احتواء التوقعات: كيف يتعامل “الجملي” مع تحديات تشكيل الحكومة التونسية؟
أبو ظبي ــ الرأي الجديد (مواقع إلكترونية)
شهدت تونس حالة من الزخم السياسي والانتخابي عقب وفاة الرئيس “الباجي قائد السبسي”، وما ترتب على ذلك من تزامن إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، ثم ما أسفرت عنه تلك الانتخابات من نتائج جاءت غير متوقعة إلى حدٍّ كبير، حيث فاز المرشح المستقل “قيس سعيد” برئاسة الدولة التونسية. فيما جاءت حركة النهضة في مقدمة الأحزاب التي حصلت على أكبر المقاعد في مجلس نواب الشعب، وهو ما يعد انخفاضًا في عدد المقاعد مقارنة بالمجلس السابق، إلا أنه لا يزال يعتبر حزب الأكثرية نتيجة للتفتت الحزبي.
وفي هذا السياق بدأ الرئيس “قيس سعيد” في ممارسة مهامه، كما شهد البرلمان انعقاد أولى جلساته، وانتخب “راشد الغنوشي” رئيسًا للبرلمان وذلك بعد الدعم الذي حصل عليه نتيجة التحالف مع حزب “قلب تونس”، الأمر الذي يفتح باب التوقعات بتحالف مماثل في تشكيل الحكومة التونسية.
وتمسكًا من حركة النهضة بحقها في ترشيح رئيس الحكومة من داخلها، باعتبارها حزب الأكثرية، فقد قرر مجلس شورى “حركة النهضة” التونسية في 15 أكتوبر ترشيح “الحبيب الجملي” لرئاسة الحكومة، وفي ظل ما تحظى به مفاوضات تشكيل الحكومة التونسية من اهتمام، تثور التساؤلات حول أسباب اختيار “الجملي” لتشكيل الحكومة، وما هي أهم التحديات التي ستواجه عمليات تشكيل الحكومة خلال الأيام القادمة؟
دوافع اختيار “الجملي”:
أعلنت حركة النهضة أن من أسباب ترشيحها للحبيب الجملي كرئيس للحكومة ترجع إلى كونه شخصية مستقلة تتمتع بالكفاءة والنزاهة والخبرة في مجال الإدارة لقيادة المرحلة القادمة، حيث يعد “الحبيب الجملي” (60 عامًا) كاتب دولة سابقًا لدى وزير الفلاحة (2011-2014)؛ إلا أنه يمكن تفصيل أهم الأسباب الحقيقية لذلك الاختيار على النحو التالي:
1- واجهة تكنوقراطية: حيث يعد “الجملي” في الأصل مهندسًا زراعيًّا، سبق أن مارس مهامه في إطار حكومتي “النهضة” اللتين ترأسهما كل من “حمادي الجبالي” و”علي لعريّض”، بصفة تكنوقراط مستقل. ومن ثم، فإنه يعطي انطباعًا بتشكل حكومة من التكنوقراط، وإن كان ليس ببعيد عن النهضة بأي حال من الأحوال.
2- إضفاء طابع الاستقلالية: حاولت النهضة في اختيارها للمرشح لرئاسة الحكومة أن تكون بعيدة إلى حد ما عن الوجوه القيادية والتقليدية للحركة، وذلك لإضفاء طابع الاستقلالية على الحكومة الجديدة. ومن هنا جاءت تأكيدات النهضة على استقلالية “الجملي”، والذي أكد في أكثر من مناسبة عقب تكليفه برئاسة الحكومة أن حركة النهضة لم تعد تترأس الحكومة بعد تكليفه. وهو الأمر الذي في حقيقته لم يُقنع أيًّا من الأحزاب، خاصة في ظل تأكيدات سابقة من جانب “الغنوشي” حول شخصية المرشح لرئاسة الحكومة بأنه “سيكون من النهضة.. من الصف الأول أو من الصف العاشر.. من أصدقاء النهضة.. لن يكون خارج هذه الدائرة”.
3- خدمة مصالح النهضة: يشير تمسك النهضة بترشيحها لكل من رئيس الحكومة ورئيس البرلمان من داخلها إلى سعيها الحثيث لتنفيذ برنامج شامل تعد الحركة هي المتحكم الأول والأخير في كافة تفاصيله حتى لا تواجه مصير حزب “نداء تونس”. ومن ثم، جاء اختيار “الجملي” ليخدم ذلك الهدف، حيث ترى التيارات السياسية أن النهضة غلبت مصلحتها الحزبية على المصلحة العامة، وأن “الغنوشي” سيعد في النهاية هو رئيس الحكومة الحقيقي.
4- تهدئة مخاوف المجتمع الدولي: حيث سعت النهضة من خلال اختيارها للجملي إلى تهدئة مخاوفه من سيطرة النهضة ذات التوجهات الإسلامية على مؤسسات الحكم في تونس. خاصة في ظل النظرة إلى التجربة التونسية باعتبارها النموذج الأكثر نجاحًا في الاحتجاجات العربية. ومن ثم، إقناع المجتمع الدولي بنجاح التجربة الديمقراطية في تونس، وخلق مسارات للتفاعل الإيجابي مع القوى الدولية ذات الشكوك الدائمة من التعامل مع الإسلاميين.
5- تجنب المصادمات: حيث إن بُعد “الجملي” عن الأضواء المسلطة على حركة النهضة، وكونه إلى حد ما شخصية توافقية غير صدامية، سيسهل عليه إحداث نوع من توافق الرؤى بين الأحزاب، ومحاولة خلق نوع من التوازنات الممكنة داخل الحكومة، بما يسهل آليات العمل بين البرلمان والحكومة.
وتنطلق أهم الانتقادات الموجّهة من جانب الأحزاب لاختيار “الجملي” من اعتبارات افتقاده للتجربة السياسية، حيث ترى بعض الأحزاب أن “الحبيب الجملي” شخصية لا تحمل أي رصيد سياسي، وهو الأمر الذي يعترف به، حيث يقدم نفسه في سيرته الذاتية على أنه ليس له أي انتماءات سياسية. ويضاف إلى ذلك أنه ليس له أي طرح، ولم يسبق له التقدم بحلول لمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها تونس. كما أنه بعيد عن الشارع السياسي التونسي. وقد ارتأت بعض الأحزاب أنه كان من الأفضل أن تطرح النهضة الأسماء التي طرحتها في استفتاء مجلس الشورى الخاص بها على المنظمات الوطنية والأحزاب السياسية، ليتم النقاش حولها والاختيار بشكل توافقي.
تحديات تشكيل الحكومة:
تتمثل أهم التحديات التي تواجه تشكيل حكومة “الجملي” فيما يلي:
1- الالتزام بالآجال الدستورية: يعد هذا هو التحدي الأساسي والمفصلي أمام “الجملي”، حيث يشترط الدستور في المادة (89) منه حصول تشكيلة الحكومة على ثقة غالبية (109 نواب) من إجمالي (217 نائبًا)، خلال مهلة لا تتجاوز ستين يومًا، وفي حالة عدم الحصول على تلك الأغلبية يكون لرئيس الجمهورية الحق في تكليف الشخصية التي يراها الأقدر على تشكيل الحكومة، ويمنح لها شهرين آخرين. وفي حالة عدم القدرة على تشكيل الحكومة، ويحق لرئيس الجمهورية حل مجلس نواب الشعب وإجراء انتخابات تشريعية مبكرة. ومن ثم، فإن الأحزاب الموجودة حاليًّا لن يكون من مصلحتها حدوث ذلك السيناريو، خشية فقدان المقاعد التي فازت بها، وتجنبًا للدخول في انتخابات تشريعية جديدة تعتبر نتائجها في حكم المجهول، وهو ما يزيد الوضع تعقيدًا. ونتيجة لذلك ستسعى تلك الأحزاب بدورها لإحداث توافق حول تشكيل الحكومة لأسباب تكتيكية أكثر من اقتناعهم برئيس الحكومة ذاته أو خططه في حالة وجودها. وبناءً عليه، يعد تشكيل الائتلاف الحكومي في الموعد المحدد، وبدرجة توافق حزبي مرتفعة، بما يضمن استمراره لأطول فترة ممكنة، أكبر تحدٍّ أمام “الجملي”.
