أهم الأحداثاقتصاد عالمياقتصادياتمقالات رأي

بعد حرب الإبادة على غزة… أليس من حق شعوبنا رفض برامج صندوق النقد الدولي ؟؟

** جائزة نوبل للاقتصاد... نموذج بوتسوانا.. وسحق الاقتصادات الوطنية

بقلم / جنات بن عبد الله

أعلنت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم يوم الاثنين 14 أكتوبر 2024، عن حصول ثلاثة اقتصاديين على جائزة نوبل للاقتصاد لسنة ،2024 وهم التركي دارون عجم أوغلو (57 عاما) والبريطاني سايمون جونسون (61 عاما) اللذان يعملان في معهد ماساتشوستش للتكنولوجيا، والبريطاني جيمس روبنسون (64 عاما) من جامعة شيكاغو، المقيمون ثلاثتهم في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك لقاء أبحاثهم المتعلقة بتشخيص أسباب “انعدام المساواة في توزيع الثروات بين الدول”.

مفهوم الحكومة الجيدة
ولئن يتساءل البعض عن أهمية مثل هذه الأبحاث لتكون موضوع اهتمام الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم، وتخصيصها بجائزة نوبل، والحال أن العالم يعيش اليوم تحت تأثير الحروب والأوبئة وارتفاع أسعار المواد الأساسية، بما يهدد البلدان الفقيرة بمزيد الفقر والجهل والمرض والأوبئة والمجاعة والدمار، تظهر استنتاجات هذه الابحاث الغاية من إبراز هذا الموضوع وتسليط الأضواء عليه من خلال آلية جائزة نوبل، باعتبار التفاوت المسجل اليوم بين معسكر الدول المتقدمة ومعسكر البلدان النامية والفقيرة، رغم ادعاءات الدول المتقدمة بخصوص ما يوفره النظام الاقتصادي العالمي من برامج ومساعدات مالية وفنية، لإخراج هذه البلدان من أزماتها المالية والاقتصادية والاجتماعية.

الإشكالية التي طرحتها هذه الأبحاث، تتعلق بالأسباب التي ساهمت في توصل بعض البلدان، إلى تحقيق نجاحات اقتصادية واجتماعية فيما فشلت أخرى في ذلك، والبحث في دور المؤسسات المجتمعية وتأثيرها على الازدهار، وعلى تقليص الفجوة في الدخل بين البلدان في العالم.

الفائزون بنوبل للاقتصاد لسنة 2024، لم يخفوا دور العامل التاريخي في بناء القدرات التنموية في البلدان النامية والفقيرة ليقروا، بناء على خلفيتهم الفكرية وانتماءهم الأيديولوجي، بأن الدول المستعمرة يمكنها الازدهار بعد حصولها على الاستقلال مستندين في ذلك الى أمثلة شملت عددا من البلدان مثل بوتسوانا وسنغافورة، واعتبر الباحثون أن الجواب يكمن في وجود “حكومة جيدة”.

طبعا هؤلاء الاقتصاديون المقيمون في الولايات المتحدة الأمريكية، المتشبعون بالليبرالية وبشعارات حقوق الانسان، التي فضحتها حرب الإبادة على غزة، قدموا تعريفهم “للحكومة الجيدة” التي يجب أن تكون في البلدان النامية مستشهدين في ذلك بالتجربة في بوتسوانا..

بيان الأكاديمية الملكية للعلوم قدمت في بيان صادر لها بالمناسبة، ملامح هذه “الحكومة الجيدة” وشروطها وذلك حسب نتائج أبحاث الاقتصاديين الثلاث، حيث أشارت الى أن “الباحثين أثبتوا أهمية المؤسسات المجتمعية في تحقيق الرخاء في الدول”. مضيفة “أن المجتمعات التي تفتقر الى سيادة القانون والمؤسسات لا تحقق النمو أو التغيير نحو الأفضل.

نموذج بوتسوانا
واستنادا الى التجربة البوتسوانية، فإن “الحكومة الجيدة“، حسب أبحاث الاقتصاديين الثلاث، هي تلك التي توصلت الى إرساء الديمقراطية وتوفير الشفافية وضمان استقلالية القضاء، ونجحت في الضغط على الاجراءات البيروقراطية، وأمنت الانفتاح الاقتصادي، ورفع كل القيود أمام تنقل رأس المال، وخروج أرباج الاستثمار الأجنبي المباشر دون رقابة ولا قيود، كما رفعت كل رقابة على سعر الصرف..

فبوتسوانا التي تحصلت على استقلالها سنة 1966، لم تضع مخططات تنموية لبناء اقتصادها الذي دمره الاستعمار البريطاني، الذي جعل منها أفقر دولة في افريقيا، بل أرست منذ اللحظة الأولى سياسة الانفتاح الاقتصادي، ورفعت كل القيود أمام التجارة الخارجية، بل إنها منعت كل تضييق على التجارة والتصدير ونقل الأموال الى الخارج، بما يعني أنها فتحت البلاد أمام الرأس المال العالمي والاستثمار الأجنبي المباشر، وأطلقت أياديه للاستحواذ على أهم ثروة في البلاد، وهي الألماس في سنة 1969 من قبل شركة أوروبية وهي شركة “ديبسوانا الأوروبية” للتنقيب على الألماس في أراضي الدولة، لتتوالى الاكتشافات ويرتفع الإنتاج وتقوم الحكومة باقتلاع حصتها من الأرباح التي ضمنتها في مستوى الخمسين بالمائة، في اطار عقد استغلال تحصلت عليه بصعوبة، لتنطلق الحكومة في تمويل ميزانية الدولة من عائدات هذا العقد..

المنهج الليبرالي
الاعلام الغربي انخرط في تسويق التجربة البوتسوانية على أنها معجزة اقتصادية في إفريقيا، كما فعل في فترة من تسعينات القرن الماضي مع تونس، على أنها نموذج للنجاح في المنطقة، وها أن الحائزين على جائزة نوبل للاقتصاد، حولوا بتسوانا الى نموذج للبلد الناجح، ويعزى نجاحه حسب رأيهم، الى الحكم الرشيد والى وجود “حكومة جيدة”، طالما أنها في خدمة رأس المال العالمي..

المتابع لقوانين هذا البلد يقف عند حقائق تكشف طبيعة المسار الذي انخرط فيه، مسار يقوم على تبني المنهج الليبرالي ونظام اقتصاد السوق وخصخصة المؤسسات العمومية وتحرير التجارة الخارجية وتحرير تنقل راس المال ورفع كل القيود على تحويل أرباح الشركات الأجنبية، بعبارة أخرى اقتصاد يسيطر عليه رأس المال الأجنبي ويوظف السلطة السياسية لخدمة مصالحه. وضع تطمح له كل القوى الغربية التي لا تتردد في جعل مثل هذا البلد تحت وصايته بعيدا عن الاحتجاجات الاجتماعية، ومطالب المنظمات المهنية والنقابية بما يضمن الاستقرار المنشود..

في قطيعة مع مصالح الشعوب
كما أنّ الاستقرار الذي تتحدث عنه أبحاث هؤلاء الاقتصاديين، الباحثين عن أسباب نجاح بوتسوانا وغيرها، هو استقرار في خدمة رأس المال العالمي. والديمقراطية والشفافية التي يتحدثون عنها هي أيضا في خدمة هذه الفئات، ولا أثر في هذا النموذج للمواطن البوتسواني، ولا أثر للمفهوم الوطني، ولا أثر للحكومة الوطنية..

في هذا المستوى، تتعرى الحقائق وتتعرى المفاهيم، كما تعرى المجتمع الدولي في حرب غزة، الذي تحول الى مدافع عن الباطل ومغتصب للحقوق ومجرم متوحش، بل وظف كل ترسانته العسكرية والاستخباراتية والإعلامية لإبادة أصحاب الأرض وأصحاب الحق على مرأى ومسمع من الجميع في خطوات واعية وإرادية لتزوير التاريخ والحاضر، لينتشل تاريخ 7 أكتوبر 2022 مسار تزوير المستقبل ويقتلعه من مخالب الغرب..

إدماج هذه الأبحاث في مسار جائزة نوبل، ربما جاء كرد فعل للانتقادات المتنامية الموجهة للمؤسسات المالية العالمية وللنظام الاقتصادي العالمي، بقيادة الولايات المتحدة الامريكية، في ظل الزحف الصيني الذي نجح في الاستحواذ على مواقع في إفريقيا كانت ضمن النفوذ الأمريكي..

هذه الأبحاث، والممولين الذين يقفون وراءهم، تعمل على تعميق تركيز أفكار ونظريات اقتصادية شرعت لاستعمار جديد، يقوم على تبني الانفتاح وفتح الحدود أمام استثمار أجنبي مباشر، وصناديق استثمار متعدد الجنسيات منذ ثمانينات القرن الماضي، وهي تعمل اليوم على تجديدها وإعادة انتاجها وتسويقها لضمان سيطرتها في مواجهة التعددية القطبية الزاحفة، والأصوات الناقدة لليبرالية متوحشة..

حرب وجود حقيقية
هي حرب وجود بامتياز، تخوضها شعوب البلدان النامية والفقيرة، وهي ليست حرب تقليدية بالدبابة، لكنها لا تقل عنها شراسة وفظاعة، هي حرب تستهدف البنية الفكرية والعقلية للشعوب من أجل تعديلها على مقاس البوصلة الغربية العنصرية التي لا تعترف بالآخر، بل تعمل على إبادته بسياسات تقشف وحشية، وبرامج إصلاحات هيكلية اقتصادية مدمرة، وسياسة نقدية ساحقة لكل محركات النمو الاقتصادي..

أبحاث جائزة نوبل للاقتصاد هي إحدى تفصيلات هذه البوصلة، وجائزة نوبل للاقتصاد لسنة 2024 جاءت لتنفي مفهوم الحكومة الوطنية النابعة من تطلعات الشعوب، والساهرة على تحقيق أولوياته وليس أولويات رأس المال الأجنبي، كما هو الشأن في تونس منذ سنة 1969 تاريخ توقيع أول اتفاقية شراكة مع المجموعة الاقتصادية الأوروبية، حيث تم تحويل وجهة المخططات التنموية لخدمة التصدير والسوق الخارجية.

هذا الغرب يعمل على تركيز مفاهيم جديدة جوفاء في جميع المجالات، في محاولة منه لسحق ومحو الماضي والحاضر، ودورنا مواصلة المقاومة ورفض الانصياع لبرامج الإصلاحات الاقتصادية لصندوق النقد الدولي، ورفض الاعتماد على قروض خارجية مسمومة.

** خبيرة إقليمية في الشأن الاقتصادي

شاهد أيضا :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى