كيف تؤثر شبكات التواصل الاجتماعي في اختيارات الناخبين ؟
عواصم ــ الرأي الجديد (متابعات)
لم يعد الفضاء الإلكتروني بما يحتويه من مواقع للتواصل الاجتماعي مجرد وسيلة للتعارف بين البشر، ولكنه تحول إلى أداة بارزة تُحدث صدى واسعًا على الساحة السياسية على اختلاف فاعليها، فهي منبر للخطابات السياسية التي قد تحمل رسائل مضللة في مواطن مختلفة، وهو الأمر الذي يجعل الإعلانات السياسية على مواقع التواصل الاجتماعي محل جدل؛ بسبب تكلفتها ومحتواها والطريقة المثلى للرد عليها، مما دفع الشركات -وتحديدًا فيسبوك وجوجل- لتطوير السياسات المتعلقة بالإعلانات السياسية المدفوعة.
وفي هذا السياق، يناقش “دانيال كرايس”، الأستاذ المشارك بقسم الصحافة والإعلام بجامعة شمال كارولينا، و”شانون سي ماكيجرجور”، الأستاذ المساعد بقسم الصحافة بجامعة يوتا، في ورقتهما البحثية المعنونة “المتحكمون فيما يراه المصوتون: كفاح شركات “فيسبوك” و”جوجل” مع تطبيق السياسات والعمليات الخاصة بالإعلان السياسي”، المنشورة بدورية “الاتصال السياسي”، الطريقة التي بها تدار الإعلانات السياسية المدفوعة التي تعرضها شركات “جوجل” و”فيسبوك”.
تساؤلات الورقة ومنهجها البحثي:
تسعى الورقة للإجابة عن تساؤلين هما: ما المنطق الذي تطبقه شركتا “فيسبوك” و”جوجل” لتنظيم المحتوى السياسي المقدم على منصاتها؟ وما هي القدرة التي تمتلكها المنظمات والشركات لتغيير قرارات شركتي فيسبوك وجوجل فيما يخص تنظيم المحتوى المعروض؟.
وقد استهل الباحثان الورقة بتوضيح الطريقة التي تمت بها صياغة البيانات والمعلومات التي مُنحت لهم من قبل المسئولين؛ حيث تم الاستناد إلى مقابلات مع أحد عشر مسئولًا سياسيًّا له علاقة بالحملات الانتخابية والاستشارات السياسية بالولايات المتحدة، فضلًا عن سبعة موظفين بشركات “جوجل” و”فيسبوك” كانوا متخصصين في الأعمال المتعلقة بالانتخابات، إضافة إلى استناد الورقة إلى تحليل رسائل البريد الإلكتروني المتبادلة بين مسئولي الحملات الانتخابية الأمريكية في 2016 و2017 والفيسبوك بموافقة وتصريح من أحد العاملين بشركة الفيسبوك وبموافقة أصحاب رسائل البريد الإلكتروني، ثم عرض النتائج الخاصة بالتحليل التي ذكرت في الدراسة عليهم لإبداء وجهات نظرهم وتعليقاتهم.
تنتقل الورقة لاحقًا لشرح طبيعة الإعلانات السياسية المدفوعة لشركتي فيسبوك وجوجل، موضحة أن الأخيرة أوضح في السياسات الخاصة بالإعلانات المدفوعة عن الأولي، وأنه على الرغم من رفض تلك الشركات لأن تكون مسيطرة على توجه الناخبين؛ إلا أنها تقبل مقابلًا ماديًّا نظير بث محتويات سياسية مختلفة. وتسيطر شركات فيسبوك وجوجل على نحو 58% من إجمالي 111 مليار دولار تُخصص للدعاية السياسية الإلكترونية، حيث يدفع السياسيون مليارات الدولارات لبث محتويات سياسية بعينها.
ومما يجدر ذكره أن الإعلانات السياسية الإلكترونية المدفوعة تخضع لرقابة مفوضية الانتخابات الفيدرالية بالولايات المتحدة الأمريكية، وتسعى الورقة لتوضيح طريقة إدارة تلك الإعلانات.
آلية إدارة الخطابات السياسية:
توضّح الورقة أن هناك آلية لعمل كل من شركتي جوجل وفيسبوك، فالأولي أكثر تنظيمًا في الإدارة، وأكثر علانية وانضباطًا من حيث المحتوى الإعلاني، ومع ذلك فهي تمتلك خصوصية في سياسات التصنيع الخاصة بها، وظهور شركة فيسبوك قد تسبب في إعادة تنظيم القوانين المتعلقة بالإعلانات السياسية المقدمة على منصات شركة “جوجل”، والتي تتماشى مع المعايير الوطنية المُقرّة من قبل المؤسسات المختصة بالولايات المتحدة.
وتدعم “جوجل” استهداف الفئات بناء على السن، والجنس، ومحل الإقامة، والمصالح، وسلوك المستخدم من حيث البحث عن مواقع بعينها، وكذا المستخدمين الذين تفاعلوا مع الإعلان من قبل. أما عن الفيسبوك فهو يمتلك سياسات إعلانية عامة، بالإضافة إلى سياسات تتعلق بالمحتوى السياسي المقدم، ويتم تحديد الشرائح المستهدفة بناء على الجنس، والعمر، والحالة التعليمية والاجتماعية والمناطق الجغرافية، وحالة العمل، والدخل، وصلات القرابة على الفيسبوك، واللغات المحلية، والأجيال، وأخيرًا تمت إضافة الأيديولوجيا السياسية التي تُقاس بمقياس يأخذ درجات بين المحافظة والليبرالية.
وتسمح الشركتان بتمكين الحملات السياسية من استخدام البيانات المتاحة لديهما من أجل “الجماهير المعينة” في حال الفيسبوك، و”العملاء المطابقين” في حالة جوجل، وتحدد الإعلانات المسموحة طبقًا لمجموعة من الإرشادات، فهي لا تسمح بإعلانات تروج لمعاملات غير آمنة أو منتجات زائفة، أو تروج للعنف والكراهية، والتمييز العنصري، ومع أن الترهيب أو التمييز ليسا واضحين، إلا أن جوجل تطور إرشاداتها بناء على تقييمات المستخدمين.
كذلك تضع شركة “فيسبوك” محددات إرشادية بخصوص الإعلانات المنشورة والتي يجب أن تتماشى مع “معايير مجتمعية”، وتراعي المساواة والأمان، وتلك المعايير تُمكّن الشركات من فرز الإعلانات التي يُراد بثها عبر منصاتها، وتستخدم شركة جوجل طريقة خوارزميه حسابية لتصنيف الإعلانات، والتي بها يتم استبعاد غير الملائم مع القوانين العامة التي سبقت الإشارة إليها، وما تبقى يتم فرزه مرة أخرى عبر فريق بشري مسئول عن الإعلانات ليقبلها أو يرفضها ويرسل ملاحظاته إلى الجهات المسؤولة؛ إلا أن هناك بعض الإعلانات التي تتخالف مع ذلك نتيجة سيولة كلمة التمييز أو الكراهية، كما أن هناك حوارات أساسية ينبغي مناقشتها يتم توقيفها على الرغم من أهميتها بسبب تلك المعايير الموضوعة، مثل: مسألة الإجهاض أو المهاجرين أو إيقاف استعمال الأسلحة.
وتشير الورقة إلى أن القرارات المأخوذة داخل تلك الشركات لا تقابل التوافق بين جميع أعضاء الشركة، فالأمر غاية في التعقيد، وعادة ما تتطلب الموافقة على عرض بعض الإعلانات في شركة جوجل ما يقرب من 72 ساعة، وهي فترة طويلة، خصوصًا بالنسبة للإعلانات السياسية، ويتم مراعاة النزاهة التامة عند قبول أو رفض الإعلانات، أما عن الفيسبوك فيتم مراجعة الإعلانات خلال 24 ساعة، ولا يتم تقديم أسباب واضحة عن الرفض، وقد يتم إعادة صياغة الإعلان حتى يتلاءم مع سياسات الفيسبوك. ولكن يشير ممارسو السياسة إلى أنه أثناء الحملات الانتخابية الكبرى كالرئاسية يتم التدخل في قرارات تلك الشركات، وعمل مفاوضات مع شركة فيسبوك تستمر لفترة طويلة، وهو ما يؤكد أن عملية الموافقة على الإعلانات غاية في التعقيد.