2- الحفاظ على الاستقلالية: في حين قد لا يعد ذلك تحديًا بالنسبة للنهضة أو “الجملي” ذاته، حيث إن الحركة هي التي رشحته، إلا أن ذلك يعد تحديًا بالنسبة لعملية التشكيل واستمرار الحكومة الائتلافية فيما بعد. حيث يسعى “الجملي” في أكثر من مناسبة للتأكيد على استقلاليته، ومن ثم استقلالية الحكومة القادمة عن حركة النهضة. وهي التأكيدات التي يسعى إلى اقترانها بالانفتاح على كافة التيارات والأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية، من خلال مرحلة إجراء المقابلات الأولية، وطرح الرؤى للوصول إلى تفاهمات.
3- الإجراءات الاستباقية للنهضة: حيث سعت حركة النهضة قبل الإعلان عن ترشيح “الجملي” إلى اتخاذ خطوات استباقية تستهدف من خلالها تمهيد الطريق أمام مرشحها لتسهيل عملية تشكيل الحكومة، ومن أهمها طرح “وثيقة تعاقد حكومي” مع أغلب الأحزاب والمؤسسات الوطنية، باعتبارها أرضية للمفاوضات وصياغة برنامج الحكومة المقبلة، إلا أن تلك الإجراءات قد تشوب استقلالية رئيس الحكومة الجديد، حيث استُبعدت بعض الأحزاب من ذلك النقاش، ومنها حزبا قلب تونس والدستوري الحر. كما أنها خلقت مناخًا لإثارة التجاذبات وطرح المزايدات الحزبية.
4- توزيع الوزارات السيادية: أعلنت حركة النهضة منذ البداية أن الوزارات السيادية الممثلة في الداخلية والعدل والمالية والدفاع سيتم إسنادها للمستقلين من الكفاءات الوطنية والشخصيات المستقلة منعًا للتحزب، وهو ما أكده “الجملي”. إلا أن هذا أثار شكوك العديد من الأحزاب، فقد يُعد مدخلًا لتعيين المستقلين المنتمين في الأصل إلى حركة النهضة من الصف الثاني والثالث من غير المعروفين إعلاميًّا، بما يضمن لها السيطرة على تلك الوزارات، وعدم خضوعها لسيطرة أي حزب آخر.
5- تراجع الثقة في النهضة: حيث ترفض العديد من الأحزاب المشاركة في ائتلاف حكومي يكون حزب “قلب تونس” عضوًا فيه مثل التيار الديمقراطي. إلا أن حالة الجدل التي أحدثتها النهضة بعد تصريحات “الغنوشي” بأن حزب قلب تونس لن يكون شريكًا في حكومة ائتلافية، وذلك بسبب تهم الفساد التي تواجه رئيس الحزب “نبيل القروي”، تمثل تناقضًا في موقف النهضة من قلب تونس، حيث سبق وتم التحالف معها لضمان صعود “الغنوشي” لرئاسة البرلمان، وهو ما أثار شكوك الأحزاب، وضاعف من هذه الشكوك اللقاء الذي تم بين “الجملي” ووفد من قلب تونس تضمن رئيس الحزب “نبيل القروي”. ومن ثم، فالتوقعات كبيرة بأن يتوسع التحالف البرلماني إلى تحالف حكومي بين الحزبين.
6- توسيع دائرة التحالفات: انطلاقًا من أن تشكيل أي حكومة جديدة يتطلب دعمًا من حزبين آخرين على الأقل حتى تحصل على الأغلبية البرلمانية، وهو ما يستدعي إقامة تحالفات مع الأحزاب الأخرى، الأمر الذي يحتاج إلى مدة طويلة من المفاوضات والتنازلات المهمة حول السياسات المتبعة وتوزيع الحقائب الوزارية، خاصة في ظل تمسك الأحزاب بمواقفها والتي يتبنى أغلبها أجندة أيديولوجية تختلف اختلافًا كبيرًا عن أجندة النهضة. وفي حين يعد تشكيل الائتلاف أمرًا مهمًّا فإن الإبقاء عليه سيعد المهمة الأصعب.
