روسيا أمام ثلاث استراتيجيات في حربها على أوكرانيا.. تحولات في النظام الدولي
بقلم / فيليب جروس وستيفان ديلوري
هناك تطورات مهمة، تشكل نقاط تحول رئيسية في النظام الدولي، لعلّ الأحداث الراهنة المرتبطة بالحرب الأوكرانية، تمثّل أحد أهمّ حيثياتها.
فقد شرعت روسيا منذ 24 فبراير 2022 ليس فقط في إسقاط النظام الأوكراني من أجل إعادة دمجها في مجال نفوذها المباشر، بل أيضاً تغيير النظام الأمني في أوروبا لصالحها وفق آليات محددة.
لقد انخرطت القوات الروسية في حرب شاملة ومكلفة وغير مؤكدة في أوكرانيا، والأسوأ من ذلك، أن التفاعل بين العقوبات الغربية وردود الفعل المحتملة لروسيا، يفتح المجال أمام مخاطر تصعيد أكبر، مما يؤدي إلى احتمالية الانزلاق إلى أخطر وضع دولي منذ نهاية الحرب الباردة.
في هذا السياق، تطرح دراسة نشرت مؤخراً في مؤسسة “البحث الاستراتيجي” لكل من فليب جروس وستيفان ديلوري فينسان توريه، تحت عنوان “الاستراتيجيات الروسية والحرب في أوكرانيا: الوضع الراهن”، ملامح الاستراتيجيات الروسية في تحركاتها الراهنة في أوكرانيا، والانعكاسات المحتملة لذلك.
غايات الكرملين:
تتسم الثقافة الاستراتيجية للطبقات الحاكمة في موسكو بـ”الشعور الدائم بانعدام الثقة والأمن” تجاه الغرب، وقد ازداد هذا الشعور من خلال التدخلات العسكرية الغربية المتكررة (على غرار مشاركة الناتو ضد صربيا في عام 1999، وإطاحة الولايات المتحدة بصدام حسين في عام 2003، والمساعدة في الإطاحة بمعمر القذافي في عام 2011)، فضلاً عن الدعم الصريح أو الضمني للثورات الملونة.
كما أدت مبادرات أخرى إلى زيادة هذا القلق الروسي، على غرار انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية، في عام 2002، فضلاً عن التطوير المستمر للقدرات التقليدية الأمريكية، ونشر أنظمة مضادة للصواريخ في أوروبا، قبل أن تعمد الولايات المتحدة إلى الانسحاب من معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى.
بالتالي، هناك تصور روسي مفاده إنعدام الثقة في الغرب، وبناء عليه، فإن اندماج أوكرانيا في حلف الناتو سيشكل تهديداً مباشراً للأمن القومي الروسي، كما أنه يمثل عاملاً خطيراً لزعزعة الاستقرار، ويُعرِّض بشكلٍ خاص شبه جزيرة القرم إلى تهديد عسكري مباشر. لذا تسعى موسكو لإعادة رسم ملامح نظام الأمن الأوروبي لصالحها، غير أن مآلات هذه المساعي غير مؤكدة حتى الآن.
لماذا الآن؟
من الصعب تحديد دقيق للمحددات التي دفعت القيادة الروسية لاختيار هذا التوقيت لإطلاق العملية العسكرية في أوكرانيا، كما يصعب تقييم ما إذا كان قرار الشروع في عملية عسكرية كبيرة ناتجاً عن إدراك لوجود تهديد خطير لروسيا، أم أنه يستند إلى اعتبارها فرصة لتحقيق مكاسب كبيرة على النطاق الأمني والنفوذ.
غير أن هناك عدد من المحددات الداخلية التي ساعدت على الدفع نحو هذا المسار، كإعادة بناء القدرات العسكرية الروسية بشكلٍ ملحوظ، بحيث أصبحت قادرة على تنفيذ مشاركة إقليمية واسعة النطاق، فضلاً عن الاستقرار الاقتصادي النسبي، بالإضافة إلى التوترات التي شهدتها المنطقة منذ عام 2014، والتي دفعت موسكو لتعزيز قدراتها من دون أن يتخذ الغرب تدابير شاملة لتلافي المخاطر المحتملة.
