الدولة العميقة و”الهيدروجين الأخضر”.. مسار الإنهيار الشامل
بقلم جنات بن عبد الله
وقّعت تونس والجزائر وإيطاليا وألمانيا والنمسا، الثلاثاء 21 جانفي 2025، على الإعلان المشترك للنوايا السياسية بشأن مشروع ممرّ الهيدروجين الجنوبي، وذلك بالعاصمة الإيطالية روما خلال اجتماع وزاري هو الأوّل من نوعه لوزراء الطاقة المعنيين بالمشروع “.
خبر تناقلته وكالات الأنباء في يوم عادي من أيام شهر جانفي المعروف في عديد بلدان جنوب المتوسط بشهر ثورات الكرامة والحرية. وفي جو خيم عليه الهدوء، ربما مبالغ فيه، بعيدا عن الطابع الاحتفالي، غطت وكالات الأنباء الأوروبية حفل التوقيع على أكبر صفقة أنجزها الاتحاد الأوروبي مع حلول الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، بعيدا عن أعين شعوب بلدان الجنوب وأصوات بعض التونسيين الرافضين..
الصفقة… جاءت كرد على تقرير ماريو دراغي الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي، ورئيس الوزراء الإيطالي السابق الذي حذر فيه، ذات يوم 15 سبتمبر 2024 الأوروبيين من معاناة طويلة الأمد ومن تدهور اقتصادي متزايد اذا لم تتمكن أوروبا من اتخاذ إجراءات حاسمة، “الان ثم الان وليس غدا”، لتقليص الفجوة المتزايدة في الإنتاجية بين أوروبا والولايات المتحدة الامريكية والتي أصبحت تهدد القارة العجوز بمزيد من الضعف. نعم أنقذت أوروبا نفسها بصفقة “الممر الجنوبي للهدروجين الأخضر” الذي ينطلق من الجزائر عبر تونس الى إيطاليا فأوروبا على امتداد 4 الاف كيلومتر، وقود نظيف في تناغم مع اتفاقية باريس للمناخ لا يعرف النضوب.
أوروبا تؤمن حاجاتها
صفقة خضراء أمنت بها أوروبا توريد 4 ملايين طن سنويا، ما يعادل 40 بالمائة من احتياجاتها حسب “الاستراتيجية الأوروبية للهيدروجين الأخضر” التي أقرتها في منتصف سنة 2020 والتي ضبطت فيها قدراتها الإنتاجية في حدود 10 ملايين طن وسمحت لها بتأمين الكمية نفسها عبر التوريد من دول افريقية وخاصة من شمال افريقيا.
نعم ضمنت أوروبا المستقبل وقطعت مع ضغوط غاز روسي ونفط أمريكي وأمنت لصناعتها واقتصادها دخول عصر الهيدروجين الأخضر بكلفة رمزية، أقل من الثلث مما تنتجه في أوروبا، عبر “شراكات” خططت لها ومررتها كعادتها بالرجوع الى مستعمراتها السابقة عبر نفس الأساليب التي اعتمدتها عند تمرير اتفاقية الشراكة لسنة 1995 واتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق لسنة 2016 وقبل ذلك اتفاقية التعاون لسنة 1969 بالنسبة لتونس.
فمنذ سنة 2020 انطلقت المفوضية الأوروبية في حبك خيوط الاستيلاء على مصادر الهيدروجين الأخضر في دول الجنوب بعد أن ضمنت استيلاءها على الطاقات المتجددة لإنتاج الكهرباء في عدة دول افريقية ومن بينها تونس حيث تم تمرير قانون انتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة في سنة 2015 الذي أعدته الوكالة الألمانية للتعاون الدولي GIZ).
هذا القانون أعطى الشركات الأجنبية امتياز انتاج وتصدير الكهرباء من الطاقات المتجددة وسحب هذا الحق من الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع الكهرباء، بل جعل السوق التونسية في تبعية للسوق الخارجية التي تسيطر عليها هذه الشركات الأجنبية التي تنتج الكهرباء من شمسنا ورياحنا ونشتريها نحن بالعملة الأجنبية وبأسعار السوق العالمية.
الأجيال القادمة تدفع الثمن
والأغرب من ذلك أن شبكة نقل هذه الكهرباء وقع تشييدها بقروض أوروبية ستسددها أجيالنا القادمة. ففي سنة 2020 وأثناء رئاستها لمجلس الاتحاد الأوروبي، واستنادا للاستراتيجية الأوروبية للهيدروجين الأخضر، أعلنت برلين عن رغبتها في تخصيص 9 مليار أورو لتنمية قطاع الهيدروجين الأخضر، وذلك لتصبح الأولى على مستوى العالم في تقنيات انتاج هذه المادة. ومنذ ذلك التاريخ وباعتبار عجزها عن تلبية كل احتياجاتها من الهيدروجين الأخضر قررت المانيا مضاعفة شراكاتها الثنائية لتنمية هذه المادة خارج حدودها وتحديدا في شمال افريقيا، وذلك كما تسمح به بنود الاستراتيجية الأوروبية التي تعرضت الى مسألة التبعية الطاقية، والسيادة الطاقية ولكن ضمن مقاربة تسمح بالاعتماد على التوريد دون أن تمس عملية التوريد بالأمن الطاقي.
ولئن يبدو للوهلة الأولى أن هذه المقاربة تتناقض ظاهريا مع مفهوم السيادة التقليدي، فان هذا التناقض يختفي تماما إذا تعلق الأمر بالتوريد من بلدان افريقية معينة وتحديدا بلدان شمال افريقيا.
فبالرجوع الى أسس علاقات الشراكة والتعاون بين البلدان المستقلة التي كانت منضوية تحت منطقة الفرنك الفرنسي، ومن ضمنها بلدان شمال افريقيا، والدول الأوروبية التي استعمرت هذه البلدان، نكتشف أن هذه العلاقات التي تستند الى معاهدة روما لسنة 1957 المؤسسة للمجموعة الاقتصادية الأوروبية، ثم معاهدة الاتحاد الأوروبي لسنة 1992 التي خلفت معاهدة روما، نكتشف أن هذه البلدان الافريقية التي تحصلت على استقلالها بقيت منقوصة السيادة خاصة على ثرواتها الطبيعية وعلى بعض أراضيها بما يسمح للدول الأوروبية استباحة ثرواتها وأراضيها تحت عناوين مختلفة كما هو الشأن في موضوع استغلال الطاقات المتجددة الذي أخضع في تونس للقانون عدد 12 لسنة 2015 مؤرخ في 11 ماي 2015 يتعلق بإنتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة، الذي أعددته وصممته الوكالة الألمانية للتعاون الدولي GIZ وصادق عليه البرلمان التونسي.
هذا القانون أعطى امتياز انتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة والتصدير للشركات الأجنبية وسحب هذا الامتياز عن الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع الكهرباء. وفي هذا المستوى لا بد من الإشارة الى أنه لا يمكن الحديث عن “تصدير” الكهرباء الا في صورة قيام الشركة التونسية للكهرباء والغاز بهذه العملية التي ينجر عنها استرجاع لمداخيل التصدير، أما إذا قامت شركات أجنبية بعملية “التصدير” فانه حسب نظام التصدير الكلي المتبع في تونس وفي جميع البلدان التي كانت مستعمرة، لا يمكن تسمية العملية بالتصدير باعتبارها لا تدر عائدات بالعملة الصعبة.
في هذا السياق فإنه بمقتضى الاتفاقيات مع الاتحاد الأوروبي وعقود اللزمة، فإن المنتوج “المصدّر” ليس منتوجا وطنيا بل منتوجا أجنبيا، وبالتالي فإن العملية هي عبارة عن نقل للمنتوج ولا ينجر عنها عائدات بالعملة الصعبة.
