حقيقة المعركة اليوم.. أو أم معارك الانتقال الديمقراطي ..!؟
بقلم / د.خالد شوكات
هناك من ما يزال متمسكا بثنائية الثورة/ الثورة المضادة في توصيف حقيقة المعركة السياسية الجارية اليوم.. وحتّى أكون صادقاً مع نفسي ومعكم كما حرصت غالبا، فإنني أقول أنني لم أومن منذ البداية، أي منذ 2011، بأنها كذلك، وأنها في حقيقتها وَكما أتصورها معركة بين “الديمقراطيين” و”الإقصائيين”، ولي أسبابي في ذلك، والتي عبرت عنها منذ يوم 15 جانفي 2011 تباعاً وما ازال متمسكا بها الى اليوم، وبمقدوري أن أوجز أهمها كما يلي:
1- أن “الثورة التونسية” لم تكن ثورة بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، فهي من جيل جديد من الثورات تعبر عن نوع جديد من التغيير السياسي ألا وهو “التحول الديمقراطي” أو “الانتقال الديمقراطي”، ومن هنا فقد اكتسى المشروع الثوري في تونس صبغة “إصلاحية” تقوم على مصالحة “الجديد” مع “القديم” لا إحلال الجديد مكان القديم.
2- أن الفكرة الديمقراطية في تاريخ تونس المعاصر لم تكن وليدة “المعارضة السياسية” بل كانت وليدة “نظام الحكم”، وأن بعض أبناء منظومة الحكم / المنظومة القديمة، كانوا أوّل المطالبين بالإصلاح السياسي بالمعنى الليبرالي الديمقراطي: رسالة أحمد التليلي / حركة الديمقراطيين الاشتراكيين / تجربة محمد مزالي في الحكم، وقد التحقت باقي العائلات السياسية تدريجيا بالفكرة الديمقراطية، سواء من خلال مراجعات نظرية أو عبر تجارب عملية أو كلاهما معاً، فالإسلاميون أو اليسار أو القوميون العرب لم يكونوا أسبق من التيار الديمقراطي داخل العائلة الدستورية، في تبني برنامج الإصلاح السياسي التعددي والدفاع عن منظومة الحرّيات وحقوق الإنسان.
3- جل الذين انقلبوا اليوم على الانتقال الديمقراطي هم أشخاص أو أحزاب، كانوا يعتبرون أنفسهم في مقدمة المعسكر الثوري، بل كانوا يعدون أنفسهم ويطرحون ذواتهم باعتبارهم “أمناء الهيكل الثوري” (سعيّد، عبّو، حركة الشعب..الخ)، ولعل بعضهم أفسد محاولات الإصلاح من داخل الانتقال الديمقراطي، بحجّة فساد التوافق الندائي / النهضوي (الحداثي / الإسلامي) مرة، وبحجة النقاء الثوري (حكومة الفخفاخ / عبّو ) مرة أخرى، فيما كانت مصلحة الانتقال الديمقراطي، تقتضي تحالفا صلبا بين القوى الإصلاحية (الدساترة والإسلاميون أساسا)، على قاعدة “المصالحة الوطنية / الأولوية التنموية”، لا تحالفا بين ما يسمى بالقوى الثورية، التي لا تجمعها أي رؤية إصلاحية تنموية، وما تزال مشدودة إلى الصراعات الأيديولوجية، أكثر مما هي مرتبطة بحاجة الانتقال الديمقراطي إلى التمكين لمنوال تنموي جديد، يخلق الثروة ويعيد إلى المجتمع قيمة العمل المستحقة.
4- إن التمسك المرضي بصراع “الثورة / الثورة المضادة”، المنطلق من دواعي إيديولوجية، “مزايدة”، هو السبب الأساسي في الانتكاسة الحالية للانتقال الديمقراطي، من خلال إفشال ثلاث لحظات، كان ممكنا فيها بناء “تحالف حاكم” صلب وقوي، يجمع بين الالتزام الديمقراطي وتنفيذ الإصلاحات الهيكلية والتمكين للمنوال التنموي الجديد، وكان جوهر التحالف دستوريا- إسلاميا يجسّد عمق المصالحة الوطنية ويؤسس لظهور تيار محافظ ديمقراطي يقوم على رؤية ليبرالية وبرنامج إصلاحي ويساعد بالمقابل على بناء معسكر وسطي يساري يقوم بدور المعارضة البناءة ويمكن ان يشكّل بديل حكم مستقبلي. كان ذلك ممكنا في اللحظة الأولى سنة 2011، وفي اللحظة الثانية سنة 2015 مع ولادة أول حكومة للجمهورية الثانية بقيادة الحبيب الصيد، وفيّ اللحظة الثالثة والأخيرة بعد انتخابات 2019 عندما كان بمقدور النهضة اختيار الشخصية الصح لتشكيل ائتلاف وطني ديمقراطي ليبرالي إصلاحي بدل الإنصات لأصوات المزايدة الثورية الطهورية الكاذبة التي سرعان ما ستظهر حقيقتها الانقلابية البائسة.
5- وأخيرا فانه ليس أدل على تهافت هذه الثنائية المضللة “ثورة /ثورة مضادة” وجود قوى وشخصيات محسوبة على الثورة في مقدمة معسكر الانقلاب وقوى وشخصيات محسوبة على الثورة المضادة في مقدمة معسكر معارضة الانقلاب.
إن المعركة الحقيقية إذاً وَكما قدّمتُ هي بين “الديمقراطيين” و”الإقصائيين” وهي أم معارك الانتقال الديمقراطي لو تعلمون.