كيف تفكر روسيا بالقوة الناعمة ؟؟ وثيقة روسية تكشف استراتيجية روسيا في العالم
موسكو ــ الرأي الجديد
أصدرت وزارة الخارجية الروسية مؤخرا، وثيقة جديدة تحت عنوان “مفهوم السياسة الخارجية الإنسانية لروسيا الاتحادية” والتي تحدد إطار الدبلوماسية الشعبية الروسية، وترسخ أسس ممارساتها في مجال القوة الناعمة من خلال 117 نقطة نصت عليها الوثيقة.
وكانت الوزارة في روسيا، أعلنت في الأول من جانفي 2022، استحداث وحدة في وزارة الخارجية معنية بشؤون استراتيجية موسكو فيما يخص ممارستها لأدوات قوتها الناعمة، من علوم وفنون وتعليم ورياضة وسياسة خارجية.. وتعتبر الوثيقة برنامج عمل للدبلوماسية الشعبية الروسية خلال الفترة المقبلة..
الصعود الروسي “الثقافي”
تأتي هذه الوثيقة ضمن جهود روسيا لإعادة تحسين صورتها بعد الحرب الروسية الأوكرانية، والحفاظ على الجهود التي بذلتها لسنوات طويلة في دعم قوتها الناعمة دولياً، حيث صعدت الجاذبية الروسية قبل الأزمة الأخيرة بصورة واضحة، وساهم في ذلك نجاحها في تنظيم كأس العالم لكرة القدم عام 2018، وهو الأمر الذي انعكس في زيادة أعداد السائحين والطلاب الأجانب، واحتلالها المرتبة الـ10 عالمياً في مؤشر القوة الناعمة العالمي عام 2020، وكانت قد وصلت في عام 2022 للمرتبة الـ9، قبل أن يعيد العاملون على المؤشر العالمي، تقييمها وتجميد ترتيبها، نتيجة بدء عمليتها العسكرية في الشرق الأوكراني.
وأشار هؤلاء العاملون، إلى انخفاض شعبية روسيا دولياً بنسبة 19%، وهو ما يؤكد ضرورة تركيز روسيا على قوتها الناعمة في المستقبل القريب.
الوثيقة الروسية، نصت على جملة من المقومات، أبرزها:
1- إعادة إحياء “العالم الروسي”:
ركزت الوثيقة على مفهوم جديد أطلقت عليه “العالم الروسي” باعتباره أساس القوة الناعمة الروسية.
فقد وضع المفكرون والسياسيون الروس، من يطلق عليهم الغرب “التيار المحافظ الروسي”، المقومات الوطنية لروسيا كأساس لتعامل موسكو مع العالم الخارجي، وبذل كل جهودها للحفاظ على مقوماتها الاقتصادية والإنسانية والثقافية، مع التركيز على أهمية الحفاظ على تقاليد “العالم الروسي”، التي توارثتها المجتمعات والدول التي تتشارك مع روسيا المقومات التاريخية والإنسانية ذاتها.
2- حماية الجاليات الروسية:
تشير روسيا إلى جالياتها بالخارج بعدة مصطلحات قد تدل ضمنياً على أبعد من المواطنين الروس بالخارج، منها “الروس الموجودون بالخارج”، و”المتحدثون بالروسية”، و” الروس في جمهوريات ما بعد الاتحاد السوفييتي.. حيث تؤكد الوثيقة بصورة أو بأخرى ارتباط “الروس كافة” بوطنهم الأصلي، متضمناً الروس بالعرق “روسكي”، والروس بالميلاد أو بالتطبيع الثقافي “روسيانين”، وهو المفهوم الأعم الذي تتضمنه المستندات والوثائق الروسية كافة لتؤكد تفردها الثقافي المتنوع إثنياً، ودينياً، وجغرافياً.
وتعتبر روسيا دول ما بعد الاتحاد السوفيتي، من البلطيق إلى آسيا الوسطى، دولا تقع تحت النفوذ الشرعي لها. بما يمهد لروسيا، القيام بتدخلات في الدول التي تطبق سياسات غير ودودة للمواطنين من ذوي الأصول الروسية..
3- دعم القيم الروسية:
وضعت الوثيقة اللغة الروسية، على رأس تلك القائمة، فاللغة الروسية بجانب كونها اللغة الأولى أو الثانية لعدد كبير من الدول، إلا إنها لغة رسمية لأهم المنظمات والتجمعات الدولية والإقليمية..
وتسلط الوثيقة الضوء على التنوع الثقافي، والديني، والقومي لروسيا الإتحادية، والحفاظ على تلك المقومات من العولمة “الأحادية” التي تقضي على الاختلاف، ولا ترحب بالتنوع وتعمل على تنميط نوع معين من الثقافات. بالإضافة إلى الترويج لتقاليد المجتمع الروسي المتعلقة بقيم الأسرة التقليدية ضد ما أسمته الوثيقة بوجهات النظر النيو ليبرالية فيما يخص الأسرة النووية.
4- جذب الطلاب الأجانب:
يعد العمل على جذب عدد أكبر من الطلاب الأجانب للدراسة في روسيا، وجعلها وجهة جاذبة جدًا للشباب المهتم بالدراسة في كافة المجالات الأكاديمية، أحد أدوات القوة الناعمة التي ركزت عليها الوثيقة، وأعطت الأولوية لطلاب كومونولث الدول المستقلة، والبريكس، ومنظمة شنغهاي للتعاون، حيث تحاول روسيا الاستفادة من الإرث السوفييتي فيما يخص التعاون الشبابي، وجعل روسيا مركزاً دولياً للمؤتمرات والتجمعات الشبابية.
علاقات موسكو الخارجية
وركزت الوثيقة على الاهتمام بتنمية علاقات موسكو بدول منظمة شنجهاي للتعاون، وكومنولث الدول المستقلة، والدول السلافية، والصين، والهند، والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وأمريكا اللاتينية، وأفريقيا، كما ركزت الوثيقة على تنمية العلاقة بإقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية اللذين أعلنت انفصالهما عن جورجيا قبيل العملية العسكرية الروسية ضد جورجيا عام 2008، بالإضافة إلى لوجانسك ودونيتسك في الدونباس، بالإضافة إلى التركيز على التجمعات الروسية في دول البلطيق ومولدوفا لحماية حقهم في التحدث بلغتهم الأم.
وجدير بالذكر أن الوثيقة اختلفت كثيراً عن مفهوم السياسة الخارجية لعام 2016 حينما خصت عدداً من الدول لتركيز الجهود الروسية لتقوية العلاقات الإنسانية الثقافية بها، وكانت هذه الدول هي الجزائر، ومصر، والأردن، وإسرائيل، والإمارات العربية المتحدة، والسعودية، وسوريا، وإيران، وأفغانستان، وفلسطين، والأرجنتين، والبرازيل، وفنزويلا، وكوبا، والمكسيك، ونيكاراجوا، وباراجواي، وأوروجواي، وتشيلي.
وأكدت الوثيقة أن الاتحاد الأوروبي سيبقي شريكاً تجارياً مهماً جداً لروسيا الاتحادية، كما أنه يعتبر شريكاً أساسياً في السياسة الخارجية لروسيا، ولكنها أكدت رفض محاولات توسع الناتو تجاه حدودها.
5- عالم متعدد الأقطاب:
وأكدت الوثيقة الاهتمام بالمساعدات المالية والفنية التي تقدمها روسيا لدول العالم من خلال ترسيخ دور روسيا في التعاون الدولي للإنماء والاستدامة، لبناء نظام دولي متعدد الأقطاب”، وتوظيف العولمة في تكوين مراكز جديدة للقوى الاقتصادية والسياسية، وتنمية فرص اللامركزية الدولية، والتحول التدريجي نحو منطقة آسيا- المحيط الهادئ، ما يقلل من جاذبية الأساليب الغربية التقليدية سياسياً واقتصادياً.
وستكثف روسيا جهودها في محاولات تغيير النظام الدولي الأحادي، من خلال استخدام كل أدوات سياستها الخارجية، وإعادة رسم علاقاتها الاقتصادية والتجارية، وبناء تحالفات جيوستراتيجية جديدة، وتوظيف أدوات قوتها الناعمة من أجل إعادة ترتيب النظام السياسي الدولي كما تراه مناسباً..
ويبقى نجاح تلك الخطوات مرهوناً بعوامل كثيرة أهمها قدرة روسيا على بناء تلك التحالفات الجديدة وقدرة اقتصادها، الذي يعاني بالفعل، تحمل تكلفة التحركات الروسية المأمولة.