التدخل الروسي بليبيا.. واشنطن “تستنفر” دبلوماسيا
إسطنبول ــ الرأي الجديد (وكالات)
يتوجه النزاع في ليبيا من أزمة بين أطراف داخلية متصارعة على السلطة والنفوذ، ومدعومتين من أطراف إقليمية، إلى صراع بين أكبر قوتين عسكريتين في العالم.
فالولايات المتحدة الأمريكية، التي لطالما كان موقفها متخبطا بين دعم حكومة الوفاق الليبية، المعترف بها دوليا، وتأييد قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، توشك الآن على حسم موقفها بعد تراكم الأدلة لديها على تزايد تورط روسيا، عبر شركاتها الأمنية، في القتال إلى جانب حفتر، في جنوب العاصمة الليبية طرابلس.
الولايات المتحدة اتهمت روسيا بشكل مباشر بمحاولة “استغلال الصراع ضد إرادة الشعب الليبي”، خلال لقاء وفد من الخارجية الأمريكية مع وفد من حكومة الوفاق الليبية، برئاسة وزيري الداخلية فتحي باشاغا، والخارجية محمد الطاهر سيالة، بواشنطن، في 15 نوفمبر الجاري.
ويأتي ذلك وسط تواتر التقارير الإعلامية الأمريكية، على غرار “واشنطن بوست”، و”نيويورك تايمز”، وبلومبرغ، عن ازدياد مشاركة مرتزقة شركة “فاغنر” الروسية، في القتال جنوبي طرابلس.
وبعد أن تحدث الإعلام الغربي عن 200 أو300 عنصر من مقاتلي فاغنر في ليبيا، قالت وكالة بلومبرغ، إن عددهم وصل في سبتمبر الماضي، إلى 1400 جندي بينهم 25 طيارا، في حين تحذر صحيفة أخرى من أن أعدداهم قد تصل قريبا إلى الآلاف.
وهذه التقارير وغيرها تثير القلق الشديد للأجهزة الأمنية الأمريكية، لأن المسألة أصبحت أكبر من ليبيا نفسها، بل “معركة يمكنها أن تؤدي في النهاية إلى إعادة تغيير الوضع الاستراتيجي في المنطقة الوسطى من البحر المتوسط”، بحسب صحيفة “لوموند” الفرنسية.
فمن المعروف أن موسكو تسعى منذ الحرب الباردة (1945-1990)، لإقامة قاعدة بحرية في جنوب المتوسط، وأعادت في السنوات الأخيرة إحياء “أسطول البحر الأبيض المتوسط”، وبعد أن أقامت قاعدة بحرية لها في طرطوس السورية، شرق المتوسط، تمثل ليبيا هدفا استراتيجيا للطموحات الروسية في مواجهة الدرع الصاروخية لحلف شمال الأطلسي “الناتو”.
واشنطن تستنفر دبلوماسيتها
وبشكل سريع، تحركت واشنطن، نحو أحد أبرز داعمي حفتر.. “الإمارات”، حيث عقد وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، لقاء مع نظيره الإماراتي عبد الله بن زايد، في 22 نوفمبر، و”تناقش الجانبان حول الوجود الروسي في ليبيا، والحاجة الملحة لخفض التصعيد، واللجوء للحل السياسي”، بحسب تغريدة للسفارة الأمريكية في ليبيا.
لكن اللقاء الذي لا يقل أهمية، ذلك الذي جمع في 24 نوفمبر، وفدا أمريكيا، يضم نائبة مستشار الأمن القومي الأمريكي فيكتوريا كوتس، والسفير الأمريكي في ليبيا ريتشارد نورلاند، مع حفتر، في مكان لم يعلن عنه (على الأغلب في أحد مقرات حفتر في شرق ليبيا)، وتم خلاله بحث “الخطوات اللازمة لوقف أعمال العنف والقتال في البلاد، وإيجاد حل سياسي للصراع”.
ولم ينس الوفد الأمريكي الإعراب عن مخاوفهم من “استغلال روسيا للصراع في ليبيا على حساب الشعب الليبي”، وهي نفس العبارة التي استخدمتها الخارجية الأمريكية في لقائها بوفد حكومة الوفاق في واشنطن.
وجاء هذا اللقاء بعد 3 أيام من إسقاط قوات حفتر، لطائرة أمريكية مسيرة، في منطقة طرابلس، حيث أوردت وكالة أسوشييتد برس الأمريكية، عن مسؤول عسكري تابع لحفتر، لم تكشف عنه، اعتذارهم لأفريكوم (القيادة الأمريكية في إفريقيا) عن إسقاط الطائرة، واقتراحهم التنسيق لاحقا من أجل تجنب وقوع حوادث مماثلة في المستقبل.
