شركات “سبر الآراء”: “الجريمة” المستمرة من الثورة إلى الانتقال التونسي نحو الديمقراطية..
** غرفة العمليات التي انقلبت على الثورة والديمقراطية واستحقاقات التونسيين
تونس ــ الرأي الجديد / صالح عطية
رغم كل الانتقادات التي توجه إلى رئيس الجمهورية، وحجم الانتكاسة الشعبية التي يعشها منذ فترة، والتي ترجمتها نتائج الاستشارة الإلكترونية، التي كشفت عن لا شعبية رئيس الجمهورية، وبالتالي، أزمة الثقة فيه، التي تتسع يوما بعد آخر، رغم كل ذلك، كشف “باروماتر” سياسي، أجرته شركة سبر الآراء “سيغما كونساي” بالشراكة مع جريدة المغرب، اليوم، 18 فيفري 2022، أن رئيس الجمهورية قيس سعيّد، مازال يحافظ على المرتبة الأولى من حيث ثقة التونسيين في الشخصيات السياسية، وذلك بنسبة 67 بالمائة، تليه رئيسة الحكومة نجلاء بودن بنسبة 34 بالمائة.
ورغم أنّ بودن لم تنجز شيئا، وليس في سياستها، إن كانت لها سياسة، ما يشير إلى إمكانية ثقة الناس فيها، فإنّ “سيغما كونساي”، تأبى إلا أن تضعها في المرتبة الثانية من حيث ثقة التونسيين، وهو أمر يدعو إلى الريبة في هذه الأرقام وعمليات سبر الآراء، التي تقدم للتونسيين، عكس ما نسمعه وننصت إليه من التونسيين في الفضاءات العامة.
شخصيات مستهدفة
الغريب في الأمر، أنّ الشخصيات الأكثر استهدافا ونقدا في المشهد الإعلامي، وعلى مستوى بعض المكونات السياسية، على غرار رئيس حركة النهضة، راشد الغنوشي، وسيف الدين مخلوف، القيادي البارز في “ائتلاف الكرامة”، والرئيس السابق، المنصف المرزوقي، هي التي تحتل المراتب الأولى في انعدام الثقة فيهم من قبل المواطنين، وفق أرقام ومعطيات “سيغما كونساي”.
في مقابل ذلك، تقدّم المرأة التي رذّلت الثورة والبرلمان والحياة السياسية، ونعني هنا عبير موسي، رئيسة الحزب الدستوري الحر، على أنها الأولى في وعي التونسيين، وتتمتع بثقتهم الكبيرة في كل نوايا التصويت الانتخابي، وهي القادمة من نظام فاشي مستبدّ جثم على قلوب التونسيين لعقود، وأدّى بهم إلى ثورة عليه وعلى رموزه ورجاله.
ولكنّ عمليات سبر الآراء هذه، تقدمها كمخلصة “للأمة التونسية”، وعلى أنها البديل المنتظر للتونسيين خلال المرحلة المقبلة، فيما أنّ التونسيين في الأوساط الشعبية، تشمئز من هذا الحزب ورئيسته، وتعتبرهما “مضيعة لوقت التونسيين”، وهو ما يعبّر عنه التونسيون في الفضاءات العامة والخاصة، وفي الأسواق وفي وسائل النقل وغيرها.
هل يحتاج المرء إلى التأكيد على أنّ أرقام هذه الشركة، هي جزء من غرفة عمليات، يتحالف فيها الإعلام ومؤسسات إعلامية باتت معروفة للجميع، مع شركات سبر الآراء، على غرار “سيغما كونساي” و”إمرود كونسولتينغ”؟ فما تنتجه هذه الشركات، يقع تقبله في الإعلام على أنه “الحقيقة المقدسة” التي لا تقبل النقاش أو الطعن، أو حتى مجرد التساؤل حول مضمونها ومآلاتها وأهدافها وميكانيزمات إجراء عمليات سبر الآراء هذه… فقد كان الإعلام يعيد إنتاج هذه الأرقام، ويسوق لها، في توزيع للأدوار، معلوم وممجوج ورديء الإخراج.
هل نحتاج إلى فلسفة كبيرة، لكي ندرك أننا نعيش منذ الثورة، أزمة حقيقية في مجال سبر الآراء، أمام غياب القانون المنظم لهذه الأمور الحساسة، ومراقبة هذه الشركات، والتدقيق في أساليب عملها ومدى مصداقية وشفافية ما تقوم به.
تونس جديدة ممكنة.. هي الهدف
لا شك أنّ المشهد السياسي، يحتاج إلى شركات لتحسس رأي التونسيين واتجاهاتهم في التفكير، وهي عملية تستغلها الديمقراطيات العريقة، وحتى الناشئة، لتأسيس وعي سياسي واجتماعي، قادر على ضمان أدوات التقدم، وتحقيق التنمية، بمفهومها السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
أما عندنا، منذ الثورة التونسية، فقد لعبت هذه الشركات، دورا سلبيا في تتفيه الزعامات السياسية (أين نجيب الشابي، ومصطفى بن جعفر وحاتم بن سالم، وحمة الهمامي، والمنصف المرزوقي وغيرهم كثير)، وتتفيه الأحزاب، وترذيل الديمقراطية، والمؤسسات، وتنميط سلوكيات الناس، بفعل هذه المعطيات المشبوهة والمفبركة.
فلا ندري أين تجري عمليات سبر الآراء هذه… وهل تتم في وضح النهار، أم مع كائنات فوق أرضية لا نعلم عنها شيئا، فقط بضع أسئلة توجه للناس هاتفيا، ولا تعكس في الغالب، حتى الأجوبة التي يقدمونها للسائلين هاتفيا، وهو ما يتحدث عنه كثيرون خضعوا لهذه الأسئلة، ووجدوا أنّ آراءهم غير مترجمة فيما يسمى بعمليات سبر الآراء هذه.
كيف يجري تمويل هذه الشركات، التي تتوفر على علاقات واسعة مع أنظمة إقليمية ودولية (مصر ــ فرنسا وغيرهما..)؟ ولماذا صبّت كل أعمال هذه الشركات، ضمن مصالح الثورة المضادّة والدولة العميقة، إن لم نقل كانت أداتهما الفعالة في محاولات إفشال ثورة التونسيين، وتقديمها في صورة الكابوس الذي حلّ بالتونسيين، وكأنهم كانوا في بحبوحة من العيش الرغيد.
بات ضروريا اليوم، من قبل السياسيين ورجال القانون، وفعاليات المجتمع المدني، طرح ملف شركات سبر الآراء، التي يعتبرها البعض “مشبوهة” في أرقامها وكيفية عملها، ومن يقف خلفها في الداخل والخارج، بل إنّ محاسبتها لا بد أن تطال المهمات التي لعبتها خلال السنوات العشر الماضية، حيث ساهمت في جميع الانتكاسات التي حصلت للثورة، ولاستحقاقات التونسيين وانتظاراتهم..
خيبة أمل… ولكن
نعم خيب السياسيون الذين حكموا البلاد، من “حركة النهضة” و”المؤتمر من أجل الجمهورية”، و”التكتل الديمقراطي”، ثم بعد ذلك، “نداء تونس”، و”قلب تونس”، و”التيار الديمقراطي”، و”تحيا تونس”، و”حركة الشعب”، و”ائتلاف الكرامة”، و”مستقلون”، كثيرون بعباءة “الكفاءات الوطنية”، تارة، أو بجلباب “التكنوقراط” تارة أخرى.
غير أنّ ذلك كله، لا يعني أنّ المشكل في الثورة، أو الديمقراطية أو الحريات أو المؤسسات على هشاشتها، أو في مسار الانتقال التونسي نحو الدولة الديمقراطية، أو في “تونس جديدة ممكنة”، كما كان يسميها المنصف المرزوقي.
لقد ربطت هذه المؤسسات، بالشراكة مع مؤسسات إعلامية عديدة، وضمن إدارة نشيطة لغرفة العمليات، بين الثورة والديمقراطية والحرية، من جهة، والفقر والبؤس والفساد واسطوانة نهب المال العام، وأموال التونسيين المنهوبة، وغيرها من جهة أخرى، من تلك الكليشيهات التي عرفناها في هذه المرحلة، التي باتت مكشوفة ومفضوحة، حتى لأطفال الأحياء والأنهج والأزقة.
سيتحمل من حكموا مسؤولية السكوت على هذه المؤسسات والشركات، التي هادنوها، و”مكمكوا” معها (بالتعبير الشعبي)، وتماهوا معها، في إطار سياسة “بوس خوك”، و”اذهبوا فأنتم الطلقاء”، فدهب هؤلاء إلى الغرف المغلقة لإعداد مقبرة الثورة، والديمقراطية وحريات التونسيين، وعملوا على التأسيس لمرحلة عنوانها الأساسي: لنبك جميعا على حكم بن علي”، وهذه الطامة الكبرى.
فالشعوب تتقدم في التاريخ، ولا تتخلف في الزمن.. وبئس لنخبة أو طبقة سياسية تحنّ للماضي، إلا إذا كان هذا الماضي، عنوان استفادتهم وأدوارهم المشبوهة، وهو ما نرجحه فعلا، ولذلك تراهم مدافعون عن تلك المرحلة، بل يحرصون حاليا على إعادة إنتاجها بنفس الأساليب واللغة والشخوص القديمة.