مناسك الحج وشعائره: قراءة روحانية.. ورؤية في “الرمزيات”
مكة المكرمة ــ الرأي الجديد / منى المجبري
في مكة المكرمة، يتوافد الناس إلى صعيد عرفات لأداء مناسك الحج مرتدين لباس الإحرام، الذي ينزع عنهم جميع الفروقات الاجتماعية والثقافية والوطنية والعرقية والمهنية، وكل ما يمكن أن يميز بعضهم عن بعض ويخلق بينهم مسافات.
الدعاء في عرفات، أو في مزدلفة أو منى، يحمل طابعًا خاصًا جدًا، حيث يُعتقد أن الشيطان يكون حاضرًا هناك، وأن رمي الجمرات يُضعفه بالفعل. هذه الشعائر تجسد ليس فقط تخلصًا من الفروقات الدنيوية، ولكنها أيضًا تذكير بأن القوة الحقيقية تكمن في الوحدة والانسجام الروحي.
يمثل الحج امتحانًا شخصيا، يتعرض فيه كل فرد في عالمه الخاص لذات الوسوسة الشيطانية التي واجهها إبراهيم عليه السلام في شكل مراجعة لـ “معايير العقل والمنطق”. كل حاج يختبر تجربة فريدة مع الشيطان، الذي لا يقترب من الجميع بنفس المدخل والأسلوب. يمكن أن يقترب من الأذكياء بأمور ساذجة للغاية، ويمكن أن يوجد لبعض الأشخاص طرقًا للانحراف عن ثواب الحج- الذي يتطلب تعلم التواضع- ليخرجوا من هذه الرحلة بمشاعر الفخر والكبر.
إن التوازن بين الالتزام بالأوامر الإلهية وفهم المقاصد منها، يتطلب وعيًا عميقًا وفهمًا حقيقيًا للدين. فلا يجوز لنا أن نُكيِّف حسب رغباتنا الشخصية، بل يجب أن نخضع أنفسنا لأوامر الله بطاعة وتسليم كامل. بهذه الطريقة، نستطيع تحقيق الغايات الحقيقية من الدين وتجنب الانحراف عن مساره الصحيح.
بعد الوقوف في عرفات، نخضع لاختبار الأضحية الكبير، الذي يُعد تحديًا يفوق ما قد يتصوره المرء. في هذا الطريق، نكون أكثر عرضة لوساوس الشيطان، فنتساءل: هل نتصدق بالمال بدلاً من ذبح الأضحية؟ هل ينبغي أن نذبح الأضحية في منى أم في بلدنا؟ وغيرها، وغيرها.
في مزدلفة، نستعد لمواجهة كافة الوساوس ومحاولات الإغراء، حيث تزداد صعوبة الكفاح هنا، وتجعلنا ندرك بشكل أعمق عدم وجود مكان ثابت لأي شخص. يتجلى هنا شعور التساوي بين الجميع بصورة أقوى حتى من تلك التي في عرفات.
المشقة في مزدلفة بلا شك تعليمية وتربوية، وهي شيء يجعلك تشعر بجدية وتأصل تجربة الحج حتى النخاع. إن هذه الصعوبات ترسخ فينا قيمة التواضع والصبر والتفاني، وتجعلنا ندرك أن تجربة الحج ليست مجرد طقوس دينية، بل هي رحلة روحية تعيد تشكيلنا من الداخل، وتعلمنا أن القوة الحقيقية تكمن في الإيمان والالتزام بتعاليم الله.
تجربة مزدلفة تذكرنا بأن الحج ليس مجرد تجمع بشري، بل هو اختبار للإيمان والتقوى، حيث تتساوى فيه الأرواح بغض النظر عن الفروقات الدنيوية. في هذا المكان، نعيش تجربة فريدة تُعمق فينا الإحساس بالروحانية والتفاني، وتعلمنا أن نتجاوز متاعب الدنيا في سبيل تحقيق رضا الله والتقرب إليه.
الحصى.. وطاعة الله
ثم يأتي الخروج من عرفات، حيث يتم الاستعداد لرمي الجمرات في المكان المسمى بالعقبة. هنا، سيبيت الحجاج ليلة واحدة، وسيقومون بجمع الحصى تحديدًا من هذا المكان. كل شخص سيجمع حصاه بنفسه، وحجم الحصى الذي سيُرمى معروف. بالطبع، ليس المهم هنا هو الحصى بحد ذاتها؛ بل النية والقرار والإرادة والتوجه إلى الله، وهذا هو ما سيقهر الشيطان ويطرده من حياتنا بكل أساليبه.
من خلال هذه الطقوس، يُظهر الحجاج التفاني والطاعة لأوامر الله، وهو ما يعزز فيهم الشعور بالروحانية والانقياد الكامل لإرادة الله. هذه الشعائر تذكرنا بأن الإيمان يتطلب منا التوجه بكل جوارحنا نحو الله، والتخلي عن كل ما يعوقنا عن طاعته.
بعد الوقوف في مزدلفة يأتي دور رمي الجمرات، وهو موضوع منفصل تمامًا وله دلالات متعددة. يبقى الأمر الأكثر أهمية هو الالتزام بطاعة الله وأداء المناسك كما أمر بها. قد لا نستطيع فهم كل الحكمة الكامنة وراء هذه الشعائر، لكننا نتقبلها بإيمان ونقول: “الله أعلم”. هذا القبول والطاعة يعكسان جوهر الإيمان الحقيقي، حيث نخضع لأوامر الله بثقة وتسليم كامل، مؤكدين أن الغاية النهائية هي رضاه والتقرب إليه.
تأثير الحج العظيم
تجتمع الأمة الإسلامية سنويًا لأداء فريضة الحج، وهي عبادة تحمل في طياتها قيم التسامح والتواضع والتقوى. ومع ذلك، يبقى السؤال: هل تنعكس هذه القيم في سلوك المسلمين اليومي؟ وهل نشهد تجليات حقيقية لهذه التربية الروحية العميقة في حياتهم؟
قد يكون التأثير موجودًا، لكنه يختلف في مدى ظهوره وتأثيره من فرد إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر. فالبعض يجد في تجربة الحج دافعًا قويًا لتغيير سلوكه وتحسين علاقاته مع الآخرين، بينما يحتاج آخرون إلى مزيد من الوقت والجهد لترجمة هذه القيم إلى أفعال ملموسة في حياتهم اليومية.
من المهم أن ندرك أن تأثير الحج ليس لحظيًا فقط، بل هو عملية تربوية مستمرة تتطلب تعزيزًا دائمًا. فالمسلم الذي يعود من الحج محملًا بالدروس والعبر، يجب عليه أن يسعى جاهدًا لتطبيق هذه القيم في حياته اليومية، ليكون قدوة حسنة في مجتمعه، معززًا بذلك روح العدل والسلام والتراحم.
في النهاية، تظل العبادة وسيلة للتقرب إلى الله وتحقيق السكينة الروحية، وعلى كل مسلم أن يسعى لنقل هذه القيم إلى حياته العملية، ليُسهم في بناء مجتمع تسوده القيم الإسلامية النبيلة.