كما التقى السفير الأمريكي برئيس حكومة الوفاق الليبية فائز السراج، الإثنين، “وبحثا وقف الأعمال العدائية حول طرابلس، وإيجاد حل سياسي، في ظل تصاعد التدخل الروسي”، بحسب تغريدة لم تحدد مكان اللقاء.
وتبدو لهجة حفتر، مع واشنطن مختلفة مع تلك المستعملة مع روما، عندما أسقطت قواته طائرة إيطالية مسيرة بالقرب من مدينة ترهونة (90 كلم جنوب شرق طرابلس)، في 20 نوفمبر.
نفي روسي يواجه أدلة مثبتة
وإسقاط طائرتين مسيرتين غربيتين، في ظرف يومين، لأول مرة منذ بدء هجوم حفتر على طرابلس في 4 أبريل/نيسان الماضي، يوحي أن جهة مسلحة ومدربة بشكل جيد، دخلت ميدان المعركة مؤخرا، بشكل قد يغير موازينها، وإذا كانت هذه الجهة شركة أمنية روسية فهذا لا شك يعتبر نبأ مزعجا لواشنطن وحلفائها الغربيين.
لكن أقوى هجوم شنه مسؤول أمريكي على روسيا، كان على لسان ديفيد شينكر، مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى، الذي اتهم موسكو، الأربعاء، بنشر “قوات بأعداد كبيرة لدعم الجنرال الليبي خليفة حفتر”، وزعم لأول مرة أن “روسيا تنشر الآن أفرادا يرتدون الزي الرسمي هناك”، بمعنى أن روسيا لم تكتف بالتحاق مرتزقة فاغنر بجبهات القتال بل أرسلت قواتها النظامية لحسم المعركة في طرابلس.
هذه الاتهامات الخطيرة سرعان ما جاءها رد من الرئاسة الروسية، على سان المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، الذي وصفها بأنها “أخبار زائفة لا أساس لها من الصحة”.
لكن اعتراف المتحدث باسم قوات حفتر، أحمد المسماري، بوجود جنود روس على الأرض يدحض هذا النفي.
حيث قال المسماري، لقناة محلية موالية لهم، قبل أيام، “هناك طاقم أو طاقمين من العسكريين الروس مهمتهم فنية، واستجلبوا لغرض صيانة المعدات والآليات العسكرية فقط”.
كما أن قوات حكومة الوفاق نشرت أكثر من مرة صورا وفيديوهات لأغراض شخصية (حافظة أوراق أو هاتف محمول) خلّفها مرتزقة روس على عجل أثناء انسحابهم من مواقع القتال.
وتمكنت قوات الوفاق أيضا من الوصول إلى ترددات أجهزة راديو يستعملها مرتزقة فاغنر، وسماع محادثاتهم باللغة الروسية، بحسب صحف أمريكية.
ونشرت وسائل إعلام أمريكية تقارير ميدانية عن أساليب قتال المرتزقة الروس التي تختلف كثيرا عن طريقة قوات حفتر في ميدان المعركة.
وتقول صحيفة “واشنطن بوست”، في أحد تقاريرها الإعلامية “المقاتلون الليبيون من كلا الجانبين غير منضبطين، وغالبا ما يطلقون النار بشكل مفرط وعشوائي على الأهداف، ويقول مقاتلو القوات التابعة لحكومة الوفاق إن الروس على النقيض من ذلك، ينتقلون في مجموعات صغيرة، ويهاجمون من مواقع جانبية، معظمهم في الليل أو في ساعات الصباح الباكر، إذ يحافظ الروس على ذخيرتهم، ويطلقون النار في لحظات مثالية بدقة”.
صحيفة نيويورك تايمز، من جهتها أشارت إلى أن “الجرحى الذين كانوا ينقلون إلى مستشفى العزيزية الميداني، كانوا يحضرون بجروح مفتوحة وأطراف مهشمة، وهم ضحايا قصف مدفعي عشوائي، إلا أن عمال الإغاثة الصحية باتوا يرون شيئا جديدا، ضحايا ينقلون برصاص يضرب الرأس، ويقتل مباشرة، ولا يغادر الجسد”.
أما موقع “ميدوزا” الروسي للتحقيق، الذي يتخذ من لتوانيا مقرا له، فوثّق مقتل 35 روسيا في ليبيا، في قصف جوي لطائرات الوفاق، بناء على شهادة مقاتلين وعائلات الجنود.
