المرأة التي قالت “لا” للاستبداد.. و”لا” للإسلام السياسي بعد الثورة
بقلم / صالح عطية
عرفت ميّة الجريبي، المناضلة السياسية والحقوقية، التي غيبها الموت صباح السبت ببيتها، عن سنّ تناهز 58 عاما (ولدت يوم 29 جانفي 1960)، بشراستها الشديدة، للاستبداد والتطرف يمينا ويسارا، ومقارعة شديدة للإسلام السياسي، سيما بعد الثورة، وبخاصة خلال حكم الترويكا.
كانت الفقيدة، لا تفصل بين السياسي والنضالي، فلم تتخذ من السياسة خطابا صالونيا، إنما كانت في الساحات العامة، تخطب، وتشارك في المسيرات والمظاهرات، ترفع صوتها كلما كان ذلك ضروريا، بلا غوغائية، ومن دون صخب، بل من أجل أن تساهم في وضع لبنة جديدة في الصرح الديمقراطي لبلادنا.
لم يقلقها مطلقا، أن تنزل للساحات دفاعا عن الفكر الديمقراطي، وعن تونس جديدة، حرة وذات سيادة حقيقية، تونس لكل التونسيين، إلا من اختار أن يكون خارجها.
عندما اختار بن علي، قمع الحزب الديمقراطي، ومن ورائه الحركة الديمقراطية، ووأد الحريات، كانت ميّة في المقدمة، بل في الواجهة، تكتب.. تخطب.. تعلي من صوتها.. بحشرجات المرأة الغاضبة.. ولكن بعقلانية قلما توفرت لسياسيين آخرين..
وعندما كان من اللازم، بل من الواجب، أن تخرج لبيع صحيفة “الموقف” في الساحات العامة، لحظة محاولة منع ترويجها من قبل الطاغية، فعلت ذلك بكل إصرار وتحدّ. ليس هذا فحسب، بل قررت دفع حياتها ثمنا للحفاظ على الحزب ومنعه من التفتت والتلاشي، عندما قرر بن علي إخراج الحزب من مقراته بالعاصمة، فأضربت عن الطعام، حتى كادت ــ رفقة صديقها ورفيق دربها، نجيب الشابي ــ أن تقضي، قبل أن تضطرّه للتراجع عن قراره، صاغرا، وبلا شروط.
لكنّ الجريبي، التي ورثت المعارضة للحكم الفردي والاستبدادي، عن والدها، الذي ساند الزعيم، صالح بن يوسف ضد الزعيم الحبيب بورقيبة، إبان استقلال البلاد في العام 1956، كانت لديها “حاسّة شمّ” الإستبداد، لذلك لم تقرأ في حكم ما بعد الثورة، سوى أنه مؤشرات لعودة الطغيان، بجلباب جديد، فقامت في البلاد بصوت كان من أشدّ الأصوات ارتفاعا واندفاعا وإقداما على مناكفة الحاكمين الجدد، فالقناعة الديمقراطية، مبدأ، مهما تغيرت ألوان الإستبداد وأشكاله ومظاهره وترميزاته وتعبيراته المختلفة والمتخفية والمختفية خلف مقولات وعناوين وجمل رنانة، خصوصا إذا ما كانت دينية.
اشتغلت ميّة صحبة رفاقها في التجمع الاشتراكي، ثمّ الحزب الديمقراطي التقدمي، وصولا إلى نسخة ما بعد الثورة، عندما أصبح الحزب الجمهوري، على عناوين أساسية في مسيرتها السياسية، وهي الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان، ونبذ الحكم الفردي.
آمنت “ميّة” بالعدالة الانتقالية، كجسر للعبور نحو مستقبل مشترك للتونسيين، واعتبرت أنّ محاسبة من تورط في الفساد، لا ينبغي أن يكون في شكل جماعي، لأن ذلك ضدّ المنطق الديمقراطي، بل ضدّ منطق المحاسبة، وتأسيس لاستبداد جديد، لا يمكن أن يمرّ في بلد، ثار شعبه من أجل لحظة تاريخية جديدة، تستبعد كل محاولات العودة القهقري إلى الخلف، بعناوينه الثقافية أو الفكرية أو الدينية أو السياسية..
ميّة الجريبي، ماتت جسدا، لكنّها ستظل رمزا من رموز النساء التونسيات المناضلات، ونموذجا للمرأة التونسية الجديدة، التي كانت لحياتها معنى، وسيظل لموتها رمزية كبرى في وقت نفقد فيه الرموز والمعاني.
رحم الله الفقيدة رحمة واسعة..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقال نشر في جريدة “المغرب” بتاريخ 21 ــ 05 ــ 2018