“دبلوماسية الانقلاب”: تدعو للخيار الديمقراطي في الخارج.. وتنتهكه في الداخل
بقلم / صالح عطية
نصح وزير الشؤون الخارجية والهجرة والتونسيين بالخارج، عثمان الجرندي، السبت، دول القارة الإفريقية، باعتماد الخيار الديمقراطي في دول الإقليم.
وشدد الجرندي، على أنّه “لا خيار للدول الإفريقية، غيرَ النظام الديمقراطي الضامن للحقوق والحريات”، والذي يستجيب في تقديره إلى “تطلعات الشعوب في الكرامة والحرية والرفاه”، وفق تعبيره..
وعلى طريقة رئيس الجمهورية، قيس سعيّد، أعاد الجرندي في كلمته أمام القمة الاستثنائية للاتحاد الإفريقي، التأكيد على إنه “لا يمكن فصل هذه التغييرات عن سياق عالمي، تواجه فيه الديمقراطية، العديدَ من التحدياتِ، في ضوء تراجعِ ثقة الشعوب، في القيم والمفاهيم المشتركة، وفي تصوّرها للديمقراطية (…)، وهو ما تستغله الانقلابات العسكرية لفرض أجنداتها”، حسب قوله.
لا يجد المرء ــ في الحقيقة ــ عبارات يمكن أن يعلق بها على خطاب من هذا القبيل..
فوزير الخارجية، السيد عثمان الجرندي، يتحدث أمام القيادات الإفريقية، وهو يعلم، وقد لا يريد أن يقتنع، بأنّ تونس تعيش “انقلابا على الدستور”، كما وصفها عياض بن عاشور منذ اللحظات الأولى لحركة 25 يوليو 2021، وزاد التأكيد عليها قبل يومين في تصريحات إعلامية دقيقة.
من ترذيل الديمقراطية.. إلى التبشير بها
والغريب كذلك، أنّ وزير الخارجية، يعلم علم اليقين، أنّ “الديمقراطية”، التي يبشر بها في إفريقيا، لم يذكرها أو يستخدمها رئيس الجمهورية، قيس سعيّد، إلا على سبيل النقد والترذيل، والإعلان عن نهايتها. فكيف يمكن لمن يرذّل الديمقراطية، أن يتحول إلى مبشر بها بين القيادات الإقليمية والدولية؟؟
الغريب من ناحية أخرى، أن ينصح وزيرنا، قادة إفريقيا بأن “لا خيار للدول الإفريقية، غيرَ النظام الديمقراطي الضامن للحقوق والحريات”، وهو يعلم علم اليقين أنّ هذه الحريات ــ بشهادة المنظمات الحقوقية في الداخل والخارج ــ تنتهك وتداس ويعتدى عليها من قبل سلطة ما بعد 25 يوليو 2021، ويزجّ بصحفيين ومدونين ومحامين وسياسيين في السجون، وتحاك ضدّهم القضايا، بسبب آرائهم ومواقفهم من “الانقلاب”، الذي ضاق صدره بمنتقديه وخصومه ومنافسيه، من الداخل والخارج..
ولعل آخر هؤلاء، الدكتور الفيلسوف، أبو يعرب المرزوقي، الذي حيكت له دعوى قضائية، على خلفية ما يدوّن، مجرد تدوينات، نقدية لرئيس الجمهورية، وللمؤسسة العسكرية، وهو لم يحمل سلاحا، ولا ينتمي إلى حزب، ولم يستعدي رئيس الدولة طمعا في موقع أو منفعة، بقدر ما فعل ذلك حبا لبلاده، وحماية لها وصونا للمسار الديمقراطي، الذي كان الرجل أحد أعمدته، وهو النائب بالمجلس الوطني التأسيسي، وقد شهد وشارك وساهم في التفاعلات والصراعات والتجاذبات التي مهدت وأسست لدستور 2014، وهو الحريص على المسار الديمقراطي، الذي شرب من لبنه بفعل تشبعه بالفلسفة اليونانية وديمقراطيتها النموذجية في تاريخ العالم..
فهل كان يعي وزير خارجيتنا، أنّ فيلسوفا في حجم أبو يعرب المرزوقي، مهدد بالسجن من أجل أفكاره ومواقفه، وهو يقرئ السلام الديمقراطي للقادة الأفارقة؟؟
هل بوسع الجرندي أن يعطي دروسا للأفارقة حول الديمقراطية والانقلابات العسكرية وتغيير أوضاع الدساتير، وهو يستمع يوميا لتصريحات سياسية وفكرية وقانونية ودستورية، تنتقد إجراءات رئيس الجمهورية، وتقلل من أهميتها، وتنبّه إلى خطورتها، فيما الرجل غير مبال بما يقال عنه ومن حوله، حتى من أصدقاء تونس وأشقائها، على غرار الجزائر، وتصريحات رئيسها من إيطاليا نهاية الأسبوع المنقضي؟؟
هل يعي رئيس دبلوماسيتنا، بما يقوم به الرئيس قيس سعيّد، من دوس شبه يومي على الدستور وفصوله وبنوده، منذ لحظة اعتماده على الفصل 80، بطريقة تتجاوز مضمون الفصل ومنطق الدستور، وسياقات الانتقال الديمقراطي، ضاربا بذلك عرض الحائط، بالدستور والمؤسسات الناجمة عنه، وخاصة البرلمان، والمجلس الأعلى للقضاء، وهيئة الانتخابات، وغيرها من محاولات “تبديل هيئات”، بلدية ومعتمدية وجمعياتية (اتحاد الفلاحين نموذجا)، لا يروق رؤساؤها ومسؤولوها “للنظام السياسي” الذي يرغب فيه رئيس الجمهورية، إذا جاز لنا أن نسميه نظاما سياسيا ؟؟..
هل يرى السيد الجرندي هذه التطورات الخارقة للدستور التونسي، وللقانون الدولي، وللمعايير الدولية، وهو يحدّث الأفارقة عن التحولات السياسية، وخطورة تغيير الدساتير في ظل الانقلابات ؟؟
الدستور الذي أكله الحمار
وهل يستوعب وزير الخارجية، ما يصرح به، وهو الناطق باسم دبلوماسية، يعمل رئيس دولتها على إنشاء دستور جديد، بعد أن صرح بأنّ دستور 2014، “أكله الحمار”.. بل شكّل لذلك لجنة، يشرف عليها رجل تجاوز الثمانين، وغير مستوعب للتحولات الجارية في البلاد، ومعزول على الرأي العام التونسي تماما… فهل يسمح وزير خارجيتنا لنفسه، بأن يتحول إلى ناصح أمين للأفارقة؟
كيف يمكن للسيد وزير الخارجية، أن يغفل أو يتغافل عن هذه المعطيات، وعن اتساع دائرة المناهضين للرئيس قيس سعيّد، حتى ممن أعلنوا مساندته والوقوف خلفه؟
هل أغمض وزير خارجيتنا عينيه، وبات ينظر بنور قصر قرطاج فقط، مكرسا بذلك المثل الشعبي التونسي القائل: “عين رات.. وعين ما راتش”..
هل إلى هذا الحدّ، يمكن لمسؤول سياسي، أن يغمس رأسه في التراب، لكي يستمر في المسؤولية السياسية، فيطوع المعطيات، ويتغافل عن حقائق، وينبري يقدم الدروس للآخرين، وهو أحق بأن يستمع إلى نصائح الديمقراطيين في تونس وخارجها؟
ألم يقرأ السيد الجرندي المثل العربي القائل: “إذا كان بيتك من زجاج، فلا ترمي بيوت الناس بالحجر” ؟
لقد كانت ابتسامات عديد القادة الأفارقة وهم يتابعون كلمته، ولسان حالهم يقول: “ماذا دهاه وزير الخارجية التونسي؟؟ هل بات يقدّم لنا الدروس، وهو الذي يخطب علينا باسم نظام، انقلب على الدستور، وداس على بنوده، وهو يعيش عزلة دولية وإقليمية غير مسبوقة في تاريخ الدبلوماسية التونسية ؟؟
والحقيقة، أنّ ما تشهده الدبلوماسية التونسية، لم تعرف تدهورا وتراجعا في صيتها، حتى زمن صراع بورقيبة مع عبد الناصر، بل لم تعرفه دبلوماسيتنا مطلقا، حتى عندما دخل بن علي في صراع مع الفرنسيين، وقطع علاقات التجمع الدستوري (الحاكم) بالحزب الاشتراكي بداية الألفية الراهنة، ولم يحصل ذلك أيضا، عندما اختار بن علي القطيعة الدبلوماسية مع إيران بعد انقلابه على بورقيبة؟؟ إذ ظلت الدبلوماسية التونسية فاعلة، ومفتوحة، وقادرة على صياغة تحالفات تخدم مصالحنا، بقطع النظر عن بعض التناقضات مع بعض الأنظمة هنا أو هناك..
خطاب دبلوماسي “وقح”
لا يمكن للمرء أن يجد ما يفسر أو يبرر هذا “التذاكي” من قبل وزير الخارجية التونسي، حتى لا أقول “وقاحة دبلوماسية”، ستجعل منه ــ للأسف ــ شخصية مروجة لقيم يأتي نظامه خلافها أمام أنظار العالم، وخاصة البلدان العريقة في الديمقراطية، التي يستمع وزير خارجيتنا إلى تحفظاتها وانتقاداتها، وأحيانا غضبها على الرئيس التونسي، وعلى نهجه في تجاوز الدستور، والقفز على المؤسسات السيادية المنتخبة؟؟
نحن بإزاء خطاب دبلوماسي مهزوز، ومرتبك، وبلا أخلاق، ومن دون استحياء.. يذكرنا بالمثل الشعبي التونسي القائل: “العزوزة هازها الواد.. وهي تقول العام صابة”..
فقط أشير على وزير الخارجية المحترم بالقول: هل قرأت سيدي الوزير، تقرير لجنة البندقية التي طفق رئيس الجمهورية، يشتمها ويقرعها، وطالبك بطرد أعضائها، وأنت صامت، وكأنّ تونس جمهورية موز، أو ضيعة خاصة، يجري التصرف فيها بعقل أحادي ومنفرد، دون استشارة خبراء الحقل الدبلوماسي، أو خبراء العلاقات الدولية..
هل تتابع سيدي الوزير، ما يقوله نواب الكونغرس الأميركي؟ هل يطلعونك على ما يدور في البرلمان الأوروبي، بل في اجتماعات الاتحاد الأوروبي؟
لجنة البندقية
وكيف ترضى عزيزي الجرندي، بشتم لجنة دولية، في حجم “لجنة البندقية”، أليست هذه صورة مهينة للدبلوماسية التونسية، ولكيفية تعامل تونس مع الدول والمنظمات الدولية، التي لم تكن يوما ضدّ المصالح التونسية، بل لعبت دورا مهما بعد الثورة، في تأطير قيادات قانونية وسياسية، على وضع الدستور، وشاركت بفعالية في لجان المجلس الوطني التأسيسي التي فتحت للمجتمع المدني؟؟
هل بهذا العقل الإنفرادي في ترتيب المرحلة المقبلة، يمكن أن نقدّم “النصائح الديمقراطية” لبلدان القارة الإفريقية؟؟
سأكتفي في هذا السياق، بالقول إليك سيدي الوزير:
لقد أخطأت العنوان، والخطاب، والهدف… وكان يفترض أن تقرأ “زبورك” هذا على مجالس الوزراء وعلى رئيس الجمهورية، قبل أن تتلوها على مسامع قادة دول، بعضها يرزح تحت ديكتاتوريات عنيفة ومتسلطة، والبعض الآخر لم يخرج من الأفق الاستبدادي، فيما بعض الديمقراطيات هناك، أصيبت بوجع في رأسها، بعد مسار اختطاف الديمقراطية في تونس إثر “انقلاب 25 يوليو 2021”..
إمكانيات التدارك متاحة، “سي الجرندي”، لحفظ ماء وجه الدبلوماسية التونسية، التي خدمتها أجيال وأسماء، لا تستحق منك هذا “السلوك”، الذي لا يعني سوى أننا في مرحلة بلا دبلوماسية ولا سياسة خارجية، ولا هم يحزنون..