منتوج أجنبي
ولعله من المفيد الإشارة في هذا المستوى الى كيفية انتاج الهيدروجين الأخضر ومصدره… فهذه المادة هي عبارة عن وقود خفيف وعالي التفاعل، يتم الحصول عليه من خلال عملية كيميائية يطلق عليها التحليل الكهربائي حيث تستخدم تيارا كهربائيا، يتم الحصول عليه من الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح، لفصل الهيدروجين عن الاكسجين في الماء. ومن منطلق حاجة انتاج هذه المادة الى كميات ضخمة من المياه العذبة، تم التوجه نحو مياه البحر لتحليتها.
وكشفت عديد الدراسات الدولية وخاصة دراسة دعمتها منظمة الأمم المتحدة نشرت في جانفي 2019، أن قرابة 16 ألف محطة لتحلية المياه في جميع أنحاء العالم تنتج كميات أكثر من المتوقع من مخلفات من المياه شديدة الملوحة ومواد كيميائية سامة تشكل خطرا على البيئة. وتشير الدراسة الى أنه لكي تنتج محطات التحلية 95 متر مكعب من المياه العذبة فإنها تنتج أيضا 142 متر مكعب من المياه شديدة الملوحة.
وتوضح الدراسة التي أجراها معهد جامعة الأمم المتحدة للمياه والبيئة والصحة ومقره كندا أن المياه شديدة الملوحة تضخ معظمها في البحر وهي كافية بمرور السنين لتغطية مساحة تعادل ولاية كاليفورنيا الأمريكية بمياه شديدة الملوحة يصل ارتفاعها الى 30 سنتمترا.
وتضيف الدراسة أن هذه المخلفات من المياه شديدة الملوحة يمكن أن تقلل مستويات الأكسجين في مياه البحر قرب محطات التحلية مما يشكل تهديدا حقيقيا للثروة السمكية.
من هذا المنطلق لعل الذين يتساءلون عن أسباب عدم اختيار ألمانيا لفرنسا التي تطل على المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط أو سواحل اسبانيا الممتدة من المحيط الأطلسي الى البحر الأبيض المتوسط أو سواحل إيطاليا التي تحيط بها المياه من الجهات الثلاث، لإنتاج الهيدروجين الأخضر وتأمين احتياجاتها، وجدوا الإجابة عن تساؤلاتهم. وإذا علمنا ان هذه الطاقة الهيدروجينية الخضراء لا تنضب عكس الطاقة الأحفورية المهددة بالاندثار، وإذا علمنا بإمكانية تحويل هذا الهيدروجين الأخضر الى كهرباء أو غاز اصطناعي واستخدامه لأغراض منزلية وتجارية وصناعية وفي وسائل النقل الجوي والبري والبحري أيضا، تتضح الرؤية ونقف عند خطورة هذه الصفقة وهذا الاتفاق الخماسي.
استمرار الأسلوب الأوروبي الاستعماري
كما نقف عند حقائق مريرة ومؤلمة، تفيد بأن أوروبا باقية على أسلوبها الاستعماري العنصري الذي ينتصر لشعوبها ومصالحه على حساب الآخر الذي توظف منظومته السياسية لتضليله، وللتوقيع على الاتفاقيات لشرعنة عملية النهب والسرقة.
ولا تقف المنظومة الاستعمارية عند هذا الحد بل تمعن في الاستخفاف بشعوبنا من خلال توظيف “ماكينة” إعلامية و”جوقة” من الشخصيات لتمرير هكذا اتفاقيات وعقود وقوانين ملغومة ومسمومة تكرس استعمارها في المنطقة وفي البلاد، وتمدد في حالة التبعية والمديونية، وهو ما دأبت على فعله منذ حصول البلاد على “استقلالها”.
