لم تشهد العلاقة بين الحكومة والأمنيين، تصعيدا مماثلا على النحو الذي نحن بصدده منذ عدّة أيام، وذلك على خلفية مشروع قانون زجر الاعتداءات على الأمنيين، الذي يعتبره أمنيون، “قضية حياة أو موت”، و”مسألة وجود”، لجهاز يبدو أنه سخّر كل الإمكانات المتوفرة لديه، لكي “يفرض” بأشكال مختلفة، تمرير هذا المشروع، الذي وصفه خبراء وحقوقيون في الداخل والخارج، بكونه أسوأ ما عرفته الترسانة الاستبدادية التونسية على امتداد الستين عاما الماضية..
مشروع القانون المقترح، لا يعيد إلى بلادنا “الدولة البوليسية” فحسب، ولا يحيي تلك الممارسات اللاإنسانية، والقمعية في أقسى مظاهرها التي مورست في نهاية حكم “الزعيمّ بورقيبة، وطيلة حكم (بن علي)، إنما يؤسس لدولة “الجنرالات” الأمنيين، التي سيكون فيها إسكات التونسيين، محمي بالقانون، بل وقانون خاص، وليس مجرّد نصوص موزعة هنا وهناك، وهي نصوص كفيلة ــ في الحقيقة ــ بحماية الأمنيين، وإعطائهم حقوقهم عند الإساءة إليهم، أو قتلهم، أو المساس بعائلاتهم..
***************
نعم، نحتاج إلى تعديل لهذه القوانين، ويحتاج الأمنيون إلى حماية أوضح وأدقّ، وهذا ليس من حقهم فحسب، إنما من واجبنا جميعا، مواطنون ونخبا وصحفيون ونوابا ورجال قانون، أن ننتصر إلى هذا الحق، بلا أدنى تحفظ أو تردد أو حسابات سياسية أو مهنية أو غيرها، إنه واجب المجتمع والدولة، تجاه من يحمون أرواحنا وممتلكاتنا واستقرارنا.. ننام ملء جفوننا، ويسهرون في حرّ الصيف وقرّ الشتاء، نجتمع بين أسرنا وعائلاتنا، وينفصلون هم، الأمنيون، عن ذويهم، تاركين بيوتهم ونساءهم وأطفالهم، من أجل سلامة الوطن وأهله وسيادته… هذا أمر لا يشكّ فيه إثنان، ولا يتناطح فيه عنزان، كما يقول المرحوم، محمد الطالبي، ويستحقون عليه التحية في كل آن وحين، لكن أن يستفرد الأمنيون بقانون، بهذا الشكل، الذي لا يليق بالأمنيين، ولا يشرفهم ــ في اعتقادنا ــ وهم يتهيّأون للأمن الجمهوري، لغة وفلسفة وسلوكا وممارسة، أن يستفردوا بهكذا قانون، فهذا لا يجب الصمت عنه مطلقا..
لن يزايد علينا أحد في علاقة بالأمنيين، الذين يعرفون مواقف كاتب هذه السطور في الأيام الصعبة، مباشرة إثر الثورة، عندما هبّ بعض السياسيين المراهقين (رغم تقدمهم في السنّ)، في المطالبة بحلّ المؤسسة الأمنية، والعسكرية، بذريعة أن الأمن كان أمن بن علي، القامع لشعبه، وما دام بن علي قد هرب، فعلينا أن نفكك المؤسسة الأمنية..
في تلك اللحظة الحرجة، كنت الوحيد من بين الحضور في أحد البلاتوهات، الذي أوقف هذه “الخزعبلات”، وحذّرت من مغبّة السير على نفس النهج الذي توخاه الأمريكان عند حربهم على العراق، حيث فككوا المؤسسة العسكرية والأمنية، وفتحوا العراق على جحيم “الفوضى الخلاقة” التي جاءت بأطراف إقليمية متربصة، لتفتكّ العراق، وتفتك به، إلى اليوم..
وأحسب ــ والتسجيلات موجودة في إحدى التلفزات الوطنية ــ أنني أعدت الحوار إلى السياق الذي يجب أن يكون فيه، وهو أن هذه المؤسسة، بناها شعبنا وعقول وسواعد رجال الأمن، ولا يمكن تفكيكها، بل المطلوب إصلاحها..
ولست أقصد من وراء هذا القول التزلف للمؤسسة الأمنية، فهم يعرفون أنني بعيد كل البعد، ماضيا وحاضرا عن مجالاتهم، مهما كان شكلها أو نوعها أو مكوناتها… هذا واضح ولا غبار عليه، لذلك لن يزايد علينا أحد في التقدير لهذه المؤسسة..
***************
لكننا مع ذلك، نقولها بوضوح، وبلا مواربة، ومن دون تردد، أنّ اعتماد هذا القانون من قبل مجلس نواب الشعب، والقبول بمناقشته، على تلك الأرضية المتخلفة، لا يمكن إلا أن يكون بداية النكسة لمرحلة مهمة في تاريخنا، مرحلة ما زلنا نعتقد أننا دخلناها رغم كل أوجاعها ومحنها ومصاعبها، ونحن متيقنون أننا نبني وطنا جديدا، يكون فيه الأمنيون شركاء وليسو أوصياء، مواطنون، وليسو فوق المواطنة، أمنا جمهوريا، وليس جمهورا أمنيا..
