باريس… وحدود قدرة فرنسا على فرض قواعد اللعبة بالمتوسط (تقرير)
لندن ــ الرأي الجديد (مواقع إلكترونية)
جاء إعلان فرنسا – في 13 من الشهر الجاري – إنها سترسل طائرتين مقاتلتين من طراز رافال، والفرقاطة البحرية “لافاييت” إلى شرق البحر المتوسط، ليدشن فصلاً جديداً من فصول التنافس بين العديد من القوى الإقليمية والدولية في هذه المنطقة، حيث يأتي هذا التحرك الفرنسي في إطار خطة تهدف إلى زيادة وجودها العسكري في المنطقة بصورة مؤقتة، وذلك في ضوء تزايد حدة التوتر بين تركيا واليونان (الدولتين العضوين بحلف الناتو) بمنطقة شرق المتوسط، بهدف ضمان تطبيق القانون الدولي، وفق ما ذكرته.
وأعلنت فرنسا عن دعمها الكامل لليونان في الاستفادة من مياهها الاقتصادية الخالصة، في مقابل ما وصفته بالاعتداءات التركية، حيث زادت حدة التوتر بين باريس وأنقرة نتيجة تباين كبير في سياسة البلدين تجاه الجماعات الإسلامية من جانب، ودائرة الحلفاء في منطقة شرق المتوسط من جانب آخر.
ومن هنا، يمثل البحر الأبيض المتوسط، ساحة فريدة ومعقّدة للتحالفات والصراعات بالنسبة لفرنسا، نظرًا لتباين ظروف وتحديات الدول المشاطئة للبحر، والتي يصل عددها إلى 22 دولة، مما يوجب على فرنسا رسم سيناريوهات متباينة لاغتنام الفرص ودرء المخاطر.
وإذا كانت دراسة التفاعلات السياسية لمنطقة معينة رهنًا بدارسة دوافع أهم الفاعلين فيها، ومصالحهم وأدوات بسط نفوذهم، فإن فرنسا بلا شك، تعتبر من أهم القوى الاقتصادية والعسكرية المتاخمة للبحر المتوسط، وفهم تحركاتها الحالية، يُعتبر أمرًا حاسمًا لتوقع مستقبل المنطقة.
أهداف “باريس”:
تجدر الإِشارة إلى أن كلٌّ من المنتدى المتوسطي (1994) وعملية برشلونة (1995)، الركيزتين الرئيسيتين لسياسة فرنسا المتوسطية، اللتين بواسطتهما تستغل فرنسا دبلوماسيتها وأدوات القوة الناعمة لإدارة سياساتها مع الدول المشاطئة للبحر المتوسط، وتهدف باريس من خلال سياساتها في حوض المتوسط إلى تحقيق الأهداف التالية:
1- تعزيز وتقوية العلاقات والروابط الثنائية مع الدول المشاطئة للبحر المتوسط بمختلف مستوياتها وتوجهاتها، حتى تتمكن من لعب دور القائد والوسيط في الأزمات الخارجية (مثل أزمة اللاجئين الناتجة عن الصراع في سوريا منذ 2011، واحتضان مدينة كاليه لمخيمات اللاجئين)، والداخلية (مثل الفراغ الدستوري الذي خلفته استقالة رئيس الوزراء اللبناني “سعد الحريري” من رئاسة الوزراء في أكتوبر 2019).
2- تفادي أن تتحول الصراعات والأزمات بين الدول المشاطئة للبحر المتوسط إلى ساحة لتطبيق أدوات التأثير والهيمنة بين القوتين الكبيرتين (الولايات المتحدة، وروسيا)، خاصة مع عودة القطبين لممارسة أدوار هامة في حروب الوكالة بالمنطقة سواء في سوريا أو ليبيا.
3- ضبط سياستها لتتكيف مع المتغيرات المتسارعة في الشرق الأدنى، خاصة مع احتدام الصراع بين دول شرق المتوسط على ثروات البحر في المناطق الاقتصادية الخالصة (على وجه الخصوص ما تقوم به تركيا من أعمال بحث وتنقيب في المياه الاقتصادية لكل من اليونان وقبرص)، وما يترتب على عدم استقرار دول الشاطئ الجنوبي (مثل ليبيا وتونس والجزائر)، من تصدير للهجرة غير المشروعة والأعمال الإرهابية.
