بين خيارات الأمة وضرورات الأنظمة (الحلقة الرابعة والأخيرة)
أمحمد الهلالي*
إذا كان لقادة حماس حرية تقدير الموقف تبعا للإمكان السياسي وحسب ما تسمح به موازين القوى وإكراهات الوضع الإقليمي والسياق الدولي، فان حق الأمة في قول ما يجب بما يقتضيه المبدأ وما تستلزمه القيم، يظل حقا محفوظا وقائما لان المصلحة المظروفة لا يمكن أن تكون على حساب المبدأ الأصلي.
ولهذا فان التذكير بالمبدأ من قبل من يوجد في وضعية الخيار، لا يصادر الحق في التقدير بالنسبة لمن يوجد في وضعية إكراه واضطرار، بشرط أن يبقى تقديره لضرورته، في حدود ما وقع فيه من إكراه وأن لا يتجاوز في ذلك إلى حقوق غيره.
إن منطق الحق، ينبغي أن يكون هو الرقيب على متطلبات الموقف، حتى لا تتم المغالاة والانزياح عن قدر الضرورة المبيح للقسط الذي يناسبه من المحظور، وللقدر الذي يتيحه من الاستثناء على القاعدة.
إن النظام السوري المجرم الذي يتفوق على الكيان الصهيوني في قتل الأبرياء وإزهاق الأرواح المعصومة لا يتعين أن يؤدي التعامل الاضطراري معه إلى أي شرعنة لأفعاله أو إسقاط لجرائمه بالتقادم، ذلك أن دعم المقاومة في فلسطين على فرض أن للنظام وليس للشعب السوري الفضل الأكبر فيه، فان ذلك لم يكن في المقام الأول إلا دفاعا عن الأمن القومي لهذا النظام ودفاعا عن مصالحه الحيوية، لان مقاومة صامدة وقوية في جبهة التماس مع العدو الصهيوني في أرض فلسطين، هو ما يعفي هذا النظام من كلفة ومخاطر المواجهة المباشرة في خط الدفاع الأخير على الأراضي السورية أو في تخومها .
إذا كان التعامل مع هذا النظام القاتل لشعبه يمثل ضرورة لا مناص منها وتقتضيها مصلحة البحث عن حاضنة سياسية لم تعد متاحة للمقاومة في ظل الهرولة والتطبيع وتسابق الأنظمة العربية والإقليمية للانخراط في مشروع صهينة المنطقة، فانه لا ينبغي أن يكون على حساب الدماء التي سالت والأرواح التي أزهقها والأسر التي شردت والأنفس التي عذبت ولا على حساب مصلحة شعب آخر يقاوم هو بدوره من اجل التحرر من الاستبداد والطغيان ويتوق إلى وضع حد لجرائم القتل والتهجير القسري والإبادة الجماعية والتطهير العرقي والمذهبي الذي يرزح تحته على أيدي النظام السوري القاتل.
إن حق حماس في مقاومة المحتل لا يمكن أن يسمو على حق السوريين في مقاومة الطغيان والاستبداد، وان وفاء حماس لما قدمته سوريا من دعم سخي للمقاومة قبل الربيع العربي سيظل ناقصا ومبتورا ما لم يعترف به لصاحب الفضل الأول وهو الشعب السوري صاحب الملكية الأصلية لهذا الدعم والدافع الحقيقي لفواتيره في ثروته ومقدراته في شكل ضرائب أو في صورة مخصصات مالية انتقصت من ميزانيات التنمية والتموين بالمواد والخدمات الأساسية لفائدة أبنائه.
واليوم رغم دفاعنا عن حق حماس في تقدير الموقف الخادم لقضيتها، فإننا نعتبر تطبيعها مع نظام بشار الأسد بمثابة سقطة تاريخية تسائل مبدئيتها وتضع خطابها في ميزان المعايرة ونؤكد ان نظاما قاتلا لشعبه يبقى فاقدا لأهلية دعم شعب آخر لكي يتحرر من الاحتلال، ومن ثم فان ادعاءه دعم مقاومة شعب مجاور في سبيل الاستقلال وطرد المحتل لا يستقيم مع ضلوعه في إبادته لشعبه الذي يقاوم من اجل الكرامة والحرية ومحاربة الفساد وهو ما يجعل هذه المزاعم منافية للخطاب المبدئي والمعياري و من ثم فان الادعاءات التي يتبجح بها النظام السوري ومحور الممانعة سابقا ليست سوى متاجرة رخيصة ومزايدة بقضية عادلة وإنسانية فاقدة لأي شرعية ومصداقية.
ومع كل هذا النقد في هذه القضية ستظل حماس شامة فوق جبين الأمة رغم هذه السقطة التاريخية التي نأمل ان تتخلص منها في اقرب فرصة ممكنة وان تكفر عنها بما يمحو عارها.
كما إننا كنا سنتفهم هذا القرار على مضض لو كان ضمن مبادرة للوساطة والحل السياسي تقوم بها حماس ولو من جانب واحد، بوصفها وقفت على مسافة واحدة من الأطراف المتحاربة، لكي لا تكون خطوتها معزولة أو ضمن خلاص فردي، لا يأبه بمصائر شعوب توجد في وضعيات متقاربة، ودون مراعاة لردود فعل الأمة ومواقف نخبها وآراء علمائها، وبغض النظر عن التفاعل مع المبادرة قبولا أو رفضا، وبصرف النظر عن حظوظ نجاحها.
وحماس لن تعدم الحجج للقيام بهذه المبادرة تفاعلا مع التحولات الجارية، وسعيا لحقن الدماء ودفعا لشبح التقسيم الذي يتهدد البلاد بفعل التدخلات الأجنبية والأجندات الإقليمية، ووقفا للنزيف الحاد في الأرواح والممتلكات وإصلاحا لذات البين بين فرقاء الوطن الواحد وفي إطار تأهيل المنطقة استعدادا للمرحلة الدقيقة التي يتهيأ لها العالم .
وفي الأخير لا نملك سوى أن نحيي المعتقلين في سجون الاحتلال وأقبية الطغيان وان نمجد الشهداء الذين سقطوا في ساحة الشرف دفاعا عن الأرض أو العرض سواء على يد العدو المحتل في فلسطين أو على يد الطغيان والفساد في سوريا .
“والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون” (الآية)..
* ناشط سياسي ومفكر مغربي