العرب من فكرة “التكامل الاقتصادي”… إلى “الزلزال” المدوّي
بقلم / جنات بن عبد الله
لا ينكر أحد من شعوبنا العربية أهمية حلم التكامل الاقتصادي العربي والاندماج في تكتل اقتصادي قوي لتحقيق الرفاه الاجتماعي والاستقرار الاقتصادي والسياسي. هذا المطلب لا يزال قائما رغم الصدمات والنكسات التي واجهتها المنطقة العربية منذ إنشاء جامعة الدول العربية في سنة 1945، والتي حملت معها مشروع إقامة السوق العربية المشتركة.
ومنذ ذلك التاريخ انطلق قطار إنجاز هذا الحلم على مستوى القرارات وبعث المؤسسات والهياكل المرافقة للعمل العربي المشترك، وسارع الخطاب السياسي العربي الى رفع شعارات التكامل العربي، ومنّى المواطن العربي النفس بتحقيق هذا الحلم، عله يساهم في التخفيف من معاناته في مواجهة الفقر والبطالة والجهل والتهميش، ليصطدم في كل مرة بصدمة أو نكسة تعيده الى المربع الأول.
قائمة من مؤسسات التكامل.. بلا تكامل
اليوم يمر 61 عاما على الإعلان عن السوق العربية المشتركة (13 أوت 1964 )، وعلى مشروع التكامل الاقتصادي، لنجد في جراب هذا المشروع قائمة طويلة من المنظمات السياسية والاقتصادية والثقافية والتعليمية والعلمية والرياضية، نذكر منها البرلمان العربي، واتحاد المغرب العربي، ومنظمة الدول العربية المصدرة للبترول، (التي تغير اسمها بمقترح من المملكة السعودية لتصبح المنظمة العربية للطاقة وذلك في اخر اجتماع للمنظمة بالكويت يوم 15 ديسمبر 2024) ، والمنظمة العربية للتنمية الصناعية والتعدين، وصندوق النقد العربي، والمنظمة العربية للتنمية الزراعية، ومجلس التعاون لدول الخليج العربي…والقائمة تطول.
كما نجد في جراب هذا المشروع قائمة طويلة من الاتفاقيات الثنائية ومتعددة الأطراف، الى جانب القرارات والإجراءات، لنقف عند حقيقة واضحة ومرة، يعكسها جراب الإنجازات، وهو جراب شبه فارغ لا يعادل ما فيه ما احتواه جراب المنظمات والمؤسسات العربية المشتركة.
في المقابل شهد العالم تطورات وتحولات جذرية، وظفها الغرب وترجمها الى اتفاقيات وأحكام دولية وقوانين اتخذت من النظرية الاقتصادية الكلاسيكية للتقسيم الدولي للعمل، الذي يقوم على الامتيازات النسبية، مرجعيته الفكرية، لتأخذ هذه النظرية أبعادا جديدة مع العولمة، بعد انشاء المنظمة العالمية للتجارة في سنة 1995 وفقا لاتفاقية مراكش لتؤسس لعولمة اقتصادية تستند لأحكام دولية ذات طابع الزامي في مجال العلاقات التجارية الدولية، ليشهد العالم منذ ذلك التاريخ، انشاء عدد هام من مناطق التجارة الحرة، والاتحادات الجمركية والأسواق المشتركة والاتحادات الاقتصادية والنقدية على غرار الاتحاد الاقتصادي والنقدي الأوروبي، والسوق المشتركة لدول أمريكا الجنوبية، واتفاقية التجارة الحرة لدول أمريكا الشمالية( نافتا).
تكتلات اقتصادية أخرى
وعرفت مناطق أخرى تكتلات اقتصادية مماثلة، مثل رابطة دول جنوب شرقي اسيا (أسيان) والسوق المشتركة لشرق وجنوب افريقيا (الكوميسا) والاتحاد الجمركي لدول مجلس التعاون الخليجي.
من جهة أخرى، وأمام تعثر المفاوضات متعددة الأطراف، كان الاتجاه نحو إبرام اتفاقيات تبادل حر على غرار اتفاقية التبادل الحر بين الاتحاد الأوروبي وعدد من الدول العربية (تونس في سنة 1995، والمغرب في سنة 1996، ومصر 2001، والجزائر 2002).
إلى جانب ذلك كانت هناك اتفاقيات تبادل حر بين الولايات المتحدة الامريكية والأردن في سنة 2001 والمغرب في سنة 2004.
ورغم هذه الموجة من الاتفاقيات لإقامة مناطق تبادل حر في العالم، لم يشهد التكامل العربي النور، بل بقي مشروعا وحلما أسال الكثير من الحبر بحثا عن أسباب عدم تحقيقه، رغم توفر كل الشروط والمقومات التي اعتمدتها النظرية الاقتصادية الكلاسيكية من جهة، ورغم المزايا والمكاسب التي يقدمها هذا التكامل الاقتصادي للاقتصاديات العربية في مواجهة تحديات العولمة، وما توفره من عوامل استقرار اقتصادي واجتماعي وسياسي من جهة أخرى.
في هذا السياق يمكن القول أنه الى غاية تسعينات القرن الماضي كانت مقومات التكامل الاقتصادي العربي، كما هو منصوص عليها في النظرية الاقتصادية والمتمثلة في الثروات الطبيعية، وتعدد القواسم المشتركة فيما بين هذه البلدان، من لغة، وحضارة، وثقافة، وتاريخ، ودين … هذه المقومات كانت أكبر من حلم التكامل الاقتصادي، وكانت أيضا دون هذا التطلع لإقامة تكتل اقتصادي عربي. بل إن كل هذه العوامل والمقومات كانت ولا زالت تمثل أرضية ودافعا لإقامة فدرالية عربية على غرار الولايات المتحدة الامريكية وليس تكاملا اقتصاديا.
نعتقد أنه حان الوقت لتعديل البوصلة والاقتناع بقدراتنا وحقيقتنا. فنحن شعوب لم تخلق لتمارس عليها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي هيمنتها.
الكونية.. والدمار الشامل الاقتصاديّ
ونحن شعوب تؤمن باختلاف الحضارات وتنوعها وترفض نظرية صراع الحضارات التي استند اليها الغرب في التأسيس لبنيته الفكرية ليفرض على العالم مفهوم الكونية.
هذه الكونية التي اتخذت كذريعة للهيمنة الثقافية والسياسية والاقتصادية وشرعت لقيام الفكر الواحد والسوق الواحدة والقوانين الواحدة والعملة الواحدة (الدولار).
فأحكام اتفاقيات المنظمة العالمية للتجارة قامت على هذا الفكر الواحد، وهذه الكونية التي جعلت من العالم قرية صغيرة، صحيح بفضل الثورة الاتصالية، ولكن هذه القرية تحتكم الى قوانين كونية وأحكام كونية تم الترويج لها من خلال نظريات اقتصادية وأفكار فلسفية وردية، تمجد هذا التوحيد الذي يخفي حقائق خطيرة ووجها ثان يقوم على إبادة الاخر وسحقه وليس على أساس التعايش.
ونشير في هذا السياق الى أن البلدان العربية لم تشارك لا من قريب ولا من بعيد في صياغة وتصميم أحكام اتفاقيات المنظمة العالمية للتجارة، التي جاءت على مقاس الشركات العالمية ورأس المال العالمي، وعملت على حماية مصالحها على حساب الاخر، وهذا الآخر هي البلدان النامية، ومنها البلدان العربية، لتحمل هذه الاحكام ألغاما وسموما، إذا ما استعملها الآخر، تدمره الدمار الشامل. وهذه عبقرية أخرى لدى الغرب في صياغة اليات الدمار الشامل الى جانب الدبابة.
قد يتساءل البعض عن علاقة هذا الطرح بموضوع التكامل الاقتصادي العربي، وهو سؤال مشروع، لنقول أن العالم العربي اليوم يعيش الفصل الأخير، أو بكثير من التفاؤل، الفصل قبل الأخير من مرحلة الاندثار. بل نحن نعيش اليوم على وقع تفكيك الدولة الوطنية من الداخل، واندثارها ومسحها من الخارطة من الخارج، وهو ما كشفت عنه حرب 7 أكتوبر ،2023 وعملية طوفان الأقصى الى حد اليوم، وآخرها ما جاء في موقع رسمي إسرائيلي بخصوص إسرائيل الكبرى، حيث ادعى الموقع أن مملكة إسرائيل قائمة منذ ثلاثة آلاف سنة، وأن هذه المملكة تضم أجزاء من الأردن وسوريا ولبنان، وأن إسرائيل الكبرى هي من النيل الى الفرات.
في ذات السياق بشر الرئيس الأمريكي المنتخب ترامب الإسرائيليين، بالوقوف الى جانبهم في رؤيتهم التوسعية حيث صرح بالقول: “ان مساحة إسرائيل تبدو صغيرة على الخارطة ولطالما فكرت كيف يمكن توسيعها”.
المنطقة العربية أمام زلزال ضخم
في ظل هذه المستجدات يبدو أن المنطقة العربية مقبلة على زلزال كبير يرمي الى مسحها من الخارطة، وهو أمر مخطط له وليس بالجديد على المنطقة.
فقذف كيان غريب في المنطقة، وهو الكيان الصهيوني، هو المدخل لذلك. ولئن أخذ الصراع أبعادا جديدة اليوم بفضل طوفان الأقصى، فان الصمت العربي وخذلان الانظمة العربية يبعث على الحيرة والتساؤل.
وفي هذا المستوى لا بد أن نفرق بين الشعوب والأنظمة السياسية حيث اتضح أن أغلب هذه الأنظمة لا تمثل شعوبها بل أن هناك صراعا خفيا قائما بين هذه الشعوب وأغلب هذه الأنظمة. وليس من الصدفة أن يكون الوضع في أغلب هذه الدول العربية مماثلا وخاصة على المستوى الاقتصادي الذي يتسم بالهشاشة وارتفاع المديونية وانهيار العملة الوطنية، وباختلال ميزان المدفوعات والميزان التجاري بما يعكس عمق التبعية للغرب، تبعية طالت اليوم كل المجالات بعد أن كانت محدودة ومسيطر عليها في تسعينات القرن الماضي.
وضعية استدرجت لها الشعوب بتواطؤ بين أغلب الأنظمة العربية والقوى الغربية المهيمنة عبر المؤسسات المالية الدولية والأسواق العالمية للنفط والمواد الأساسية خاصة، وعبر اتفاقيات التبادل الحر التي دمرت النسيج الصناعي لهذه البلدان مع نهاية القرن الماضي وها هي تأتي اليوم على القطاع الفلاحي وما يعنيه ذلك من تدمير لمقومات الأمن القومي العربي بصفة عامة وليس الأمن الغذائي فقط.
خلاصة القول، لقد فقدت البلدان العربية اليوم أغلب مقومات قوتها، بما في ذلك ثرواتها الطبيعية التي استحوذت عليها الشركات متعددة الجنسيات تحت عناوين مختلفة، ودخلت اليوم مرحلة التفريط في أصولها ومؤسساتها العمومية، كما هو الشأن في مصر، تحت غطاء الية تحويل الديون الى استثمارات. كما دخلت مرحلة التفريط في مواردها البشرية وكفاءاتها العلمية بإصرارها على اتباع سياسة تقشفية دمرت بها المؤسسات العمومية والمرفق العمومي وقضت من خلالها على الطبقة المتوسطة بسياسة تجميد الأجور والتخلي عن دعم المواد الاساسية والمحروقات والترفيع في الضرائب.
لقد انخرطت البلدان العربية في مسار العولمة ومسار الكونية، وسلبت من كل مقومات قوتها، بما في ذلك اللغة، لتغرق في المديونية والتبعية وتسقط في فخاخ هيمنة اخترقت الدولة الوطنية، وحولتها الى دولة عميقة مررت عبر برامجها سياسات تجويع الشعوب العربية وتركيعها.
لقد تراجعت اليوم الأوضاع في عالمنا العربي، وفقدت مقومات التكامل الاقتصادي العربي بما يفرض ضرورة التحرك، نحو معركة إنقاذ الذات العربية والأراضي العربية، ولن يكون ذلك دون إطلاق صيحة استغاثة لجزء من علمائنا وجزء من مفكرينا، وجزء من مثقفينا (الذين نجحوا في التحرر من هيمنة الفكر الغربي) لإخراجنا من هيمنة فكر غربي مدمر للآخر، وإنتاج فكر عربي جديد، يقوم على حق الاختلاف والتنوع واحترام الآخر.
** خبيرة في السياسات الاقتصادية والمالية