ومن هنا، فإن سياسة الرئيس “ماكرون” البراجماتية على المستوى الخارجي والتي أدركت هذه المعطيات، هدفت إلى تحريك قطع الشطرنج لصالح فرنسا بنقل الاهتمام لمنطقة المتوسط، حيث تصنف باريس كواحدة من أكبر القوى الاقتصادية والعسكرية بالنسبة للدول المشاطئة الأخرى، من جانب آخر فإن منطقة المتوسط تمثل فرصة لباريس بعد أن تراجع تأثيرها الاستراتيجي والعسكري على المستوى الدولي، كما تراجع نفوذها السياسي على المستوى الأوروبي بعد خروج بريطانيا بالفعل من الاتحاد. وقد اعتمد التحرك الفرنسي -كما يتضح من تصريحات الرئيس “ماكرون” منذ توليه الحكم في 2017- على محاولة إزالة الصورة الذهنية السلبية لفرنسا لدى دول الجنوب المتوسطي التي كانت مستعمرات فرنسية سابقة، والتأكيد على مبدأ التشارك والندية في العلاقات الثنائية.
تحديات متصاعدة:
تواجه فرنسا مجموعة من التحديات في هذه المنطقة، ولعل من أهمها ما يلي:
1- ضبط الحدود: إذ أن معظم صناع القرار الفرنسيين يمتلكون صورة نمطية سلبية حيال التهديدات القادمة من منطقة المتوسط، حيث أن منفذي عمليات “شارلي إبدو” ومسرح باتكلان في 2015 ونيس في 2016، وغيرها من العمليات الإرهابية حتى عام 2020، كانوا من أصول عربية وتابعين إما لتنظيم القاعدة أو تنظيم داعش. ومن ثمّ فإن مسألة ضبط الحدود وسواحل فرنسا الجنوبية على البحر المتوسط أصبحت على رأس أولويات الحكومة الحالية؛ كما أن الصراعات العديدة في دول حوض المتوسط خلّفت موجات من المهاجرين غير الشرعيين، سواء جراء الأزمة الاقتصادية في دول البلقان المشاطئة للمتوسط، أو الحروب الأهلية والاقتتال العنيف في سوريا وليبيا.
2- الصراع على المناطق الاقتصادية الخالصة: تمتلك فرنسا أكبر مناطق اقتصادية خالصة في العالم بمساحة 11 مليونًا و691 ألف كم مربع، وذلك بفضل مستعمراتها من الجزر، وأهمها بولينيزيا الفرنسية، كليبرتون وسان بيير وميكلون. وتعتمد فرنسا بشكل كبير على هذه المياه الاقتصادية الخالصة مترامية الأطراف في استخراج نسبة كبيرة من الغاز الطبيعي والثروات المعدنية (على رأسها النيكل)، والتي تستخدمها إما محليًّا أو للتصدير الخارجي.
وعلى الرغم من أن مساحة المياه الاقتصادية الخالصة لفرنسا على البحر المتوسط لا تمثل إلا نسبة ضئيلة من إجمالي مساحة مياهها الاقتصادية الخالصة؛ إلا أن تلك المناطق الاقتصادية في المتوسط تكتسب أهمية خاصة نظراً لان منطقة شرق المتوسط منطقة واعدة جدًّا اقتصاديًّا نتيجة الاكتشافات الجديدة لحقول الغاز العملاقة (مثل حقل ظهر في مصر) والتي تنبئ عن تحول مراكز الثقل التجاري لشرق المتوسط.
وفي هذا الإطار تم تدشين “منتدى شرق المتوسط” في يناير 2020 بالقاهرة بعضوية كل من: مصر، فلسطين، الأردن، إسرائيل، قبرص، اليونان، إيطاليا، بهدف مراقبة تنفيذ القواعد الدولية المنظِّمة لاستخدام الثروات الطبيعية في المناطق الاقتصادية بهذه البقعة الجغرافية. وقد أعلنت فرنسا رسميًّا عن رغبتها في الانضمام للمنتدى.
وقد أدى سَعْيُ تركيا للتنقيب في المياه الاقتصادية لكلٍّ من قبرص واليونان وليبيا إلى قيام دول مثل مصر وإسرائيل بالتعاقد مع فرنسا لشراء قطع عسكرية بحرية لتأمين مناطقها الاقتصادية الخالصة، خاصة الفرقاطات FREMM، وحاملات الطائرات ميسترال، وهي صفقات مجزية جدًّا لفرنسا، ولم تكن لتتم في هذا التوقيت الحرج دون ازدياد حدة التنافس في منطقة شرق المتوسط.
من جانب آخر، تستخدم بعض الدول المناطق الاقتصادية المجاورة لمياه فرنسا كمعبر لبعض الحاويات والشحنات المشتبه بها، مثل توقيف السفن الفرنسية سفينةَ شحن ترفع علم تنزانيا لاشتباهها في خرق حظر تصدير السلاح لليبيا في المناطق الاقتصادية القبرصية يوم 10 يونيو 2020، مما أدّى إلى تحرك بوارج عسكرية تركية للسماح للحاوية بالمرور، وأسفر الأمر عن أزمة دبلوماسية عميقة في إطار حلف الناتو.
