أميركية خبيرة بشؤون تونس: استيلاء سعيّد على السلطة ناقوس الموت للديمقراطية الوليدة في تونس
بقلم / مونيكا ماركس
انهار النظام الدستوري التونسي في 25 يوليو 2021، عندما قام قيس سعيّد، أستاذ القانون السابق الصارم الذي انتُخب رئيسًا للبلاد في عام 2019 بعد أن كان مرشحًا مغمورًا، بتعليق مجلس النواب المنتخب ديمقراطيًا فجأة، ودون سابق إنذار أو تبرير دستوري مشروع. وقام بنشر دبابات الجيش على أبواب مجلس النواب، وشرع في الحكم من خلال أوامر شخصية، في اغتصاب كبير لجميع السلطات الحكومية.
بين الإنقاذ… والإنقلاب
وبالنظر إلى حجم التصرفات التي قام بها سعيّد، والسرعة التي تم بها استهداف منتقدي الانقلاب الرئاسي الذي قام به سعيّد، من خلال الاعتقالات وحظر السفر، بدا أن أقلية كبيرة من التونسيين قد أصيبت في بادئ الأمر بظلال من الصمت. تردد البعض في التعبير عن مخاوفهم بشأن سعيّد بشكل رسمي في الصيف الماضي، لكنهم عبّروا عن قلقهم بصورة غير علنية في أن استيلاءه على السلطة، يمكن أن يشير إلى ناقوس الموت للديمقراطية الوليدة والهشة في تونس، والتي ــ على الرغم من التحديات العديدة والموثقة جيدًا ــ ظلت النظام الوحيد لحكومة تمثيلية منبثقة من الربيع العربي.
لكن في الأيام التي أعقبت استيلاء سعيّد على السلطة مباشرة، بدت الغالبية العظمى من التونسيين في العاصمة، تونس، بما في ذلك العديد من الأصدقاء والمعارف المقربين ممن عرفتُهم منذ سنوات، غير منزعجة بل إنها كانت مبتهجة بإجراءات سعيّد. احتفل الكثيرون، بمزيج من الحيوية والغضب المناصر، بما فعله سعيّد، مبررين ذلك على أنه تصحيح ضروري لإعادة تونس إلى مسار العدالة الثورية، التي انحرفت عنها في ظل مختلف حكومات ما بعد الثورة التوافقية، ولكن المختلة وظيفيًا.
من وجهة نظرهم، موقف سعيّد لا يتعلق بطموحات سياسية تافهة، فهو أستاذ قانون نقي ودقيق، تبرأ من أي رغبة في إنشاء حزب سياسي خاص به، ورجل يمتلك ما يكفي من الأصالة الراسخة، والأمانة الصادقة لإحباط “الشياطين” الفاسدين و”الخونة”، و”الميكروبات”، و”الفيروسات”، التي زعم أنها تشكل كامل الطبقة السياسية في تونس.
من الأمل… إلى الإحباط
قالت دنيا، وهي امرأة في منتصف العمر، وأم لولدين بالغين، تعيش في حي دوار هيشر في تونس العاصمة في أواخر يوليو: “يجب أن يطرد كل [السياسيين]، كلهم!” كانت تضرب كفيها بقوة على الطاولة في كل مرة شدّدت على كلمة “كل”. كررت عن غير قصد شعار الاحتجاجات في الجارة الجزائر، التي أطاحت برئيس سلطوي قابع في السلطة منذ فترة طويلة، وسعت إلى استبدال كامل للنظام السياسي في 2019 و 2020، حيث قالت: “يجب أن يرحلوا كلهم”.
خلال ثماني سنوات من معرفتي بدنيا وأبنائها، لم أرها أبدًا منخرطة بالسياسة. في الانتخابات الرئاسية لعام 2019، لم تدلِ دنيا بصوتها، حيث سئمت من السياسيين التونسيين. لكن سعيّد أخرج غضبها، وزرع فيها بذرة الأمل غير المتوقعة في أن حل التحديات المزمنة في تونس، بما في ذلك الكوابيس الدائمة من الضيق الاقتصادي وإصلاح قطاع الأمن، يمكن أن يكون بسيطًا مثل التقاط سمكة من مستنقع ملوث.
وقالت بنبرة غاضبة: “عشر سنوات في السلطة، وهذه الحكومات لم تحقق شيئًا سوى مضايقة ابنيّ من خلال رجال الشرطة التابعين لهم”. وأضافت: “كلهم كيف كيف (أي نفس الشيء). ضعهم في سلة ثم ارمهم في البحر، بالنسبة لي، لا أريد أن أرى أي وجه منهم مرة أخرى”.
