الذكرى 84 لأحداث 9 أفريل..برلمان تونس
بقلم / د. خالد شوكات
في التاسع من أفريل 1938، سقط مئات التونسيين شهداء تحت وابل من رصاص المستعمر وهم يهتفون “برلمان تونسي”..كان المتظاهرون يَرَوْن في تأسيس برلمان تونسي خطوة لنيل الاستقلال وبناء دولة عصرية قائمة على العدل والمساواة..وعلى الرغم من الأمية الطاغية فإنني أزعم بأن الوعي السياسي للشعب التونسي كان أفضل مما هو عليه الحال اليوم رغم انتشار المدارس والمعاهد والجامعات..فقد تبّين عبر التجارب أن الوعي السياسي لا يرتبط بالضرورة بنسبة الأمية، وأن التعليم قد يفضي إلى خلاف الغاية منه… وهذا موضوع آخر قد نتحدث فيه مرة أخرى..
حكاية التونسيين مع البرلمان أقدم من أحداث 9 أفريل 1938، فأول برلمان تونسي كان قد تشكل بناءًا على أوّل دستور للبلاد التونسية جرى سنّه سنة 1861، حيث ظهر المجلس الكبير المعيّن بأكمله من قبل الباي، لكن رغم ذلك كان مجلسا مشاكسا أزعج “سيدنا” الذي اعتاد على عدم وجود مؤسسة تراجع وراءه أو تناقش أوامره العليّة، ومن هنا غبطته عندما طالب ثوّار علي بن غذاهم بإلغاء الوثيقة الدستورية وحلّ المؤسسة البرلمانية، فسارع إلى الاستجابة إلى هذا الطلب دون سواه، وقضى بذلك على التجربة المجلسية وهي جنينية، دون قدرة على القضاء على حلم التونسيين ببرلمان يمثلهم في مراقبة الحاكم بأمره والوقوف في وجه سياساته الفردية عندما يقتضي الحال..
اثر نيل التونسيين استقلالهم في 20 مارس 1956، بادروا إلى انتخاب “المجلس القومي التأسيسي” الذي سيضطلع بمهمة مزدوجة في القيام بدور البرلمان إلى جانب دور الهيئة الدستورية التي ستصوغ دستور 1 جوان 1959. وكان من ابرز القوانين التي سنها هذا المجلس إقدامه على إلغاء النظام الملكي وإعلان النظام الجمهوري في 25 جويلية 1957.
وحقيقة الأمر، ومع تبني الجمهورية التونسية لنظام رئاسي تحوّل تدريجيا إلى نظام “رئاسوي” يتمتع فيه رئيس الجمهورية بصلاحيات قيصرية، لم تتطور المؤسسة البرلمانية بشكل طبيعي، وحكم عليها بالتبعية المطلقة لسلطة تنفيذية تتبع رئيس الدولة.. وعلى هذا النحو ترسَّخت صورة باهتة لدى التونسيين للبرلمان حيث لم يكن له صوت يسمع ولا نقاش يتابع، طيلة ما يزيد عن خمسة عقود، حتى ظُنَّ لدى الغالبية الساحقة بأن مجلس النواب هكذا يجب أن يكون.
ولعل من أهم مظاهر الضعف والهوان التي وسمت التجربة الديمقراطية خلال السنوات العشر الماضية، أنها لم تكن مصحوبة بوسيلة فاعلة للتثقيف السياسي تعرّف التونسيين بالمعاني الحقيقية والوظائف الأساسية للمؤسسة البرلمانية، بل إن ما حدث هو العكس تماما، إذ جرى ترذيل البرلمان بشكل متواصل حتى عادت المؤسسة التي تحظى بأدنى نسبة ثقة لدى المواطنين، تماما كما جرى حجب المفاهيم الكبرى التي وقفت تاريخيا وراء ظهور فكرة البرلمان، من جهة كونه الفضاء الذي يستوعب مشاكل المجتمع وخلافاته ويحصرها في فضاء محدود حتى لا تتحول إلى مشاكل شاملة وخلافات منفلتة يجري حلها في الشوارع وعبر الاقتتال العام.
أخيرا أقول إن ما يميز الأمم المتحضّرة والدول المتقدمة هو وجود برلمانات لا وجود الرؤساء..فها قد خنّا دماء الشهداء، وخرجنا من نادي الدول المحترمة، وبعضنا يظن إننا أحسنا الفعل، لكننا لم نفعل إلا كما فعل رجل أراد أن يغيض زوجته فقام بإخصاء نفسه، ويفعل الجاهل بنفسه ما لم يفعله العدو بعدوه.