روسيا في أوكرانيا.. إعادة رسم خرائط النفوذ
بقلم / باسل الحاج جاسم
بعد بدء روسيا أواخر فيفري الماضي ما أطلقت عليها عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا، لم يعد اليوم مهما لكثيرين التسمية التي تطلق على الصراع العسكري الجاري في أوكرانيا، فهو في جميع الأحوال، الأكثر حدة وأشد خطورة في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، بسبب جذوره التاريخية العميقة، وأبعاده المختلفة، بما فيها البعد الداخلي الأوكراني، والبعد الروسي الأوكراني، بالإضافة للأبعاد الأوسع المتعلقة بالعلاقات بين موسكو والغرب عموما، والتي تتجاوز حدود أوكرانيا في أهميتها وتداعياتها.
يبدأ اليوم فصل جديد من تاريخ أوروبا الحديث، بما فيه من تحديات وفرص، وانتصارات وهزائم، ومكاسب وخسائر، وهناك الكثير من الأمور غير المتوقعة تنتظر الجميع.
بالنسبة لروسيا، تعتبر هذه اللحظة مفصلية في التاريخ. مستقبل روسيا، بل مستقبل النظام العالمي على المحك. ونتيجة العملية العسكرية الجارية في أوكرانيا هي أكثر من حاسمة لموسكو، فالبعد الخفي لا يقلّ عن حرب وجودية، ليس من أجل وجود روسيا فحسب، لكن لطبيعة ذلك الوجود، وطبيعة مكانة روسيا العالمية.
ردّ الغرب على موسكو لم يكن عسكريا، بل عبر حرب اقتصادية شاملة الدمار، من خلال حزم عقوبات مدمرة غير مسبوقة، والعمل على عزل روسيا عن محيطها الإقليمي ونطاقها الدولي، بهدف زعزعة استقرارها السياسي والاجتماعي، بعد ضرب الاقتصاد الروسي ومحاولة شلّه، وبالتوازي مع مسار تعزيز الدعم العسكري والمالي لأوكرانيا.
روسيا… والأمن الأوروبي
على الرغم من أن خطاب العديد من القادة الغربيين في الاتحاد الأوروبي لا يزال يحتوي على أطروحة مفادها أن الأمن في أوروبا لا يمكن أن يتم من دون روسيا، لكن في الواقع قد تحرك الناتو باستمرار لجعل “احتواء” موسكو الهدف الأساسي والمبرر الرئيسي، للحفاظ على حلف شمال الأطلسي في القرن الحادي والعشرين، ويبدو أنه يتم وضع ما سيتبقى من أوكرانيا كدرع ضد “التهديد الروسي” في هذه الخطط والتحركات.
يبدأ اليوم فصل جديد من تاريخ أوروبا الحديث، بما فيه من تحديات وفرص وانتصارات وهزائم ومكاسب وخسائر، وهناك الكثير من الأمور غير المتوقعة التي تنتظر الجميع.
ستبذل الصين جهودا كبيرة لتحسين أمنها الاقتصادي، بناءً على تجربة العقوبات الغربية ضد روسيا، استعدادا في حال حدوث تعقيدات مماثلة مع الغرب، وفي الوقت نفسه، عيون بكين إحداها تراقب تجربة روسيا في شرق أوكرانيا، ورد الفعل الغربي عليها، والعين الأخرى تطوق تايوان.
تثير العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا -من بين أمور كثيرة- مسألة مقارنة خسائر ومكاسب الأطراف الرئيسية في الصراع والموازنة بينها، وكذلك اللاعبين العالميين، ومثل هذه المقارنة والتوازن يبدو لم يتحقق بعد بالنسبة لروسيا وأوكرانيا، تستمر روسيا في عمليتها العسكرية، وأوكرانيا لم تستسلم، ولم يدخل البلدان في تسوية سياسية بعد، مما يعني أنه لا يزال من الصعب تحديد إلى أي مدى سيتمكن كل طرف من تحقيق الأهداف السياسية التي دفع ثمنها باهظا، سواء في الأرواح البشرية أو من حيث الأضرار الجسيمة التي لحقت بالاقتصاد.
الواضح حتى الآن، أن الاتحاد الأوروبي يتحمل أكثر الخسائر وأكبر التكاليف، بسبب طبيعة الارتباط في العلاقات التجارية والاقتصادية مع روسيا، والتحدي الرئيسي هو استبدال النفط والغاز والمعادن الروسية في السوق الأوروبية.
يتحمل التكتل الأوروبي أيضا العبء الأكبر في التعامل مع اللاجئين الأوكرانيين، وما نزال في بدايات الصراع العسكري، وما يزال الحساب صعبًا نظرًا للتغييرات السريعة للوضع، لكن من الواضح بالفعل أن العدد بالملايين.
منذ دخول البعد العسكري على الأزمة الأوكرانية، بدأت ملامح خارطة جديدة تتشكل للنفوذ والأمن في أوروبا، والخطير فيها أنها نتيجة عمل عسكري، وليست وفق اتفاقيات أو معاهدات، كما أن هذا البعد العسكري أحيا أفكارا قديمة حول أهمية التسلح وضرورة الإنفاق العسكري، وستعمل اليوم معظم دول الاتحاد الأوروبي بنشاط على زيادة الإنفاق الدفاعي، ونجح الرئيس الأميركي جو بايدن بما فشل فيه رؤساء أميركا السابقون: دونالد ترامب وباراك أوباما وجورج بوش، وهو جعل مساهمة الدول الأوروبية أكبر داخل الناتو.
ويبدو للوهلة الأولى أن الولايات المتحدة تتحمل في مواجهة روسيا تكاليف أقل بكثير من الاتحاد الأوروبي، على الرغم من أن حظر النفط الروسي قد يؤدي إلى صعوبات محلية وزيادة أسعار الوقود في الداخل الأميركي، لكن المشاكل الرئيسية لواشنطن تكمن في مجالات أخرى.
سيؤدي التصعيد الحاد في المواجهة مع روسيا إلى تحويل الموارد من آسيا والمحيط الهادئ، وسيتعين على الولايات المتحدة زيادة وجودها العسكري في أوروبا، مما يعني أن تركيز واشنطن على احتواء الصين آخذ في الانخفاض حاليا، كما أن الولايات المتحدة قلقة أيضًا من احتمال تصاعد الأزمة الأوكرانية إلى حرب بين الناتو وروسيا، هذا -على أقل تقدير- محفوف بخطر التصعيد النووي، وسيتعين على واشنطن احتواء موسكو، ولكن في نفس الوقت العمل ضمن حدود معينة، خشية من التصعيد أكثر.
وفي خضم تعقيد تطور الأحداث بين موسكو والغرب في إطار الصراع في أوكرانيا وعليها، الواضح أن الولايات المتحدة أعطت الأولوية لاحتواء روسيا بدلاً من الصين، والمؤكد أن وراء ذلك العديد من الأسباب، لعل أبرزها اعتبار واشنطن أن روسيا أضعف من الصين، والضغط عليها سيكون أسهل، اقتصادياً وتقنياً، على اعتبار أن روسيا لم يكن لها هذا الدور المحوري في الاقتصاد العالمي، مقارنة بالترابط الاقتصادي المعقد الذي يميز العلاقات الغربية الصينية، بصرف النظر عن دور موسكو كمورد رئيسي للطاقة لأوروبا، لذا ربما راهنت الولايات المتحدة على أنه سيكون أقل تكلفة البدء بروسيا للضغط على شركائها الصغار “لفصلهم” عنها، بالإضافة لاعتقادها أن احتواء روسيا هو شرط أساسي لاحتواء الصين في نهاية المطاف.
يبقى القول إنه من المبكر ومن الصعب التكهن إلى أين تتجه الأمور، ومستقبل تطور الأحداث سيكون مرتبطا بالنتيجة النهائية لعملية روسيا العسكرية، وكذلك استمرار الموقف الموحد للغرب الذي أظهره من خلال فرض حزم العقوبات المتتالية والسريعة على روسيا.