نعم ندرك جيّدا، ويدرك التونسيون في كل شبر من هذه الأرض، أن لدينا رجالا يعرّضون صدورهم للمخاطر، وحياتهم للتهديد المستمر، ولإرهاب الجماعات والعصابات الإرهابية، رجال ونساء في هذه المؤسسة، يتههدهم الموت والقتل وفتك الإرهابيين، وندرك أيضا، أنّ معاناتهم شديدة داخل أسرهم، ومسؤولياتهم أكبر وأضخم، وأنهم يشعرون بالإستهداف، ويرغبون في الإطمئنان، وهذا حقهم علينا، وليس منّة من أحد، لكنّ هذا الأمر المشروع شيء، وإفراد الأمنيين بقانون خاص، شيء آخر.. ونقولها بوضوح، لأن الوضوح، (وليس كلام التراكن)، ومصارحة رجالنا الأمنيين، أفضل من التعامل معهم بوجهين ولغتين ومكيالين..
نعم… ما يزال جزء من الأمنيين، لم يستوعب بعد التغييرات الحاصلة في مجتمعنا، والبعض يحنّ للعودة إلى “الزمن الأغبر”، وثمّة حتى من يهدد مواطنين في مخافر الشرطة، بالثأر من الثورة، التي يعتبرونها قد استباحت المؤسسة الأمنية، بل ثمّة من لا يؤمن بوجود تحولات حصلت في بلادنا، ويرغب في قانون من هذا القبيل، عسى أن يستعيد سطوته ونفوذه وعنجهيته وغلظته وشدّته ضدّ التونسيين..
لذلك، أخشى شخصيا من هذا القانون، ليس على التونسيين فحسب، إنما على الأمنيين بالذات..
هل يريد الأمنيون ان تكون لهم جمهوريتهم، وللشعب جمهوريته؟
هل يريد الأمنيون، أن يكونوا فوق المجتمع، في تعال، وهم يرددون أنهم جزء منه؟ ماذا سيضيف قانون “الطوارئ العسكرية” هذا، لمؤسسة، بدأنا نشعر أنها بدأت تتخلص من بعض الرواسب القديمة؟
هل يهنأ الأمنيون، عندما يصبح النظر إليهم وكأنهم خارج السياق الاجتماعي والسياسي.. كائنات فوق المجتمع والمواطنة والسياقات الجديدة لتونس؟
***************
إننا من هذا المنبر، الذي أردناه أن يعبّر عن رأي جديد بكل هدوء، ومن دون حسابات ذاتية، نعتبر مجرّد مناقشة هذا القانون، فصل خطير على التأسيس الديمقراطي لبلادنا، بل فصل خطير كذلك على الحريات والحقوق، وفصل أخطر، نعم أخطر، على المؤسسة الأمنية ذاتها، لأنه سيحوّلها إلى مؤسسة مسترابة في أنظار المجتمع الرافض لهذه الخطوة، وسيجعل جميع ممارسات أعوان الأمن ومن يعطونهم الأوامر، ومن يقودون تحركاتهم، من القيادات في جميع المستويات، ممارسات محمية بالقانون، وممنوعة من المحاسبة والمتابعة القضائية، وهذا ما ليس بالإمكان السكوت عنه..
إننا نحمّل الائتلاف الحاكم، وبخاصة حزبي النهضة والنداء، المسؤولية الكاملة إزاء هذا المشروع، ودعنا من تلك التصريحات، من هذا الحزب أو ذاك، التي تحاول أن تمرر القانون بــ “حربوشة” عنوانها: “سنناقش النص، ولن نسمح بتجاوز معايير حقوق الإنسان والحريات”، فهذه كلمات من باب “تسجيل الموقف”، لا غير، وقد شبعنا منها في مواقف سابقة، ربما يطول اليوم شرحها والتعرض إليها.. فمن مصلحة الحزبين، تمرير هذا القانون، واعتماده، لأنه سيسكت أفواها كثيرة، وسيجعل التحركات الاجتماعية “في خبر كان”، وسيحيل الاحتجاجات النقابية، رغم كل ما يمكن أن يقال عنها، على عطلة طويلة..
وغير خاف على أحد، أنّ حزبي النداء والنهضة، هما من يتضررا يوميا بالاحتجاجات وعمليات النقد الموجهة إليهما، وهما من تضررا في نسب نوايا التصويت في الاستحقاقات الانتخابية، وفي المواعيد السياسية القادمة، وهما من تهرّت سمعتهما ورصيدهما الشعبي والانتخابي بشكل لافت للنظر، ومن مصلحتهما، امتصاص الحراك الاجتماعي لعدّة سنوات إلى حين استتباب الأمن، وتدوير عجلة التنمية، بغاية استعادة ثقة الناخب التونسي..
إننا أمام لحظة تاريخية فارقة بكل معنى الكلمة، وحريّ بالديمقراطيين والحقوقيين والصحفيين الأحرار، بنقاباتهم وهياكل المهنة ومنظمات المجتمع المدني، العمل الجبهوي العاجل، بعيدا عن مجرّد إصدار البيانات، والتعبير عن مواقف معزولة..
سيقال هذا تحريض.. نقول نعم وبوضوح، لكنّه التحريض السلمي.. ونعم التحريض من أجل الديمقراطية، وضدّ عودة الاستبداد مرة أخرى إلى بلادنا، فلسنا مستعدّين لكي يعيش أبناؤنا في ظل استبداد جديد، مهما كان اسمه أو صيغته أو الماسكون بعصاه..