فرنسا وإيطاليا تواجهان التحدي: التعايش بين “الديمقراطيات” و”اليمين المتطرف” !!!!
** ورقة اللجوء والهجرة هي القشة التي قصمت ظهر البعير
روما ــ الرأي الجديد
عندما فاز التحالف اليميني المتطرف في الانتخابات العامة الإيطالية التي أجريت أواخر سبتمبر الفائت، كان منسوب القلق في العواصم الكبرى لبلدان الاتحاد الأوروبي مرتفعاً منذ سنوات، وهي تراقب عجز الأحزاب السياسية التقليدية عن كبح الصعود المطّرد للقوى اليمينية المتطرفة، التي تتسع دائرة شعبيتها ونفوذها في معظم الدول الأعضاء.
وكان هذا الاندفاع مدفوعاً بمواقفها العلنية المناهضة للهجرة، ومطالبتها بإعادة نظر جذرية في المبادئ والمعادلات التأسيسية التي يقوم عليها المشروع الأوروبي.
ولكن بعد الفوز الكاسح الذي حققته جيورجيا ميلوني، زعيمة حزب «إخوان إيطاليا» الذي قام على أنقاض الحزب الفاشي الإيطالي، وتكليفها تشكيل الحكومة الجديدة، وجد الأوروبيون أنفسهم أمام أول اختبار حقيقي لوصول قوى اليمين المتطرف إلى سدة الحكم في إحدى الدول الوازنة داخل الاتحاد، بعدما كانت تقف على أبواب معاقل السلطة، أو تمسك بمقاليدها في بعض دول الصف الثاني.
وإذ أدركت العواصم الأوروبية الكبرى أن ساعة المواجهة مع هذا التحدي المعلن قد أزفت، جاءت الأزمة التي نشبت بين فرنسا وإيطاليا حول استقبال سفن الإغاثة التي تنقذ المهاجرين غير الشرعيين في المتوسط، لتفتح الباب أمام تحديد «قواعد الاشتباك» في هذه المعركة التي ينتظر أن تكون مديدة بين الطرفين النقيضين داخل الاتحاد الأوروبي المنهمك في صراع إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية والدولية.
ملامح محور أوروبي جديد
مع هذا، ورغم المساعي الحثيثة التي كانت تبذل على جبهات عدة لتطويق هاتين الأزمتين، بقيت باريس مصمّمة على «معاقبة» ميلوني في العلاقات الثنائية وفي الملفات الأوروبية التي تهمّ إيطاليا، وأيضاً ظلت مصممة على توجيه رسالة واضحة إلى الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تتمدّد داخل الاتحاد الأوروبي… والتي بات وصولها إلى الحكم، أو مشاركتها فيه، يتقدم إلى صدارة الهواجس الأوروبية.
يأتي هذا التوتر في العلاقات بين شريكين أساسيين في الاتحاد الأوروبي بعدما كانت فرنسا وإيطاليا قد تجاوزتا مرحلة أخرى شديدة التوتر في عهد الحكومة الإيطالية الشعبوية السابقة، وصلت إلى حد استدعاء باريس سفيرها في روما لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية. ثم تفاقمت العلاقات لاحقاً بفعل التصريحات المتكررة المعادية لفرنسا التي كان يطلقها ماتيو سالفيني، زعيم حزب «الرابطة» اليميني المتطرف والنائب الآخر لرئيس الحكومة الإيطالية.
ولكن، بعد سقوط تلك الحكومة الشعبوية، لعب رئيس الجمهورية الإيطالي ماتاريلا دوراً أساسياً في التهدئة ورأب الصدع بين البلدين. وأثمرت جهود ماتاريلا توقيع اتفاقية للتعاون الاستراتيجي، طوت صفحة الخلافات، ومهّدت لـ«شهر عسل» بين باريس وروما، في عهد رئيس الحكومة الإيطالية السابق ماريو دراغي. ومع هذه الاتفاقية، بدأت تظهر ملامح محور أوروبي جديد بين فرنسا وإيطاليا وألمانيا.
“المشروع الأوروبي”.. والدور الإيطالي
اليوم، ترى أوساط دبلوماسية أوروبية في العاصمة الإيطالية أن الخطأ الذي ارتكبته ميلوني في مقاربتها للأزمة، أعطى باريس فرصة استراتيجية لتفعيل المخطط الذي كان الرئيس الفرنسي يعمل لإعداده مع حلفائه الأوروبيين بهدف تطويق القوى اليمينية المتطرفة الحاكمة في بلدان الاتحاد، و«تحديد» قواعد المواجهة الجديدة مع الدول الأعضاء التي تستهدف «المشروع الأوروبي» أو تسعى إلى تغيير المبادئ الأساسية المشتركة التي يقوم عليها.
في المقابل، فإن المقاربة الإيطالية لهذا الملف الشائك تخضع هي أيضاً لمقتضيات الوضع الداخلي، وتدفع ميلوني إلى التصلّب في موقفها للتعويض عن انسداد الأفق أمامها في معالجة الملفات الأخرى الملحة. وهي هنا توجه رسالة إلى ناخبيها، مفادها أنها مستعدة للذهاب أبعد من حكومة دراغي في معالجة أزمة الهجرة، ولا سيما أنها ليست قادرة في المرحلة الراهنة على تنفيذ الوعود التي قطعتها في حملتها الانتخابية لمعالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الطاحنة.
حسابات ومخاوف
على أي حال، ما تخشاه الأوساط الأوروبية هو أن تؤدي هذه الأزمة وما تنشأ عنها من تداعيات في حال فشل مساعي احتوائها سريعاً، إلى إعطاء ميلوني الذريعة المنشودة لمدّ الجسور مع بلدان «مجموعة فيشغراد». وهذه الأخيرة هي التحالف السياسي الذي نشأ في العام 1991 ويضمّ بولندا والمجر وسلوفاكيا وتشيكيا، التي تسيطر على الحكم فيها أحزاب يمينية تسعى إلى إعادة النظر في القواعد التأسيسية للمشروع الأوروبي وتغيير معادلات النفوذ داخل المؤسسات الأوروبية.
لكن أوساطاً أخرى تميل إلى الاعتقاد بأنه يستحيل على فرنسا وإيطاليا الاستمرار في هذا الصدام… نظراً إلى الترابط الوثيق بين مصالح البلدين. وبالتالي، ترى أن مياه العلاقات الثنائية ستعود قريباً إلى مجاريها.
من إيطاليا… إلى البلقان
في سياق متصل، تقود فرنسا راهناً حملة أوروبية تهدف إلى «كشف الأرقام الحقيقية» لأزمة الهجرة، كما جاء في تصريح للناطق بلسان الحكومة الفرنسية أوليفييه فيران، وتفنيد مزاعم حكومة ميلوني بأن إيطاليا تتحمل وحدها عبء الهجرة غير الشرعية الوافدة إلى بلدان الاتحاد الأوروبي. وتستند هذه الحملة إلى بيانات المرصد الأوروبي «يوروستات»، التي تفيد أن عدد المهاجرين غير الشرعيين الذين وصلوا إلى إيطاليا منذ بداية هذا العام حتى نهاية الشهر الفائت، بلغ ضعفي الذين وصلوا خلال الفترة ذاتها من العام الماضي، في غياب أي استراتيجية للتنسيق مع بلدان المنشأ والعبور، والتركيز على استهداف المنظمات غير الحكومية وسفن الإنقاذ التابعة لها، التي أنقذت 10 آلاف مهاجر من أصل 100 ألف تقريباً وصلوا منذ مطلع العام الحالي.
ونبهّت باريس من جهتها، إلى أن تدفقات الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا عبر «طريق البلقان» بلغت 128 ألفاً العام الماضي، أي ما يقارب نصف التدفقات الإجمالية التي بلغت 275 ألفاً، وأكثر من تلك التي وصلت إلى سواحل إيطاليا.
وتذكّر الحكومة الفرنسية بأن معظم المهاجرين غير الشرعيين الذين يصلون إلى أوروبا، يطلبون اللجوء لاحقاً في بلدان أوروبا الوسطى، خصوصاً ألمانيا وفرنسا والنمسا. وبالتالي، فإن أي خطة مشتركة يجب أن تأخذ في الاعتبار أن «طريق البلقان» هي البوابة الرئيسة للهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، وليست إيطاليا. ثم إن الغالبية الساحقة من المهاجرين ينتهي بهم الأمر لاحقاً في بلدان أوروبا الوسطى والشمالية.