الصين تتطلع إلى الهيمنة.. هل يستعد “الجيش الأحمر” لانتشار عالمي؟
بيكين ــ الرأي الجديد / محمد السعيد
تتواصل الاستعدادات على قدم وساق في ساحة تيانانمن، أكبر ميادين العاصمة الصينية، استعدادًا لإحياء الذكرى الثانية والعشرين لتأسيس جمهورية الصين الشعبية. تقوم مكبرات الصوت بإذاعة موسيقى ومارشات عسكرية، بينما يؤدي الجنود والطلاب تدريباتهم النهائية استعدادًا للعرض، في حين تتوافد السيارات الفارهة السوداء على البناية الكبرى المخصصة لمجلس نواب الشعب، حاملة قادة البلاد والحزب الشيوعي الحاضرين بأكملهم، كعادتهم في مثل هذه المناسبة، باستثناء شخص واحد فقط يفتقده الجميع اليوم، لين بياو وزير الدفاع، والذي كان نائبا للزعيم ماو تسي تونغ، وخليفته المعلن، والرجل الثاني في البلاد.
قبل ذلك بأيام قليلة، وتحديدًا في 12 (سبتمبر/أيلول) 1971، أقلعت طائرة من طراز ترايدنت من مطار بيداهي، على بُعد حوالي 240 كم شرقي العاصمة بكين، قاطعة الحدود مع منغوليا، قبل أن تسقط فجأة لتتحطم تمامًا، ولتعثر فرق الإنقاذ، بين حطام الطائرة، على بقايا بذلات عسكرية ووثائق ممزقة وأسلحة وجثث متفحمة. بعدها سرعان ما تم الإعلان عن مصرع لين بياو، وعدد من أفراد عائلته ومساعديه، في عملية لا تزال أحد أكبر الألغاز في عالم التصفيات السياسية في التاريخ.
تكشفت الأمور تِباعًا بعض الشيء عبر معلومات تم تسريبها على مدار السنوات التالية، كان لين بياو قد فشل للتو في تنفيذ خطة انقلاب عسكري للاستيلاء على السلطة واغتيال ماو إثر خلافات بين الرجلين، على إثر اتخاذ ماو قرار التقارب مع الولايات المتحدة، بينما كان بياو يرغب في تقارب أكبر مع السوفيات. وبعد الفشل اتخذ قراره بالفرار إلى موسكو، قبل أن تتحطم طائرته في ظروف غامضة.
منذ بدايات تأسيس الجيش الأحمر عام 1927، بعد انتفاضة نانتشانغ، تم التأكيد على تبعية الجيش للحزب الشيوعي كركيزة أساسية للحكم الجديد في الصين. وعلى مدار العقود التالية، لم يمثل الجيش الأحمر خطرًا كبيرًا يهدد قادة الحزب، بسبب الولاء الأيديولوجي الصارم الذي تم فرضه داخل صفوفه، حتى إنه لعب لفترات طويلة دور ذراع التطهير التي استخدمها الحزب للتخلص من منافسيه السياسيين، إلى درجة أن ماو استخدم لين بياو نفسه للتخلص من خليفته ليوتشاوشي الذي كان يشغل منصب الرئيس، ومؤيديه، قبل أن يجمد ماو منصب رئيس الجمهورية أربع سنوات كاملة، ويصعد بياو كخليفة له، نائبًا أوحد لرئيس الحزب الشيوعي الصيني.
أدخل بياو إصلاحات عسكرية كبيرة على تسليح وتدريب الجيش الصيني، ما مهد طريقه للتدرج في صفوف الحزب الحاكم، قبل أن يسعى للانقلاب على ماو. لذا فإن تجربة بياو أورثت مخاوف لدى القادة الحزبيين من أن جيشًا أكثر احترافية يعني بالضرورة الخروج على سيطرة الحزب، أو محاولة فرض سياسات بعينها على أجندته. وفي الشهور والسنوات التالية، شن ماو ورفاقه حملة تطهير واسعة في صفوف الجيش الصيني، استهدفت تصفية القادة والضباط القريبين من بياو، بهدف استعادة زمام الأمور داخل الجيش.
اكتشف ماو آنذاك أنه يعاني من القوة المتزايدة للقادة العسكريين المحليين، وإمكانات الصراع بينهم أو مواجهة السلطات المركزية، لذا قام بعقد اجتماع مع رئيس الأركان الجديد، ليشير على ماو باستبدال جميع القادة وكبار الضباط في المناطق العسكرية الثمانية. قام ماو بالاستجابة للنصيحة بالفعل عبر تعيين قادة جدد، ولم يسمح لأي منهم باستقدام موظفين موالين لهم سوى في وظائف الخدمات مثل السكرتارية والطهي والحراسة.
أفرزت التكتيكات الجديدة نتاجًا جيدًا، فعلى مدار العقود التالية لم تحدث أي اضطرابات أو تمردات عسكرية إقليمية، حتى مع مرور البلاد خلال فترات مضطربة مثل وفاة ماو عام 1976، أو حتى حادث تيانانمن عام 1989. وبدا أن القيادة الصينية نجحت في تقويض التهديدات المحتملة من طرف المؤسسة العسكرية، من خلال إجراء تعديلات متفرقة واسعة النطاق على النخبة العسكرية العليا على مر السنين، وهو ما يجد الرئيس شي جين بينغ اليوم نفسه مضطرًا لعمله من جديد، على نطاق واسع، وبطريقة تشبه ما فعله ماو تقريبًا، ولكن لأسباب مختلفة جذريًا.
“غولد ووتر نيكولز”: الإصلاح على الطريقة الأميركية
لا شيء يمكن أن يطلعنا على عمق الفجوة بين نظرة الصين ونظرة الغرب إلى الحرب من مقارنة خاطفة بين كتابات المنظر الحربي الأبرز لكلا المعسكرين، رغم وجود فجوة زمنية بينهما تمتد عبر أكثر من ألفي العام. بالنسبة إلى كارل فون كلاسفيتز (1780-1831م)، الخبير العسكري البروسي، فإنه “هناك العديد من الطرق لتحقيق الأهداف، ولكن بالنسبة للأهداف السياسية تبقى الوسيلة الوحيدة هي القتال، حيث يخضع كل شيء لقوة السلاح”. أما صن تزو (551-496 ق.م)، المنظر العسكري الأشهر في تاريخ الصين، فيرى أن “خوض مائة حرب، حتى لو انتصرت فيها جميعًا، ليس بالقرار الحكيم، ولكن الحكمة تكمن دومًا في كسر مقاومة العدو دون قتال”. لا عجب إذن أن مفاهيم مثل “شنزان”، التي تعني “الحذر من الحرب”، هيمنت لقرون طويلة على التفكير العسكري الصيني، وأورثت البلاد نظرة دفاعية في المقام الأول في التعامل مع الأمور العسكرية.
إضافة إلى ذلك، ونتيجة المساحة الشاسعة للأراضي الصينية، فإن الصين أولت الكثير من الاهتمام لقواتها البرية، وأهملت إلى حد كبير القوة البحرية، إلى درجة دفعت هيغل أن يصف البحر بالنسبة للصين على أنه مجرد “نهاية لحدود اليابسة”. لم تكن إستراتيجية الصين العسكرية عبر معظم تاريخها أكثر من تنويعات على خطة ثابتة، تشكيل جيش بري قوي وهائل العدد يمكِّنها من التصدّي لغزو قوة متفوقة عسكريًا مثل المغول أو الهان أو حتى الاتحاد السوفياتي. ومع هيمنة الاقتصاد الزراعي على الصين زادت أهمية مسألة الحفاظ على الأراضي، وهو ما عنى أن الإمبراطورية الكبرى سوف تواصل إدارة ظهرها إلى البحر.
ولكن هذه النظرة تغيرت خلال العشرين عامًا الأخيرة، مع النشاط الاقتصادي الصيني وتوسع المصالح الاقتصادية لبكين في آسيا وأفريقيا، وارتباط النمو الاقتصادي للبلاد بأمن الطاقة، وضمان حرية الملاحة في الممرات البحرية وعلى الأخص بحر الصين الجنوبي والشرقي، حيث عمدت الصين خلال العقدين الماضيين إلى تأسيس ترسانة بحرية قوية، تستهدف فيها أسطولًا يزيد عدده على 340 سفينة بحلول عام 2020 يضم حاملتي طائرات، وتعزيز قدرات الدفاع الصاروخي الخاصة بها، إضافة إلى تطوير قواتها الجوية.
وصل الرئيس تشي إلى السلطة في خضم هذه الفورة من التسليح العسكري الصيني. وسرعان ما أدرك أنه رغم ضخامة الجيش الصيني، والطفرة التي يحققها على مستوى التسليح، فإنه تحول إلى منظمة راكدة يرتع فيها الفساد، والأهم أن هيكله الإداري والقيادي متعدد الطبقات، والمفتقر إلى التلاحم اللازم بين مختلف الأسلحة والوحدات، صار مع الوقت أبعد ما يكون عن مواكبة التحديات، وأكثر تخلفًا عن معايير خوض الحروب الحديثة.
كان الجيش الصيني لا يزال مُشكلًا على نمط الجيوش السوفياتية السائد خلال فترة الحرب العالمية الثانية، وبدا أنه يواجه نفس الأزمة التي واجهها الجيش الأميركي خلال حقبة الحرب الباردة، مع ظهور الجيل الجديد من الحرب الذي يعتمد بشكل كبير على القدرة على تنسيق العمليات المشتركة، وهي أزمة يساهم تسليط الضوء عليها في شرح موقف تشي.
وجد الجيش الأميركي، آنذاك، أنه من الصعب للغاية التنسيق بين الجيش، أي القوات البرية، والقوات البحرية والجوية عند التخطيط أو إجراء العمليات، أو الحصول على العتاد، على الرغم من أن الأفرع الثلاثة الرئيسة للجيش، القوات البرية والبحرية والجوية، تم دمجها تحت سلطة وزارة دفاع منذ عام 1947، وذلك بسبب استمرار المنافسات الحادة بين مختلف الخدمات التي عرقلت أداء الجيش، لدرجة أن القائد الأكثر شهرة للقوات الجوية الأميركية، الجنرال كورتيس ليماي، نسب إليه القول “السوفيات هم خصمنا، أما عدونا فهي البحرية”.
الأسوأ من ذلك، أن فروع الخدمة القوية -في الجيش- اغتصبت كثيرًا من السلطة التنفيذية للقيادة الميدانية، فكان من الشائع أن يجد القائد العام القوات قد انتقلت إلى مناطق مسؤوليتها أو خارجها بناء على طلب من مقر الخدمة في واشنطن، وأحيانًا حتى بدون علم القائد العام للمنطقة. وساهم هذا القصور في خطوط القيادة في الفشل الكارثي لعدة عمليات عسكرية، على رأسها عملية “مخلب النسر”، وهي محاولة عام 1980 لإنقاذ الرهائن الأميركيين في إيران، بسبب عدم التنسيق الفعال بين الجيش والقوات البحرية.
دفعت هذه المشكلة إلى الكونغرس لصياغة تشريع لإعادة تنظيم الجيش الأميركي مطلع الثمانينيات، وهو القانون الذي أطلق عليه قانون “غولد ووتر نيكولز”، بهدف إصلاح سلسلة القيادة التنفيذية للجيش. قام القانون بالتقليل من صلاحيات الخدمات لتركز على أعمال التدريب والتطوير، كما قام بتعزيز سلطة وزير الدفاع على كل فروع الجيش، وهو ما ظهرت نتائجه سريعًا في صورة أداء قيادي مميز تنسيقيًا خلال حرب الخليج وما بعدها. ورغم أن حديثنا لا يدور عن الجيش الأميركي، فإن التحديث الهيكلي الذي يقوده تشي اليوم في الجيش الأحمر الشيوعي، هو للمفارقة أشبه ما يكون بالتحديث الذي خاضه الجيش الأميركي قبل أربعة عقود، وهو في جوهره، كما أسلفنا، انتقال من النمط السوفياتي للجيوش التي تركز على القوات البرية، إلى نمط أقرب لطريقة عمل الجيوش الغربية التي تركز بشكل أكبر التكامل بين الوحدات وتحسين أداء العمليات المشتركة.
إعادة الهيكلة
كانت مشكلات الجيش الصيني كما لحظها تشي تدور حول عدة أمور: أولها نظام القيادة غير الفعال “متعدد الطبقات” الناجم عن ضعف سيطرة اللجنة العسكرية المركزية “سي إم سي”، القيادة العسكرية المزدوجة في كل من الحكومة والحزب الشيوعي والمسؤولة عن الإشراف على الجيش، والمشكلة من 11 شخصًا ويرأسها تشي نفسه، على أقسام الجيش الأربعة: الموظفين والشؤون السياسية واللوجستيات والأسلحة، حيث يقتصر دورها على وضع الإستراتيجية العامة، في حين تعاني العمليات التشغيلية من تداعيات الانقسام طويل الأمد بين القوات المقاتلة “المشتبكة مع العدو”، والعمليات الأخرى “اللوجستيات والنقل وما إلى ذلك”.
أما ثاني هذه المشكلات، وربما أكثرها وضوحًا، فتمثلت في السيطرةالمطلقة للقوات البرية على أقسام الجيش الأربعة، حيث لم يكن يتم استدعاء الوحدات الأخرى، أي القوات البحرية والجوية، إلا في أوقات الحرب التي تخضع فيها بشكل كامل لإشراف القوات البرية، وهي قوات لا تمتلك مقرًا خاصًا ولكنها تستخدم مقرات الأقسام الأربعة كمقرات خاصة بحكم الواقع. ثم هناك ضعف قدرات الجيش الصيني على القيام بالعمليات المشتركة التي تتطلب مشاركة الوحدات البحرية أو الجوية مع القوات البرية، بحكم الثقافة العسكرية طويلة الأمد التي تهمش من دور هذه الوحدات، وأخيرًا هذا التضخم الهيكلي في صفوف الجيش، ووصوله لعدد 2.3 مليون شخص، يتركز معظمهم في الوحدات البرية، في حين تعاني أسلحة الجو والبحر والصواريخ من نقص العمالة وبالتالي القدرات.
بناءً على هذا التشخيص، شرع تشي في عام 2015 في تنفيذ خطته للإصلاح الهيكلي، خطة أعلن عنها خلال الاجتماع الثامن عشر للجنة المركزية للحزب الشيوعي في عام 2013، وتضمنت العديد من الإجراءات، بدأت بتحديد المسؤولية عن الجيش حصرًا كأحد اختصاصات اللجنة العسكرية المركزية، التي كلفت بإدارة الخدمات العسكرية ومسارح العمليات مباشرة، بدلًا من ممارسة دورها القيادي من خلال الإدارات الأربعة السابقة، والتي تم دمجها مع 11 وكالة أخرى تحت القيادة المباشرة للجنة المركزية، وباتت هذه الهيئات الـ15 في الوقت الراهن تقف جميعًا على نفس المستوى من النفوذ، على الأقل من الناحية النظرية.
من بين هذه الوكالات الـ 15، تتولى ثلاث وكالات “لجنة التفتيش التأديبية” و”لجنة السياسة” والقانون و”مكتب إدارة مراجعة الحسابات”، مسؤولية الإشراف العسكري وأنشطة مكافحة الفساد، وجميعها لجان مشتركة بين الحزب والجيش لضمان سيطرة الحزب. شملت التغييرات أيضًا تقليص الهيمنة الكاملة للقوات البرية، عبر إنشاء مقر خاص لها أسوة بالقوات البحرية والجوية، لتتحول المقرات السابقة للجيش إلى مراكز عمليات مشتركة تخضع لإشراف اللجنة العسكرية المركزية وقيادة الجيش. ورغم أن كبار ضباط القوات البرية لا يزالون يسيطرون على مواقع القيادة في هذه الوكالات، فإنه من المرجح أن يتم اختيار قيادات من الوحدات الأخرى، في أعقاب انعقاد المؤتمر التاسع عشر للحزب المقرر عقده في (سبتمبر/أيلول) من العام الحالي.
لم تقتصر الأمور على ذلك فحسب، إذ قام تشي أيضا بترقية فرق المدفعية الثانية “الصواريخ”، والتي كانت خاضعة لقيادة القوات البرية، إلى خدمة خاصة مستقلة توازي أفرع الجيش الثلاثة، وأسندت إليها إدارة إمبراطورية الدفاع الصاروخي المتوسعة في البلاد، بما يشمل الصواريخ التقليدية والنووية. كما تم استحداث قوة الدعم الإستراتيجي التي تم ترقيتها مباشرة إلى مستوى خدمة أو سلاح كامل، على قدم المساواة مع الأفرع الأربعة، وتتولى الوحدة الجديدة مهام الحرب الإلكترونية وحروب الفضاء. وتم زيادة تمويل هذه العمليات بنسبة 30%، وأسوة بالولايات المتحدة تم تقليص أدوار أسلحة الخدمات لتتولى فقط مهام التدريب والتطوير.
على مستوى التوزيع الميداني للجيش، تم التخلي عن التقسيم القديم للبلاد إلى سبع مناطق، لصالح تقسيم جديد أكثر مركزية يضم خمس مناطق فقط “شمالية وجنوبية ومركزية وشرقية وغربية”، مع خطة لتخفيض عدد الجيش ليصل إلى مليونين فقط بحلول عام 2020. وقد خضع الجيش الصيني لموجات تقليص متتالية منذ الثمانينيات، تم خلالها خفض أعداد الجيش ثلاث مرات: مليون شخص في عام 1985، و 500 ألف في عام 1997، و 200 ألف في عام 2003. في حين تستهدف الخطة الجديدة تسريح 300 ألف جندي وضابط، مع اتجاه لإلغاء ألوية بأكملها من القوات البرية وتقليص أعداد الكثير من الألوية الأخرى، وإعادة هيكلة 84 وحدة من أجل تقليص تكلفتها، وتحسين قدرتها على القيام بالعمليات المشتركة. كما يخطط تشي أيضًا لتغيير اتجاهات التجنيد العسكري، بما يشمل قبول عدد أقل من الطلاب بنسبة 24% في برامج الدراسة المتعلقة بالقوات البرية في المدارس العسكرية، وهو ما حدث بالفعل في عام 2016 مقارنة بعام 2015. في حين سيزيد الطلاب الدارسين للطيران والصواريخ والبرامج البحرية بنسبة 14%، بينما سينمو عدد طلاب البرامج العسكرية الفضائية والرادارات والطائرات بدون طيار بنسبة 16%.
خارج الحدود
رغم أن الفضل الأكبر في خطة التطوير العسكري يعود إلى تشي، إلا أنه لا يمكننا فصل هذه الجهود عن سياقها التاريخي القريب، حيث أشارت المسودة الدفاعية الصينية الصادرة عام 2008، التي تحدد لهجة التوجهات العسكرية الصينية مستقبلًا، لرغبة بكين في المشاركة بفاعلية فيما عرفته بأنه “العمليات العسكرية غير الحرب”، والتي تشمل الاستجابة للكوارث، والبحث والإنقاذ، وعمليات مكافحة القرصنة، والعمليات الطبية. كانت هذه هي أوراق “الدبلوماسية الخضراء” العسكرية، التي عزت الصين فاعلية الانتشار العالمي الأميركي إليها، وقد بدأت الصين بالفعل خطوات نحو تأسيس انتشار مماثل، ففي عام 2007، أطلقت البحرية الصينية سفينة طبية عملاقة جائلة، رغم أن الصين لم يكن لها آنذاك أي تواجد بحري خارجي.
صارت هذه الرؤية أكثر وضوحًا في الورقة الدفاعية الصادرة عام 2015 في عهد تشي، والتي نصت على أن الهدف النهائي هو تحويل دور الجيش بالكامل، وإعادة توجيه أفرعه وتوسيع دوره بما يشمل حماية المصالح الصينية في الخارج، وحددت الورقة هذه المصالح في “الطاقة والموارد، وخطوط الاتصالات البحرية الإستراتيجية، والأصول الخارجية”. كان ذلك يعني تحولًا جذريًا من نموذج الصين المتمركزة حول نفسها، الملتزمة بعدم التدخل، نحو سياسة تتماشى مع سياسة القوى العالمية المستخدمة لنفوذها العسكري في الخارج كأداة فعالة لتأكيد نفوذها الشامل، خاصة مع تزايد أنشطة الإرهاب والقرصنة التي تهدد المصالح المتوسعة للصين.
في (ديسمبر/كانون الأول) من العام 2016، تم إقرار قانون الإرهاب لأول مرة في الصين، مفسحًا المجال أمام بكين للمشاركة في عمليات مكافحة الإرهاب في الخارج، بموافقة مجلس الدولة، أي مجلس الوزراء واللجنة العسكرية المركزية. ومثلت هذه التعديلات اللائحية، جنبًا إلى جنب مع التعديلات الهيكلية السابق الإشارة إليها، أساسًا لجيش صيني أكثر تدخلًا، وأكثر التزامًا أيضًا تجاه نمط العمليات المشتركة المرتكزة على كل الأفرع، والمنخرطة في الأنشطة العابرة للحدود أكثر من تركيزها على قضايا الأمن والدفاع الداخلي.
أعاد تشي تصميم الجيش الصيني بما يتفق أيضًا مع خطته الضخمة المعروفة باسم “الحزام والطريق”، والتي تتطلب ترتيبات أمنية كافية لتأمين التجارة الصينية خلال مواقع الاضطرابات المعروفة مثل أفغانستان وغرب باكستان. ويأتي تركيز تشي على الحصول على حاملات طائرات بهدف تأمين الطرق البحرية الرئيسية التي تقع تحت الحزام والطريق، ضمن إطار هذه الخطة أيضًا، ولكن إنفاذ تحول بهذا الحجم لا يمكن اعتباره أمرًا هينًا على الإطلاق. وهو توجه يهدد بإغضاب جيران الصين ورفاقها الدوليين، ويخاطر بتحول صورتها كـ”شريك سلمي” للدول المتورطة في النزاعات.
منذ عهد دنغ شياو بينغ أواخر الثمانينيات، حرصت الصين على طمأنة العالم حول سلمية طموحاتها الاقتصادية، وامتناعها عن التدخل العسكري المباشر، على الرغم من نشاطها في بيع الأسلحة، ولكن هذه المحرمات تتآكل باضطراد، حيث شاركت الصين أولًا في عمليات الأمم المتحدة لمكافحة القرصنة، وهي اليوم تقوم بدور أكثر جدية في بحار جنوب وشرق الصين. وقد وفرت هذه التدخلات الإقليمية، بدورها، حافزًا للدول المجاورة، مثل اليابان، لموازنة نشاط بكين، إلا أن مخاطر الخطة تتجاوز ذلك بكثير، وصولًا إلى أمور تتعلق بالداخل الصيني نفسه، تعيد إلى الأذهان ذكريات ماو من جديد.
“الجيش الأحمر”: التطهير الثاني
رسخت تجربة لين بياو مخاوفًا متوارثة، لدى قادة الحزب الشيوعي، من أن جيشًا حديثًا أكثر كفاءة يعني فرصة أكبر للخروج على سيطرة الحزب. لذا، فإنه في الوقت الذي يشرع فيه تشي في خططه الموسعة لتحديث الجيش، فإنه يحرص على تطبيق نفس وصفة ماو القديمة لتعزيز السيطرة: الإطاحة بالنخبة الحالية للجيش، وتصعيد نخبة جديدة موالية له في صفوفه.
منذ بداية خطة التحديث، قام تشي بتطهير 52 قيادة عسكرية على الأقل من كبار قادة الجيش الصيني بتهم تتعلق بالفساد، ضمن عملية إعادة تشكيل واسعة النطاق للمناطق والإدارات والخدمات. ولكن الخطوة الأكبر التي قام بها تشي حقًا هي إقدامه على إزالة كل من جو بوكسيونغ وشو كايهو، النائبين السابقين لرئيس اللجنة العسكرية المركزية.
سيطر جو بوكسيونغ وشو كايهو على الجيش الصيني لمدة عقد من الزمان، في الفترة بين عامي 2002 و2012، وكانت الترقيات بين كبار ضباط الجيش تخضع لموافقة الرجلين. وقوض الرجلان بشدة سلطة القيادة المدنية خلال إدارتي هو جين تاو وون جيا باو. بدأ الأمر مع مقابلة تلفزيونية علنية في (مارس/آذار) 2015، كشف خلالها ثلاثة جنرالات سابقين أن شو كايهو طلب 20 مليون يوان، حوالي 3.25 مليون دولار، مقابل بيع منصب قائد منطقة عسكرية، أما بوكسيونغ فإنه اتهم هو الآخر باختلاس مخصصات الصناديق العسكرية الصينية. لم يضع تشي فرصة الإطاحة بالرجلين، أو ربما هندسها بنفسه، وتزامنًا معها، قام بحركة تنقلات واسعة، واستبدل 57 شخصًا من أصل 91 من كبار قادة الوحدات والأسلحة في الجيش منذ عام 2012، بنسبة تغييرات هائلة تقترب من ثلثي شريحة القيادة العليا.
بالإضافة لذلك، قام تشي، بموجب مرسوم رئاسي أصدره المكتب السياسي للحزب في (يونيو/حزيران) 2015، بإلغاء جميع الاستثناءات لنظام التقاعد على أساس السن للضباط العسكريين، والذي يبدأ من سن 30 عامًا للجنود و45 عامًا لقيادات الأفواج و50 عامًا لقيادات الفرق، وصولًا لسن 65 عامًا لقيادات الوحدات والمناطق و72 عامًا لأعضاء اللجنة المركزية. وتسبب هذا التطبيق الصارم في إحالة عسكريين كبار للتقاعد، من بينهم المفوض السياسي السابق لسلاح الجو تيان زيو سي، والمفوض السياسي السابق للبحرية ليو شياو جيانغ، والمفوض السياسي السابق للمدفعية الثانية تشانغ هييانغ وغيرهم. ولم يقتصر المرسوم على التشديد على إنفاذ حدود السن وحسب، ولكنه أعطى اللجنة العسكرية بقيادة تشي صلاحية إقالة القادة غير القادرين على العمل أو غير المؤهلين أو غير النشطين نتيجة لقضايا صحية أو لأسباب أخرى، ما أفسح الطريق أمام الرئيس الصيني لإزاحة عدد من القادة الآخرين باستخدام حزمة أسباب متنوعة ومرنة.
ولكن إذا كان تشي قد نجح للآن في تعزيز قبضته وقبضة الحزب على الجيش، فإنه لا يزال يواجه تحدي الاحتجاجات المتواصلة لمجتمع قدامى المحاربين الذين يتمتع بنفوذ متزايد في الصين، خاصة أن خطة تشي تضمن تسريح 300 ألف عضو جديد للانضمام إلى هذا المجتمع النافذ، مع ما يتطلبه ذلك من توفير عدد موازي من فرص العمل، أو ما يوازيه من المعاشات التقاعدية والخدمات، وهي الأمور التي لا يكف قدامى العسكريين عن الشكوى من نقصها. إلا أن المحاربين القدامى، ومع قدرتهم على إثارة الخلاف، فإنهم لم يمثلوا في أي وقت “تحديًا” لحكم الحزب، خاصة مع امتلاك النظام الصيني العديد من السبل لتحجيم الاحتجاجات، ومع كون تشي أثبت أنه لا يمانع في اعتقال من يقودون هذه الاحتجاجات أيًا كانت هوياتهم “بأعصاب باردة”.
يبدو واضحا أن تشي يرغب في جمع المزايا من كل شيء، ففي الوقت الذي يتجه فيه لتأسيس جيش على النمط الغربي لحماية المصالح المتوسعة لبلاده وتعزيز خطته الكبرى “الحزام والطريق”، فإنه يستفيد أيضًا من النمط اللينيني السوفياتي للعلاقات المدنية العسكرية، نمط يبقي الجيش تحت سيطرة الحزب وسيطرة تشي الشخصية، وهو نمط أثبت فاعليته في الصين حتى خلال الأزمات الكبرى مثل أزمة ساحة تيانانمن عام 1989. ولكن شبح تجربة ماو من غير المرجح أن يفارق، في أي وقت قريب، خيال تشي، الذي أثبت أنه، وبينما يقود جهدًا غير مسبوق لتحديث جيش الصين، فإن السيطرة المحكمة سوف تبقى، دائمًا وأبدًا، هدفه الأول.
المصدر: (الجزيرة / موقع “ميدان”)