وفي هذا المستوى يمكن التذكير بما قامت به هذه المنظومة الاستعمارية لتمرير اتفاقية الشراكة لسنة 1995 واتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق مع الاتحاد الأوروبي. ففضلا عن أنه لم يتم انجاز دراسات علمية تكشف جدوى وتأثير الانفتاح على الاقتصاد الوطني ومنظومات الإنتاج ليتم أخذها في الاعتبار عند عملية التفاوض المزعوم، تقوم هذه الجهات الأجنبية من خلال منظمات من المجتمع المدني وبتمويل من مؤسسات ألمانية وفرنسية مرتبطة بوزارات خارجيتها بتجنيد وسائل الاعلام ومجموعة من الشخصيات للترويج لأفكار يتم ضبطها مسبقا ويتبناها الاعلام والشخصيات المختارة لمزيد تضليل الرأي العام المحلي مع الحرص على تهميش كل صوت مخالف أو معارض.
هذا الأسلوب واصلت المنظومة الاستعمارية في استخدامه بالتواطؤ مع الدولة العميقة بعد الثورة، وها هي تلجأ إليه لتمرير صفقة الهيدروجين الأخضر. ولئن لا تحتاج المنظومة الاستعمارية لتزكية ومباركة الرأي العام المحلي لتمرير صفقاتها وقوانينها واتفاقياتها، فان ذلك يندرج ضمن عقيدتها التي تقوم على الخداع والنفاق، ليتم تنظيم عديد الملتقيات والندوات في بداية سنة 2024 بتمويل من منظمات أجنبية دعت لها وزراء تونسيون سابقون وخبراء في المجال تشبعوا بأفكار المستعمر وتبنوها، لا ندري ان كانوا أغبياء حقا أو أنهم تشبعوا هم أيضا بالنفاق، وروجوا “لضرورة انخراط تونس في السوق العالمية للهيدروجين الأخضر وأهمية أن تكون تونس سباقة في هذا المجال والتحول الى قطب مصدر للطاقة الخضراء وعلى راسها الهيدروجين الأخضر باعتبار ما لذلك من عائدات إيجابية على الميزانية العامة للبلاد وعلى استقطاب الاستثمارات الضخمة في مجال الطاقات المتجددة”.
مسار الانهيار الشامل
الندوات والملتقيات التي شهدتها تونس خلال سنة 2024، لم تكن سوى تتويجا لسلسلة من التظاهرات التي حرصت الجهات الأجنبية على تنظيمها مباشرة بعد المصادقة على الاستراتيجية الأوروبية للهيدروجين الأخضر، والاقرار بتأمين حاجيات أوروبا من هذه المادة عبر التوريد الذي لا يمس من الامن الطاقي لأوروبا.
وفي هذا السياق جاءت المبادرة الأولى مع السلط التونسية من ألمانيا، من خلال المؤسسة الألمانية GIZ لتوقع تونس مع برلين في سنة 2020 على اتفاقية تعاون بقيمة 31 مليون أورو لتطوير قطاع الهيدروجين الأخضرفي تونس، وينطلق الاعداد لاستراتيجية وطنية للهيدروجين الأخضر خالية من دراسة للآثار البيئية والاجتماعية لمشروع الهيدروجين الأخضر، رغم ارتفاع الأصوات الرافضة لهذا المشروع الذي لا ترى فيه الدولة العميقة، سوى مصدرا لتدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة والحصول على إعانات ومنح وقروض.
ورغم تصنيف تونس ضمن أكثر الدول جفافا في حوض البحر الأبيض المتوسط، فقد تم الاختيار في مرحلة أولى على ولاية قابس لإقامة محطات تحلية مياه البحر، وعلى أراضي الجنوب لإقامة الألواح الشمسية، رغم رفض المواطنين لذلك. وفي الوقت الذي ينتظر فيه التونسيون بوادر انفراج للأزمة الاقتصادية والمالية، انتهت الدولة العميقة من وضع لبنة جديدة في مسار الانهيار الشامل عنوانها الهيدروجين الأخضر.