“المناظرات التلفزية” لــ “الرئاسية”.. خطوة شكلية يعوزها التصور والمضمون
بقلم : صالح عطية
لا شكّ أن خطوة إجراء مناظرات تلفزيونية لمرشحي الانتخابات الرئاسية، تبقى منجزا وطنيا شديد الأهمية، في بلد يحقق خطوات هامة على درب مسار الانتقال الديمقراطي، على الرغم من الإنكسارات والإخفاقات والتراجعات في ملفات معينة، والعطل الحاصل على مستوى الملف التنموي والاجتماعي.
غير أنّ هذه المناظرات تحتاج إلى وقفة تأمل، حتى لا نكون كــ “شاكر نفسه يقرئك السلام”، على رأي المثل العربي ذائع الصيت.
وفي سياق الحرص على إنجاح هذه التجربة، وإكسابها مزيدا من المهنية والإحتراف والمصداقية، نورد الملاحظات الأولية التالية..
من حيث الشكل
كان اصطفاف المرشحين جنبا إلى جنب، وكأنهم في حالة إلقاء محاضرات، بمثابة الضربة في الصميم لفكرة المناظرة، التي تقوم ــ في الواقع ــ على المواجهة بالأساس.
كما تم توزيع المرشحين، بطريقة فيها الكثير من الخبث الإعلامي الذي يختلط بالدهاء السياسي.. وواضح أنّ الماكينة السياسية والحزبية، قد تحركت، وفاحت ــ حقيقة ــ بعض الروائح السياسية من الطريقة والأسلوب..
كان ثمة مشهد في غاية الأهمية، وهو نادر في العالم العربي، رؤساء يصطفون الواحد حذو الآخر، وهم متنافسون، وبينهم تجارب وعوالم وأفكار ومقاربات وطموحات وغيرها، متقدمون إلى الانتخابات الرئاسية، زادهم، تجربتهم وخطاب انتخابي وبعض الوعود، بصرف النظر عن مشروعيتها وقابليتها للتحقيق.
وما دمنا مع الشكل، تجدر بنا الإشارة إلى غياب كرسي نبيل القروي، الذي مثّل “سقطة إعلامية” لا غبار عليها، ما يعني أنّ مؤسسة التلفزة الوطنية، مورطة في تقديرها السياسي، وأظهرت أنها غير محايدة.. فالرجل مرشح رسمي، وكان يفترض تخصيص مكان له، عليه صورته، إذا شئنا المساواة في الانتخابات، في أدنى صورها.. لكن رياح أخرى عاتية تجري بما لا يشتهيه الناخبون والمشاهدون، وحتى الحياد المهني في هذا السياق..
التلفزة مرفق عمومي، وكان لا بد عليها ألا تتورط في هكذا حسابات، فهي تقتات من جيوب المشاهدين وليس من عطاءات رئاسة الحكومة أو غيرها، مع كل الاحترام والتقدير لرئاسة الحكومة..
قد تكون لأحدنا وجهة نظر بشأن نبيل القروي، لكنّ ما حصل للرجل قبيل أسبوع من الحملة الانتخابية، لا يمكن أن يكون بريئا انتخابيا وسياسيا، ومن هذه الزاوية يأتي تحفظنا على اعتقال الرجل..
أما على مستوى المضمون..
فقد بدت المناظرات وكأنها محاورات في ندوة عامة، بحيث فقدت بذلك معيار التناظر، الذي لا يستقيم إلا بوجود حوار ثنائي بين طرفين أو أكثر، وبمواجهة يستبين من خلالها للناخبين، من الأقدر من صاحبه، ومن يقــنع أكثر، ومن له القدرة على جلب الأنظار، ومن يمكن أن يكون الأصلح بالنسبة للناخب التونسي، أو حتى للمشاهدين في عواصم عربية أخرى..
خرج الجميع متساوون في الفرصة، متساوون في التوقيت، متساوون في أفق الأجوبة، التي لم تبتعد كثيرا بعضها عن بعض، كأنهم في امتحان شفاهي، كل واحد أدلى بإجابته في انتظار لجنة التحكيم التي لن تأتي في هذه الحالة.
لقد دخل الجميع ناد للتعبير الذاتي، وخرجوا منه بعد أن أفرغوا شكوتهم، بتفاوت يعود إلى طبيعة الشخصيات وتجربتها، وليس إلى المناظرة في حدّ ذاتها.
بدا المنصف المرزوقي، أكثر دهاء في الخطاب، من خلال مزاوجته بين ما يرغب أن يفعل، وما كان قد فعل وهو رئيس بين 2011 و 2014، ليذكّر التونسيين بكونه كان رئيسا سابقا، وهي الصفة التي قد تمنحه تقدّما عن منافسيه، باعتبار أنّ الناخب يبحث عن الآمان.
وهذا ما فعله المهدي جمعة نفسه، الذي كان يتحدث عن “الأمور العملية”، وعن فترة رئاسته للحكومة، وعن منجزاته، التي ربما نحتاج إلى أن نعرفها أكثر..