لم يقل سعيّد ولم يفعل شيئًا خلال حملته الرئاسية لعام 2019 أو خلال العامين اللذين قضاهما في المنصب لإصلاح وحشية الشرطة العميقة الجذور في تونس، أو إطلاق الإصلاحات المتعثرة منذ فترة طويلة، للاقتصاد والأجهزة الأمنية. ومع ذلك، كانت دنيا مستعدة لدعمه، على أمل أن ينجح فيما فشل فيه سياسيون آخرون. وشددت على أن سعيّد، وليس أيًا من “الفاسدين في البرلمان”، سوف “يسحب الشرطة” من على ظهور ابنيها و”يتركهما يعيشان حياة طبيعية مثل الشباب في أحياء أفضل”.
حملت نبرتها ثقة محمومة، صوت امرأة قوية وساخرة للغاية، وجدت أخيرًا إيمانًا بشخص قد يفي بوعوده.
وعود غامضة.. وحديث عن انقلاب
سألتها ماذا عن التقارير التي تفيد بأن قوات الأمن التونسية، كانت توسع دائرة القمع، لتشمل أعضاء في البرلمان، مثل النائب المناهض للفساد ياسين العياري، الذي أخرجوه من منزله في شاحنة صغيرة، على الرغم من أنني شعرت أنه لا يوجد شيء يزعزع ثقتها بسعيّد. أجابت: “من أجل إصلاح الأمور في تونس، ينبغي كسر هذا النظام السيئ بنسبة 100 في المائة.
هكذا تتم الأمور”، وكأنها تتبع طريقة الأمهات في القول بأنه أحيانًا في هذه الحياة، لا يمكن صنع كيكة دون كسر بضع بيضات. وأضافت: “طريق قيس هو السبيل الوحيد. هو ما يريده الشعب. يمكنك مشاهدة هذا الأمر. إنه أمر واضح، أليس كذلك؟”..
بعد خمسة أشهر في يناير2022، تراجعت ثقة دنيا في قيس إلى حد كبير، مثلها مثل معظم التونسيين الآخرين الذين قابلتُهم منذ الصيف. لقد تحول الحماس النابض بالحيوية، الذي أبدته مع العديد من الآخرين ذات مرة لسعيّد، الذي وصفوه بأنه مخلص ثوري لا تشوبه شائبة، إلى شعور صامت بالتفاؤل المرتبك المملوء بإحباطات عميقة. على مدى أقل من ستة أشهر، بدا أن سعيّد يتحول في عينيها من شخصية شبه ملائكية قادرة على تحقيق أحلام التونسيين الثورية التي طال انتظارها، إلى مجرد شخصية سياسية أخرى محبِطة، قد لا تتحقق وعودها الغامضة.
تتساءل دنيا الآن: “ما هي خطته؟ ماذا يفعل؟” وقد اختفى بريق عينيها وهي تدعم سعيّد في الصيف الماضي. وأضافت: “أصبحت المواد الغذائية أغلى من أي وقت مضى. ضربت الشرطة ابني الأصغر مرة أخرى الأسبوع الماضي. لم يتغير شيء”.
تشير استطلاعات الرأي، رغم أنها غالبًا ما تكون غير موثوقة منهجيًا في تونس، إلى أن دنيا جزء من فئة كبيرة. وفقًا لاستطلاع الرأي الذي أجرته منظمة إنسايتس تي إن التونسية، انخفض دعم الشعب لسعيّد إلىالنصف تقريبا منذ أواخر يوليو/تموز. وفي نفس الاستطلاع، ارتفعت نسبة التونسيين الذين يعتقدون أن ما حدث في 25 يوليو كان انقلابًا من حوالي 40 في المائة إلى 65 في المائة.
خطوات سعيّد الواضحة نحو التوطيد الديكتاتوري على مدى الأشهر الستة الماضية، بما في ذلك فرض حظر سفر شامل في أواخر يوليو/تموز على رجال الأعمال وجميع البرلمانيين المنتخبين منذ عام 2011، وتعليق الدستور في منتصف سبتمبر/أيلول، وفرض مجلس وزراء غير دستوري من اختياره، بدلًا من موافقة البرلمان في نوفمبر/ تشرين الثاني، قد كلفته الكثير من الثقة التي كان يتمتع بها بين بعض الأحزاب السياسية، وجماعات المجتمع المدني.
الكاتبة: مونيكا ماركس، أستاذة مساعدة في سياسة الشرق الأوسط بجامعة نيويورك بأبو ظبي، ولديها أكثر من عشر سنوات من الخبرة البحثية حول تونس.
المصدر: منظمة DAWN لتعزيز الديمقراطية