدوّية إلى “مجموعة المائة”، وحرص على أن يضع معها “النقاط على الحروف”، إنما فعل ذلك ــ في تقديرنا ــ لأنه أدرك أنّ مثل هذه المحاولات تشوش البوصلة، وتحدّ من الأفق، وتضع المؤتمر في العاصفة، في الوقت الذي تحتاج الأحزاب إلى ترتيب مؤتمراتها بكامل الهدوء، لأنها جعلت لحسم خلافاتها، وحتى صراعاتها، في إطار من “العقلانية النضالية”… فلا شيء يمكن أن يضعف الأحزاب والزعامات التاريخية، أكثر من هذه “الخصومات” التي تزيد بلا شك في تهرئة المعنى، وتستهلك وقود المرحلة، وتخرب السياقات الجديدة المفترضة..
فهل تقدر “مجموعة المائة”، على أن تكون رقما في معادلة المؤتمر القادم ؟
ربما استطاعت أن تحدث ضجيجا حول المؤتمر، لكنّ تيار التغيير داخل “خطّ الاستمرار”، يبدو أقوى وأكثر تنظما، وربما أقدر على افتكاك زمام المبادرة، هذا ما ترجحه المؤشرات الأولية، و”مجموعة التأسيس الجديد”، أحد أبرز حلقاتها التنظيمية والسياسية المقبلة..
في انتظار ما تخبئه لأيام القادمة..