وثمة تصورات روسية راهنة بأن الغرب بات في وضعية لا تسمح له بالتصدي لتحركاتها في أوكرانيا؛ فالولايات المتحدة تركز بالأساس على المنافسة مع الصين، بينما لا يزال المستشار الألماني الجديد أولاف شولتز يفتقر لخبرة التعامل مع الأزمات الدولية، فضلاً عن حرص ألمانيا على تسريع انتقال الطاقة لها، مما يجعلها أكثر اعتماداً على الغاز الروسي، أما بالنسبة لبريطانيا، فلا تزال تدير عواقب خروجها من الاتحاد الأوروبي، بينما تواجه فرنسا أزماتها المتعلقة بطردها من مالي وكذلك صراع الانتخابات الرئاسية.
من الناحية العسكرية، فإن موقف الناتو غير مناسب حالياً للانخراط في صراع شديد الحدة، فحتى السنوات الأخيرة، كانت القوى الأوروبية في الحلف يعتبرون الشؤون العسكرية مجرد طوارئ هامشية أو يركزون بشكلٍ أساسي على العمليات في المسارح الخارجية، كما لم يعد جهاز قوات التحالف يتمتع بالكتلة والدعم اللازمين لمثل هذه العمليات عالية الكثافة، وفي الوقت نفسه، تتضاءل بشكل كبير قدرة الناتو على إدارة صراع يمكن أن يكون له أبعاد نووية.
لذا، وجدت روسيا أن السياق الراهن يمثل فرصة مواتية لتحقيق غاياتها، ربما لا تتكرر في المستقبل القريب، خاصةً في ظل تحديث القوات الأوكرانية لقدراتها العسكرية، كما بدأت العديد من الدول الأوروبية في تعزيز قواتها بشكل تدريجي، فضلاً عن إعلان واشنطن عن تطويرها لبرامج صواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت، كتلك الخاصة بالقنبلة النووية التكتيكية B61-12، المتوقع إنتاجها في منتصف هذا العقد، وهو ما يعكس تنامي القدرات العسكرية العالمية، الأمر الذي يمكن أن يعرقل أي تحركات روسية مستقبلية في فضائها الإقليمي، خاصةً في ظل التآكل الديموغرافي لروسيا وعجزها عن إنشاء أنظمة بيئية للابتكار التكنولوجي والاقتصادي مماثلة لتلك الموجودة في الولايات المتحدة والصين.
خيارات استراتيجية:
ترتبط التحركات الروسية الراهنة في أوكرانيا باستراتيجية روسية متكاملة، تنطوي على أهداف محددة ودقيقة، غير أن هذه الاستراتيجية لا تزال يكتنفها الكثير من الشكوك، ومع ذلك فإن المسارات آخذة في الظهور بشكل أكثر وضوحاً، وقد كان هناك اعتقاد سائد منذ البداية أن الكرملين يطبق نهجاً مرناً وتدريجياً اعتماداً على التطورات الحالية، لكن يبدو الواقع عكس ذلك، حيث قررت موسكو في وقتٍ مبكر جداً أن تتحلى بقدر من القوة الكافية للسماح بعملية عسكرية كبرى، وقد يكون هذا القرار مؤشراً على الخيارات المستقبلية التي قد تحتفظ بها موسكو في أعقاب انهيار القوات الأوكرانية. في هذا السياق، طرحت التحليلات الغربية المختلفة ثلاثة خيارات استراتيجية رئيسية محتملة للتحركات الروسية، تمثلت فيما يلي:
- الخيار الأول:وتمثل في استراتيجية الإقناع، لكنه إقناع قسري، فوفقاً لهذه الاستراتيجية كان هناك اعتقاد بأن روسيا لا تنوي خوض الحرب، لكنها تعمد إلى استغلال مخاوف الغرب من نشوب الحرب للحصول على مكاسب دبلوماسية، ومن ثم فهي تعد استراتيجية عدوانية، لكنها تبقى في مرتبة أدنى من الصراع المسلح، لكن ما حدث في 24 فبراير دحض احتمالية هذا الخيار.