7- منع حالة الاستقطاب: حيث يرى البعض أن محاولات النهضة السيطرة على تشكيل الحكومة قد يثير المخاوف من عودة النقاش مجددًا حول: أيهما أفضل نموذج الحكم الإسلامي أم غير الإسلامي؟ وهو ما سيزيد من حشد الرأي العام ضد النهضة، وستتهم الحركة بكونها تسعى إلى السيطرة كليًّا على مؤسسات الدولة، وهو ما قد يضر بالحركة على كافة المستويات، حيث إنها لم تعد في المرتبة الثانية، وسيتم تسليط الضوء عليها بشكل كبير.
8- ارتفاع سقف التوقعات: تشير نتائج الانتخابات التشريعية التي انتهت بفوز حزب حركة النهضة بالمرتبة الأولى، مع تصاعد حجم القوى المرتبطة بالثورة، والمحسوبة على التجربة الديمقراطية ممثلة في كل من (التيار الديمقراطي، وحركة الشعب، وتحيا تونس، والحزب الدستوري الحر)؛ إلى أن ذلك يُعد دليلًا كبيرًا على أن المواطنين يعلقون الكثير من الآمال على الحكومة الجديدة المشكلة من الأحزاب التي تم انتخابها في البرلمان، بحيث تتولى معالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها تونس والتي تفاقمت خلال الفترات السابقة، من: ارتفاع معدلات التضخم، ومعدلات البطالة بالإضافة إلى تزايد المديونية. ومن ثم، فهناك ارتفاع في سقف التوقعات بقدرة الحكومة الجديدة على إحياء مسار الثورة التونسية لمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية، وتدهور حالة الخدمات العامة وانتشار الفساد الحكومي إلى جانب التهديدات الإرهابية.
9- محدودية الخبرة السياسية: في حين يعد “قيس سعيد” على درجة كبيرة من التوافق مع حركة النهضة التي دعمت وصوله إلى السلطة، إلا أن افتقاده للممارسة السياسية، إلى جانب تبنيه بعض المشروعات والتصريحات التي تعكس رؤية مثالية، قد يشكل عائقًا أمام إحداث درجة كبيرة من التفاهم بين الجانبين، أو على الأقل قد يخلق بعض نقاط الخلاف. ومن أبرز الأمثلة على ذلك برنامجه الذي تضمن تفضيل الديمقراطية المباشرة على الديمقراطية التمثيلية، وهو ما يضع الأحزاب السياسية والعمل الحزبي بشكل عام في موضع صعب. الأمر الذي قد يتكرر في مواقف أخرى، ويضاعف من ذلك أن الشرعية الانتخابية للرئيس تفوق شرعية البرلمان، حيث إن نسب التصويت لصالحه جاءت متفوقة على ما حصلت عليه الأحزاب مجتمعة في الانتخابات التشريعية الأخيرة، والتي أفضت إلى برلمان مشتت ومُقسّم، حيث لم يحصل أي حزب على أكثر من (25%) من المقاعد.
وختامًا، تشير التوقعات إلى أن احتمالات نجاح “الجملي” في تشكيل الحكومة الائتلافية تعد كبيرة في ظل حرص الأحزاب السياسية على إنجاح التجربة مع احتمالات تشكل ائتلاف حكومي وفقًا لمنهج المحاصصة الحزبية. وبصرف النظر عما سيئول إليه شكل ذلك الائتلاف، إلا أن الخطر الأكبر يتمثل في حرص النهضة على الإمساك بكافة الخيوط في يدها، ومدى قدرتها على مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تنتظرها، بالإضافة إلى التهديدات الإرهابية، الأمر الذي يثير تساؤلات حول المدى الزمني المتوقع لاستمرار ذلك الائتلاف حال تشكله ودرجة تماسكه.
المصدر : موقع “مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة”