النخبة التونسية.. هل ولدت من جديد ؟؟
بقلم / صالح عطية
أثبتت النخب التونسية على اختلاف مشاربها الفكرية والحزبية، أنّها تستحقّ وضعا أفضل مما يقدّمه عنها الإعلام، وما يحمله عنها الرأي العام في الداخل والخارج.
فقد أظهرت الطبقة السياسية في تونس، لحظة وفاة الرئيس، الباجي قايد السبسي، أنّها في مستوى اللحظة التاريخية، وأنّها تعرف متى تتعالى عن خلافاتها، وتتجاوز تجاذباتها السياسية ومناكفاتها الحزبية، وتتعامل ــ بالتالي ــ مع المستجدّات الوطنية البارزة، بكثير من النضج والرصانة والحكمة والمسؤولية.
ولم تكن هذه المرة الأولى، التي أظهرت فيها النخبة التونسية، أنها في حجم المسؤولية..
برز ذلك خلال الاغتيالات السياسية، التي كان يمكن أن تعصف بالبلاد، وتؤدي إلى حرب أهلية لا تبقي ولا تذر..
وبدا ذلك واضحا خلال “الحوار الوطني” الذي قادته المنظمات الثلاث: اتحاد الشغل ومنظمة الأعراف ورابطة حقوق الإنسان وهيئة المحامين، حيث أبدت الكثير من المرونة والتنازلات الضرورية، المتبادلة، بين اليمين واليسار، ويسار اليمين ويسار الوسط، والمنظومة القديمة والراديكاليون من جميع الاتجاهات، بحيث نجحوا جميعا، في الخروج بالبلاد من عنق الزجاجة التي تردت فيها، بعد عامين من حكم “الترويكا”، شديدين على تونس، وشعبها، وعلى البلاد وتاريخها..
وكان لهذه النخب، دور فاعل في كتابة الدستور التونسي الجديد، دستور الجمهورية الثانية، عبر توافقات مريرة وصعبة ومعقدة، ومناقشات وطروحات ومواقف، موغلة في الإيديولوجيا، ذات اليمين وذات الشمال، ولكنّها، كانت ضرورية، لتجاوز “المرحلة الجامعية”، والدخول في محكّ السياسة والشأن العام، ومقتضيات الدولة التونسية الجديدة… وكان من مخرجات كلّ ذلك، دستور تونسي بصياغة حديثة ومدنية، رغم كلّ عمليات الجذب إلى المربّع الهووي والديني المتحزّب، أو اليسراوي أو القومجي أو الدستوري المزعوم..
واستطاعت ذات النخب كذلك، أن تتجنّب مغامرات “الانقلابات” المدعومة إقليميا، أو تلك التي يخطط لها في غرف مغلقة، من قبل لوبيات الفساد والتهريب، المتمعّشون من الوضع القديم، والراغبون في استمرار ذات “السيستام” بنفس الآليات و”الميكانيزمات” القديمة…
ونجحت هذه النخب أيضا، في أن تتجاوز الأزمة الصحية للرئيس الراحل، وما رافقها من طموحات وهواجس واستتباعات، عبر الاحتكام إلى شكل من أشكال إدارة الأزمة، بهدوء، رغم كل الأصوات التي ارتفعت للتشويش أو التهويل أو افتعال أزمة سياسية صلب الحكم وفي المشهد العام، عبر الإيهام بوجود “محاولة انقلابية برلمانية” لافتكاك السلطة التشريعية، تمهيدا للانقضاض على الحكم، وكأننا في “جمهورية الموز”، أو إمبراطورية “الواق الواق”، كما يقال.. وبرهنت الأيام أنّ هذا السيناريو المزعوم، لا أساس له إلا في خيال منتجيه و”مبدعيه”..
وعندما بلغ هذه النخب خبر وفاة الرئيس الباجي قايد السبسي، مارست مظهرا من مظاهر الحكمة، وكانت على درجة عالية من النضج السياسي، ومن “المسؤولية التاريخية”، وهو ما ينطبق على خصوم الرئيس الراحل، قبل أصدقائه وأتباعه ورفاقه..