المفاوضات حول الإعلانات على فيسبوك:
تنتقل الورقة فيما بعد لتشرح بصورة أكبر مدى التعقيد الذي يقابله مسئولو الحملات الانتخابية حتى يتم تمرير إعلاناتهم السياسية، عبر تحليل رسائل البريد الإلكتروني بين موظفي الحملات وموظفي الفيسبوك، ويستشهد الباحثان بالحملة الانتخابية المتعلقة بانتخابات حكام الولايات في عام 2017، حينما اشتكت إحدى الحملات من إعلان الحملة المتنافسة المدفوع الذي تم تغيير عنوان مقالة صحيفة “الواشنطن بوست”، وتلخص رد موظف الفيسبوك على مسئول الحملة بالرد على خطأ المقال في خمسة نقاط هي:
1- التعليق بخطأ ذلك العنوان على المنشور من قبل المرشح نفسه أو من أحد أفراد حملته والاشتباك مع المجتمع الموجود على هذا المنشور.
2- نشر الخبر الحقيقي على الصفحة الخاصة بالمرشح، وذكر ذلك في تعليق على منشور الحملة المنافسة.
3- تدخل كاتب المقالة الحقيقي، وإعلانه عن التضليل الموجود بالإعلان.
4- يمكن عمل إعلان ترويجي من قبل الحملة لتصحيح عنوان المقالة.
5- عمل صفحة جديدة لتصحح ما تروجه الحملة المنافسة.
ولكن توضح الورقة أن سياسة الفيسبوك هنا تظهر المماطلة التي تمارسها الشركة؛ فهي تُلقي بحِمل تصحيح الخبر على الحملة المنافسة، دون أدنى تدخل من شركة فيسبوك لإعادة تحرير العنوان المضلل، في الوقت الذي تنتهك فيه الحملة الأخرى سياسات فيسبوك المعلنة، إلا أن إثبات ذلك سيُضيع الجهود هباء وسيحتاج وقتًا كبيرًا.
وتوضح الورقة أنه بعد شهر من تبادل المراسلات الإلكترونية؛ قامت شركة فيسبوك بحذف المنشور الخاص بالحملة المنافسة دون إبداء أسباب لحذفه، وأرسلت للحملة الأساسية بأنها على استعداد لمواجهة أي أخبار خاطئة، كما تم تغيير سياسة فيسبوك الخاصة بالنشر لتسمح للمؤسسات الصحفية بمراجعة عناوين الموضوعات المتعلقة بهم في منتصف حملة 2017، ولم تظهر تلك السياسة فجأة، ولكنها أخذت وقتًا طويلًا من النقاشات الداخلية حتى يتم إقرارها، وهو ما يؤكد تعقد المسألة في داخل الشركة.
تسترسل الورقة في تحليل رسائل البريد الإلكتروني، حيث وصف أفراد الحملة الانتخابية شركة فيسبوك بعدم رغبتها في أن تكون “حاكم الحقيقة”، ولكنها “حاكم الانتباه”، وهو ما دفع موظف الحملة الانتخابية للإشارة إلى ضرورة تدقيق النظر فيما يتم نشره من أخبار على منصاته، فهو يستقبل إعلانات مدفوعة بمبالغ كبيرة، ولا يدقق في صحة الأخبار، وما يعطيه من تبريرات ونصائح لتتبعه الحملة المنافسة حتى تكشف فبركة أخبار الحملة الأخرى هو أمر غير ملائم، وتهدف شركة فيسبوك من ورائه اكتساب مزيد من الدولارات، دون أدنى محاولة للتدخل فيما يتم بثه للناخبين على عكس كافة وسائل الإعلام الأخرى التي تسيطر على هذا الأمر مثل التليفزيون والراديو، كما أن حذفه المنشورات يرتبط بدرجة أكبر بالأخبار أو المقالات وليس بالفيديوهات التي قد تحتوي على نفس المعلومات المضللة، لذا يجب عليه إعادة النظر في سياسات النشر الخاصة به وتطويرها لمساعدة الناخبين على تلقي الحقيقة، وهو ما رد عليه الموظف التابع لشركة فيسبوك مستشهدًا بحديث “مارك زوكربيرج” أن هدف الفيسبوك إظهار المحتويات الأكثر فائدة وليس الأكثر دقة، لذا فالأمر بعيد عن مسئولياتهم.