غير أنّ هذه الميزة، يمكن أن تسقط الطرفين معا، إذا ما كان الناخب يبحث عن الجديد، وليس تكرار التجارب القديمة.
أما بعض المداخلات، فقد بدت كأنها محاضرات في الكوليج دو فرانس، فلا هي تهم الناخبين ولا هي تتصل بصلاحيات رئيس الجمهورية، ولا هي تطرح ما يمكن فعله، بقدر ما تطرح ما يرغب البعض في فعله (لن نذكر أسماء حتى لا نحرج بعض المرشحين)..
وما يلاحظ أيضا، هو تشتت المحاورة (وليست المناظرة) بين الأسئلة التائهة، والمكثفة بلا بوصلة.. ففي كثير من الأحيان، يطرح على المرشح “أ“، سؤالا عن الهجرة غير الشرعية، فيما تطرح على المرشح “ب” بعده مباشرة، سؤال عن الأمن القومي، بحيث حصل نوع من التشتت والتذرر لدى المشاهدين، فلم يكن ثمّة خيط ناظم بين الأسئلة حتى داخل المحور الواحد..
ورغم أنّ صلاحيات رئيس الجمهورية، تتصل بالأمن القومي والسياسة الخارجية والدفاع، إلا أنّ إدارة الحوار (ولا نحمّل هنا المسؤولية للزميلين، إلياس وأسماء)، كانت اتجهت منحى مساءلة المرشحين عن السياسة الداخلية والخارجية والدفاع والاقتصاد والمرأة والتعليم وغير ذلك، كما لو أنّ المناظرة اختبار للمرشحين، وليست تمحيصا لمقاربتهم، وهو ما أسقط الكثيرين منهم فيما كانوا قالوه في حوارات تلفزيونية سابقة.
لقد لاحظنا، خلطا واضحا وفاضحا، بين مهام رئيس الجمهورية، ومهام رئيس الحكومة، إلى درجة أنّ بعض المشاهدين، كانوا يتساءلون: هل نحن أمام حوار للانتخابات الرئاسية أم للانتخابات البرلمانية..
ولو يجمع المرء التوقيت الذي قرئت فيه الأسئلة على المرشحين، لاتضح أنّه غير بعيد عن التوقيت المخصص للمرشحين، فكثافة الأسئلة (أكثر من 50 سؤالا)، طرحت على المرشحين، في نوع من “الإسهال الاستفهامي”، كان بالإمكان اختزاله إلى بضع أسئلة، ويترك للمرشحين دينامية الأجوبة، لأنّ في هذه الدينامية، حياة خاصة للمناظرة، كما يفترض أن تكون.
زخم ضروري في التصور
نحتاج إلى زخم في التصور، لإقامة مناظرات محترفة، رغم الجهد المبذول، ونحتاج إلى الكثير من الصبر على التقييمات التي ستظهر هنا وهناك، بعيدا عن خطاب الإطراء، وحالة الرضا النفسي، التي تعودنا عليها، والتي تجعلك تقف حيث أنت بلا أي تقدّم..
في النهاية، خرج المشاهدون / الناخبون بانطباع أساسي، وهو أنهم صرفوا ساعة ونصف الساعة أو أكثر، دون أن يساعدهم ذلك على الاختيار، بل إنّ ذلك زادهم حيرة.. اللهم إلا إذا كانت هذه الحيرة مقصودة لفسح المجال لمرشحين آخرين للبروز خلال اليومين التاليين، وبخاصة خلال اليوم الثالث تحديدا (والفاهم يفهم)..
في العموم، تجربة أولى مهمة لكنّها غير مشجّعة، رغم ما سبقها من بهرج إعلامي ضخم، وحريّ بإدارة التلفزة، ومن يساعدها على ذلك، أن يغيّروا من طبيعة هذه المناظرات، أما أن يكون اليوم الثاني والثالث مثل اليوم الأول، فهذا معناه، الإصرار على الفساد، فساد النفقات والتوقيت والفرصة الضائعة على المرشحين.
هذه ملاحظات أولية على أول مناظرات لم تكن في حجم التطلعات المهنية، وذلك ناتج عن فلسفة الإقصاء الذي مورس على بعض الصحفيين ممن كان يمكن أن يساهموا في تصور أكثر سلاسة لهذه المناظرات، لكنّ المنظمين تعاملوا مع هذا الحدث بمنطق “الولاءات” والصداقات و”الغرف المغلقة”.. ونتيجة ذلك، هذا الفشل المهني والسياسي أيضا، الذي لا نرضاه لهذه التجربة، ولا للمسار الانتقالي التونسي، فليست الأهمية في تنظيم مناظرات، إنما الأهم هو النجاح فيها، وجعلها تعبيرة مهنية وسياسية وسياحية واقتصادية..
لأنّ الديمقراطية، استثمار سياسي واقتصادي لم نعمل على توظيفه منذ الثورة إلى الآن، وعسى أن تكون هذه الملاحظات الأولية وغيرها، حافز على استغلال هذا المعطى الهام، في هذه الديمقراطية الناشئة بين الصحراء العربية القاحلة..