3- مركزية موانئ شرق وجنوب المتوسط: تعي القيادة السياسية في فرنسا أن المراكز الرئيسية لحركة التجارة البحرية المتمثلة في الموانئ التقليدية، كتارانتو وكاجلياري بإيطاليا وفالنسيا بإسبانيا، باتت تتكبد خسائر كبيرة في حصتها من حركة التجارة العالمية البحرية لصالح موانئ دول المغرب العربي، والتي تشهد حصصها زيادات سنوية بنسبة من 4 إلى 5%. لذا، ووفقًا للتوجه الفرنسي نحو المتوسط، فضلت باريس التعاون مع الموانئ الناشئة لضمان تأثير تجاري معتبر في هذه المراكز التجارية الجديدة. فبحلول عام 2020، عززت فرنسا حصتها من الحاويات البحرية في المشروعات والموانئ الجديدة التي ازدادت طاقتها الاستيعابية لتصل لنحو 16 مليون حاوية في العام الواحد، وذلك في كل من دمياط وبورسعيد في مصر، وطنجة في المغرب، وآسيابورت في تركيا، والنفيضة في تونس، وميناء جن جن في الجزائر .
صراعات مرتقبة:
في ظل كافة هذه الفرص والتحديات التي يدركها صانع القرار الفرنسي، فإن هناك مجموعة من الصراعات تمثل تهديداً كبيراً لباريس في هذه المنطقة تتمثل فيما يلي:
1- المناطق المتقاطعة مع حوض البحر المتوسط: حيث إن توازنات القوى والتنافس في حوض البحر المتوسط لا يتم بمعزل عن مناطق التماس مع هذه المنطقة الحيوية من العالم، وعلى رأسها منطقة البحر الأدرياتيكي، ومنطقة بحر إيجه ومنطقة البحر الأسود. كما أن الامتداد الجغرافي لتلك المنطقة يلزم بلورة سياسة أكثر شمولًا تمتد لعمق استراتيجي أكبر يصل إلى البحر الأحمر والمحيط الهندي لتأمين طريق التجارة الرئيسي بين آسيا وأوروبا من بدايته وحتى نهايته.
2- التنافس الأمريكي- الروسي: فعلى الرغم من تراجع أهمية حوض المتوسط كمعبر لشحنات صادرات البترول إلى الولايات المتحدة؛ إلّا أن دخول روسيا بقوة في أزمات الدول المشاطئة (ليبيا وسوريا على وجه الخصوص) دفع الولايات المتحدة لإعادة التفكير في زيادة قواتها العسكرية في إطار قوات حلف الناتو المتمركزة في البحر المتوسط، فضلًا عن رغبتها في الاقتراب من مناطق انتشار الإسلام الراديكالي، بالإضافة إلى التحكم في التدفقات التجارية العملاقة بين آسيا وأوروبا.
3- مواجهة النفوذ التركي: تصاعدت حدة التصريحات الرسمية بين باريس وأنقرة، حيث تسعى فرنسا إلى تبنّي نهج جمعي للخروج بموقف أوروبي موحد ضد تحركات تركيا في حوض المتوسط، خاصة وأن الأخيرة تنتهك حقوق المياه الاقتصادية لدولة عضو في الاتحاد الأوروبي (اليونان) من وجهة نظر باريس. ويعود الموقف الفرنسي الحازم إزاء التحرك التركي في المتوسط منبعه الانتقادات العلنية التي صرح بها “أردوغان” لسياسة فرنسا في كل من لبنان وليبيا، والتي وصفها بـ”الاستعمارية”، في حين انتقد الإليزيه الضربات الجوية التركية في العراق مما يعبر عن الاختلافات الجذرية في مصالح الدولتين في الإقليم.
4- تزايد الدور الصيني: فعلى الرغم من ابتعاد الصين عن لعبة التوازنات السياسية والاضطرابات الداخلية لدول جنوب شرق المتوسط، وكذا مناطق النفوذ التقليدية لفرنسا في دول جنوب غرب الحوض؛ إلّا أنها أصبحت تولي منطقة حوض المتوسط أهمية استثنائية بعد تبنيها مشروعَ “طرق الحرير” العملاق، وضرورة تأمين تلك الطرق في منطقة من أكثر المناطق سخونة واضطرابًا في العالم.
ختامًا، تُعد فرنسا -التي تُعتبر قوة متوسطة على المستوى الدولي- قوة الرئيسية وكبرى في حوض البحر المتوسط، مما يمكنها من تغيير قواعد اللعبة السياسية والتجارية فيه. وعلى الرغم من جسامة التحديات سالفة الذكر، والاختلافات الجوهرية للفاعلين المشاطئين للحوض، إلّا أن قدرة فرنسا على المناورة في تلك المنطقة كبيرة جدًّا، ومن ثم فإن قدرتها على تحويل المخاطر إلى فرص تتوقف بشكل كبير على تبني استراتيجية عامة تتصف بالمبادرة وتأخذ في الحسبان كافة الأبعاد سالفة الذكر.