أما الدليل القوي الذي تمتلكه قوات الوفاق، عن تورط روسيا في الصراع بليبيا، فيتمثل في مواطنين روسيين اثنين محتجزين لديها، وقال وزير داخلية الوفاق لواشنطن بوست، إن “المواطنين الروسيين اعتقلوا في جويلية الماضي، للاشتباه في محاولتهما التأثير على الانتخابات البلدية المقررة حينها، وجمع معلومات لصالح قوات حفتر”.
وأشار باشاغا، إلى أنهما “قدّما اعترافاتهما”، دون الكشف عن تفاصيل هذه الاعترافات، التي ليس من المستبعد أن يكون الوزير الليبي أطلع واشنطن عليها، مما استدعى خارجيتها للتحرك بهذه السرعة المفاجئة.
هل بإمكان فاغنر تغيير مجرى المعركة؟
ينتشر مرتزقة فاغنر، في الخطوط الخلفية لجبهات القتال الأمامية جنوبي طرابلس، وبشكل أدق من بلدتي السبيعة وسوق الخميس امسيحل شرقا، إلى مدينة العزيزية غربا، على طول خط عرضي يفصله عن شمال طرابلس 45 كلم.
وأقصى تواجد سُجل لعناصر فاغنر، بالقرب من خطوط المواجهة الأمامية، كان في بلدة سوق السبت (35 كلم جنوب طرابلس بالقرب من المطار القديم) شمالا، ومنطقة الهيرة جنوبا.
كما أنهم يتمركزون حاليا في قاعدتي الجفرة (وسط) والوطية (140 كلم جنوب غرب طرابلس)، بحسب حكومة الوفاق.
يشار أن قوات الوفاق حققت انتصارات مهمة على جبهتي السبيعة (45 كلم جنوب طرابلس) وسوق الخميس امسيحل (50 كلم جنوب طرابلس)، في سبتمبر/أيلول الماضي، وكان من شأن هذه الانتصارات خنق خطوط الإمداد نحو قوات حفتر في منطقة المطار القديم والمحاور المتفرعة عنها.
ورغم أن مرتزقة فاغنر، تعرضوا لضربة جوية قوية في سوق السبت (جنوب المطار القديم) عندما قتل منهم ما بين 6 إلى 35 عنصر، في سبتمبر الماضي، إلا أنه مع مطلع أكتوبر/تشرين الماضي، بدأت موازين القوى تتغير.
غارات كثيفة بطائرات بدون طيار شنت على قوات الوفاق بالمنطقة الغربية التابعة لحكومة الوفاق التي يقودها اللواء أسامة الجويلي، بالسبيعة، مما أدى إلى سقوطها في يد قوات حفتر.
وانتقلت قوات حفتر مباشرة من السبيعة إلى “العزيزية” غربا، مركز منطقة ورشفانة وسهل الجفارة، ورغم إعلان قوات حفتر سيطرتها الكاملة على المدينة، إلا أن مراسل الأناضول في طرابلس، أكد أن “الجزء الأكبر من العزيزية تحت سيطرة قوات الوفاق، بينما تسيطر قوات حفتر على أجزاء من منطقة التوغار، التابعة للمدينة”.
وترك قناصة فاغنر، أثرهم في معركة العزيزية، التي امتدت إلى سوق الخميس، حيث تمكنت قوات حفتر من التقدم وإحكام سيطرتها عليها، كما أعلنت سيطرتها على منطقة الهيرة على الطريق بين العزيزية ومدينة غريان (100 كلم جنوب طرابلس).
وتطور نشاط وفعالية مرتزقة فاغنر، يعني أن أعدادهم تضاعفت من عشرات العناصر إلى مئات وقد تصل قريبا إلى الآلاف، ودورهم حاليا يقتصر على القنص، والمدفعية، وتسيير طائرات بدون طيار، وقيادة طائرات سوخوي22، التي يملكها حفتر، لكن ليس مستبعدا أن يصبح التدخل الروسي صريحا وكبيرا على غرار ما يجري حاليا في سوريا.
وهذا ما توصل إليه الجويلي، عندما صرح لنيويورك تايمز، “من الواضح أن الروس ألقوا بثقلهم في هذا النزاع”.
كما قال الجويلي، لواشنطن بوست، إن “دخول القوات الروسية إلى الحرب غيّر ساحة المعركة (..) وجودهم يعقد الأمور بالنسبة إلينا”.
لكن التساؤل الذي يطرح نفسه، هل ستترك الولايات المتحدة الأمريكية، ليبيا للدب الروسي لالتهامها شيئا فشيئا، أم أنها ستلقي بثقلها هي الأخرى لوأد هذا التدخل قبل أن يتغول في المنطقة.
وكالة الأنباء التركية (الأناضول)