- الخيار الثاني:وهو يفترض إقدام روسيا على تحركات محدودة تؤدي إلى هزيمة تكتيكية للقوات الأوكرانية المنتشرة في شرق البلاد، يتم بعدها تقسيم البلاد وضم الجمهوريات الانفصالية إلى روسيا، وقد بدت هذه الاستراتيجية ممكنة حتى 23 فبراير، عندما وقَّعت روسيا والجمهوريات الانفصالية اتفاقية لتأمين حدودهما المشتركة، لكن التحركات الروسية الراهنة قوضت احتمالية هذا الخيار.
- الخيار الثالث:والذي ينطوي على حركة عسكرية شاملة تستهدف ضمنياً إسقاط النظام الأوكراني وإجبار كييف على إعادة اندماجها في دائرة السيطرة الروسية، وتجريد القوات الأوكرانية من السلاح، وفي الواقع لم يُنظر إلى هذا الخيار إلا في وقت متأخر جداً، خاصة في أوروبا، فلطالما كان يُنظر إلى الحشد العسكري باعتباره استراتيجية متكررة وبعيدة عن أي احتمالية لنشوب صراع حقيقي.
إن الحرب في أوكرانيا ليست فقط أول صراع شديد الحدة في أوروبا منذ نحو ثمانين عاماً، لكنه أيضاً يُعد الصراع الأول الذي تكون خلفيته النووية واضحة، وكأي قوة منخرطة في مثل هذا الصراع شديد الحدة، عمدت روسيا إلى رفع مستوى ردعها، حيث قامت ببرمجة “تمرين ردع استراتيجي” مخصص، على غرار تدريبات جروم لزيادة مستوى توافر القوات النووية. ويبدو أن العناصر المكونة للردع قد وُضعت في حالة تأهب منذ عدة أسابيع أو حتى أشهر، خاصة بالنسبة للمكوِّن الموجود تحت الماء. كذلك في إطار استراتيجية الردع التي أتبعتها روسيا، جاء إعلان رئيس بيلاروسيا في نوفمبر 2021 بأن بلاده ستقبل وضع الأسلحة النووية الروسية في حالة نقل الأسلحة النووية الأمريكية المنتشرة في ألمانيا إلى أوروبا الوسطى.
سيناريو افتراضي:
لا يكفي إعادة ضم أوكرانيا إلى دائرة النفوذ الروسية للوصل إلى الهدف النهائي للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بالتالي فبافتراض أن أوكرانيا أصبحت تمثل جزءاً من النفوذ الروسي، يمكن أن تكون الخطوة التالية هي محاولة توسيع هذا الوجود الروسي نحو الجنوب، مع محاولة تقييد مولدوفا، من خلال تقديم الدعم النشط والواضح للفصائل الموالية لروسيا، للتفاوض على الاعتراف النهائي باستقلال ترانسنيستريا، كما ستشمل الاستراتيجية الروسية زيادة الضغط على رومانيا، مما قد يفتح المجال لمحاولة إعادة تشكيل موقع بوخارست داخل الناتو، أو على الأقل تحديد دقيق لعناصر القوات المنتشرة أو المحتمل نشرها في رومانيا.
بالتزامن مع هذا الضغط المحتمل على رومانيا، وكذلك بلغاريا، سيعمل الروس على زيادة سيطرتهم على البحر الأسود، وهو ما سيكون له ارتدادات سلبية على تركيا، كما ستعمل روسيا على إعادة التفاوض بشأن معاهدة مونترو، التي يوليها الأتراك أهمية خاصة، ومن ثم من الواضح أن الجغرافيا السياسية للجناح الجنوبي لحلف الناتو يمكن أن يعاد صياغتها بشكل جذري.