تسلّح الجميع في الحكم كما في المعارضة، بقدر عال من الرصانة والحكمة، ونوع من “العقلانية الواقعية”، وفي ظرف خمس ساعات تقريبا، كان الانتقال السلس للسلطة، في كنف الهدوء، وبالاحتكام إلى دستور 2014، ورغم عدم وجود محكمة دستورية قائمة الذات..
لملمت هذه النخب جراحها وحزنها وخلافاتها وصراعاتها، وهي في قلب العملية الانتخابية، أي في قلب رحى التنافس على الحكم وعلى السلطة التشريعية (البرلمان)، واتجه تفكيرها إلى إيجاد مخرج دستوري هادئ لأزمة الشغور الرئاسي، وما هي إلا أربع مقابلات حاسمة ومحددة، بين رئيس البرلمان ورئيس الحكومة ورئيس هيئة الانتخابات، ووفد عن هيئة مراقبة دستورية القوانين ورئيس المجلس الأعلى للقضاء، بالإضافة إلى اجتماع مكتب مجلس نواب الشعب، حتى كانت تونس على موعد مع نخب ضمنت لها انتقالا سلسا، وتداولا سلميا على السلطة، بلا دماء، ولا صراعات “المخزن”، ومن دون تناحر خارج إطار الدستور التونسي..
لم يحتاج الأمر إلى فلسفة كبيرة، رغم أنّ عديد “الفقهاء الدستوريين” المزعومين، حاولوا الدخول “على الخطّ”، لتغيير المعادلة، أو التأثير فيها على الأقلّ، لكنّهم وجدوا الطبقة السياسية الحاكمة، بالأساس، غير مهيّأة، لكثير من الترهات، ووجدوا في المعارضة، تلك العين الرقيبة، لكنّها الداعمة لــ “الحلّ الدستوري”، الدافعة باتجاه استقرار الوضع، في كنف القانون، واستنادا إلى مرجعية الدستور الجديد، فلا استقرار ولا سيادة ولا استمرارية للدولة، إلا من خلال “نصوص” كتبت بدم التونسيين ودموعهم، وصيغت في ظروف عاصفة، ومناخ ملبّد بغيوم الحقد والكراهية ومنطق “العنف الثوري”، و”العنف الديني”، وما شاكل ذلك من تعبيرات ورغبات، كادت تجد صدى لدى بعض الشباب، الباحث عن رمزية أو شكل من أشكال التعبير عن الذات وإثباتها..
باءت جميع هذه النوازع والرغبات والطموحات والسيناريوهات، بالفشل، وانتصرت النخبة التونسية، إلى “عنفوان الوطنية”، والشعور بمسؤولية عالية، لا تشعر بها إلا النخب الكبيرة، قامة وحجما، ورؤية وأفقا تحتاجه البلاد، لكي تقدّم نموذجا ــ مرة أخرى ــ لنخبة ساهمت في ثورة شعب، وكتبت له دستورا جديدا، وهي اليوم تضعه على سكّة الديمقراطية في أبهى ترميزاتها، وهي العملية التداولية على السلطة..
يحق للتونسيين أن يفتخروا بنخبتهم، وببلادهم، التي “دوّخت” العالم الذي يتابع خطوات الانتقال السلمي للسلطة، كما لو أنّ تونس، عريقة في الديمقراطية، وهي ــ بالكاد ــ في سنتها الأولى، لا بل في خطواتها الجنينية الأولى، كما الرضيع الذي يتحسس مشيته وتنقله في بهو البيت.
إنّ ما حصل خلال يوم أمس الأول، من ضمان للتداول السلمي والسلس للسلطة، دليل على أنّ نخبتنا، جديرة باحترام أفضل من شعبها وإعلامها وشبابها..
إنّ نخبة بهذا القدر من الالتزام بالمسؤولية، والشعور الوطني، والأفق السياسي، تستحق أن ينظر إليها بشكل مختلف عن الصورة التي تقدّم عنها، بعيدا عن كلّ ترذيل أو تتفيه أو إسفاف..
لقد ولدت النخبة التونسية من جديد، بفعلها هذا المتحضّر، وهي مطالبة اليوم بأن تحافظ على هذا الرصيد، فلا تضيّعه مرة أخرى..
…. والكرة اليوم في ملعبها..