وتوضح الورقة أنه نظرًا لتوجه اهتمام الفيسبوك الأكبر نحو تحقيق الأرباح، فهو أكثر ميلًا لأن يكون راعي الاهتمام وليس راعي الحقيقة، كما أن دوره في إثارة الانتباه والاهتمام يجعله يستمر لمدة أطول في الأسواق ويحقق نموًّا سريعًا، إلا أن الضغط العام يدفعه للاستجابة لضرورة تحوله لرعاية الحقيقة، وهو ما يدفع الباحثان للتساؤل عن ماهية الحقيقة السياسية، فالأمر رخو إلى درجة كبيرة، فضلًا عن أن الشركة بأفرادها يفتقدون إلى الخبرة الديمقراطية التي تجعلهم يدققون في الأخبار بصورة احترافية، إضافة إلى عدم قدرتهم على مواجهة صراعات الخطاب السياسي المنتشر بالأساس خارج ساحات مواقع التواصل.
حلول مطروحة:
تشير الورقة إلى أن الحل الوحيد لما جاء ذكره يتمثل فيما ذكره موظف الفيسبوك من زيادة الإعلان السياسي المدفوع المناهض للأخبار المضللة، ففي الواقع هذا سيزيد من أرباح الفيسبوك، ولكنه -على جانب آخر- قد يزيد من قدرات الساسة على التلاعب بالأخبار، وهنا سيظهر دور فيسبوك في تقديم إعلانات مدعومة أو مخفضة أو مجانية لكشف الحقيقة في حال ثبوت خطأ الإعلانات الخاصة بالحملات المضادة، ومنح حق الرد للجهات الأخرى، وسيكون على الفيسبوك النظر في تداول أية أخبار ومدى ما قد تسببه من مشكلات وليس النظر في صحتها، لأن هذا أمر لا يمكن الجزم به في السياسة، فضلًا عن ضرورة التعامل بطريقة أكثر شفافية مع الإعلانات السياسية وتمويلها والخطاب الذي تضمه والجمهور المستهدف، وهذا ما سيدعم الدور الديمقراطي الذي تقوم به تلك الشركات.
كما يمكن تمكين جهات خارجية أكثر دراية بصحة المحتوى مثل الصحفيين للتدقيق فيما يتم بثه من إعلانات سياسية مدفوعة، وكل هذا سيحدث مزيدًا من الشفافية للممولين وأصحاب الحملات السياسية وكذا الجمهور المستهدف، حيث سيظهر دور الجمهور في القضايا العامة المحورية التي تُحدث صدى واسعًا في الضغط على مؤسسات الشركات مثل غوغل وفيسبوك لجعل سياسات النشر بها أكثر شفافية، والتدقيق فيما يتم نشره من أخبار.
ختامًا، تشير الورقة إلى أنه إذا لم تكن السياسة هي الهدف الأول الذي رغبت شركات التواصل الاجتماعي في الدخول فيه، إلا أن التواجد القوي والدور الفاعل لتلك المؤسسات حاليًّا في مسار العملية الديمقراطية يضعها أمام مسئولية أكبر تتطلب مزيدًا من المؤسسية والضوابط داخل تلك الشركات حتى يمكن توفير خطاب سياسي ملائم للمحتوى العام يحيد إلى أقصى درجة عن الأكاذيب.
المصدر: موقع “المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدّمة”
بقلم / دانيال كرايس وشانون سي دانيال كرايس وشانون سي ماكيجرجور