كذلك، هناك متطلبات أخرى ذات طبيعة فنية يمكن أن تطرحها روسيا حال نجحت في تحقيق أهدافها في أوكرانيا وأصبحت في موقف قوة، فبعد سحب صواريخ Thoret Jupiter في أعقاب الأزمة الكوبية، تم الاتفاق بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة بأن أوروبا لا يمكنها أن تحوي أسلحة استراتيجية أمريكية قادرة على ضرب روسيا، لكن في الواقع، كانت الولايات المتحدة في وضع يمكنها من تنفيذ عمليات نووية ذات طبيعة استراتيجية من الأراضي الأوروبية والحد من الآثار الرادعة للترسانة النووية الروسية.
بالتالي إذا خرجت موسكو من هذه الأزمة في موقع قوة، فيمكنها محاولة فرض هذا الاتفاق القديم، خاصةً بالنسبة للأسلحة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت والدفاعات المضادة للصواريخ ذات القدرات الاستراتيجية المحتملة، وأيضاً بشأن نقل أنظمة الأسلحة إلى الحلفاء الأوروبيين التي تتجاوز نطاق معين.
اليوم، يبدو هذا السيناريو النظري أكثر صعوبة في تحقيقه، فمن ناحية، لم يخلق استعراض القوة الروسي ردعاً كبيراً للقوى الأوروبية، على عكس ما كانت تأمله موسكو، فبعيداً عن رفضها المواجهة، تنخرط العواصم الأوروبية في منطق قسري شديد يميل إلى إظهار أن روسيا لن تكون قادرة على الاستفادة فوراً من الصدمة النفسية الناتجة عن العملية العسكرية في أوكرانيا، بل على العكس تماماً، فإن القيود المفروضة على روسيا ربما تؤدي إلى تقليص الخيارات العسكرية خارج أوكرانيا، لذلك ستجد روسيا نفسها في وضع أكثر تعقيداً مما كانت تتوقعه وربما ستضطر إلى مراجعة أهدافها.
تصعيد محتمل:
لم تعد الإشكالية الرئيسية تكمن في الوضع العسكري للصراع الأوكراني نفسه، بل أضحت ترتبط بالتفاعل المحتمل بين العقوبات الهائلة المفروضة من قبل الدول الغربية على موسكو وردود الفعل الروسية عليها، حيث يمكن أن يكون للعقوبات انعكاسات هائلة على الاستقرار المالي لروسيا، وبالتالي فإن استمرار الغرب في تصعيد العقوبات على موسكو، ربما يدفع الرئيس الروسي إلى اتخاذ رد فعل عدائي.
بناء عليه، فإن النتيجة الأكثر منطقية هي أن تمارس روسيا إجراءً استراتيجياً قوياً على المدى القصير جداً. يمكن أن يكون، على سبيل المثال، أمر تعبئة عامة، أو حتى تحرك عسكري محدود ضد دولة من خارج الناتو (السويد وفنلندا)، أو حتى تحرك ضد قوة غير نووية تابعة لحلف الناتو، انطلاقاً من فكرة فرض وقف التصعيد على القوى الغربية.
ثمة انعكاسات أخرى يمكن أن تفرزها الأزمة الأوكرانية خارج أوروبا، فقد تكون لهذه الأزمة ارتدادات مهمة على التوازنات القائمة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، إذ إن النجاح المحتمل لموسكو في إعادة البناء الجيوستراتيجي الخاص بها سيجد صدى أيضاً في بكين، والتي ستهدف إلى تسريع خططها لإعادة توحيد تايوان بالقوة.
وفي جميع الحالات، تبدو المخاطر كبيرة بالنسبة لواشنطن، حيث تنذر هذه المتغيرات بأن تدفع بالدبلوماسية الأمريكية لإهمال المصالح الخاصة لبعض الحلفاء، أو لفرض الحلول السياسية العسكرية التي تنطوي على تهديداً لأمن واستقرار شركائها في كل من أوروبا وآسيا، ومن الواضح أن هذا الخطر سيتفاقم إذا سعى بعض الحلفاء إلى ترتيبات خاصة مع روسيا والصين. لذا، فإن الصراع الراهن في أوكرانيا يمثل نقطة تحول للنسق الدولي القائم، يعيد إحياء بعض ملامح الحرب الباردة أو ربما يدفع نحو تحول حاسم في ميزان القوى الدولية.
المصدر: مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة