في سبيل سرديّة لمسار الثورة التونسيّة: الوحدة الوطنيّة آخر الحصون
(الحلقة الثانية والأخيرة)
بقلم / محمد الرقاد*
طرح الكاتب، الأستاذ، محمد الرقاد في الحلقة الأولى من مقاله بغنوان: “في سبيل سرديّة لمسار الثورة التونسيّة: الوحدة الوطنيّة آخر الحصون”، الذي نشر في موقع “الرأي الجديد”، معاول التقسيم الذي خضع له المجتمع والمشهد الفكري والسياسي في تونس، وتناول بالتحليل، الخطاب الإعلامي كأحد أهم أسباب التقسيم، متطرقا إلى أصناف هذا الخطاب، الذي سبب في ما سماها “تشوهات”، قبل أن يطرح تساؤلا حول سبل معالجة هذه التشوهات، وهو موضوع الحلقة الثانية والأخيرة من المقال..
وفيما يلي، نص الحلقة الثانية…
عناوين التقسيم
لقد اشتغلت معاول التقسيم أو من يديرها ويدعمها بعد ثورة الحريّة والكرامة، على عناوين متعدّدة: لقد سبق أن أشرت أنّ لحظات الثورة أيقظت خير ما في الشعب التونسي، فقد تعارف الأجوار وتقاربوا، وحاولوا ترميم ما أصاب النسيج المجتمعي من تصدّع وانكسار، بفعل الآثار السلبية للاستبداد، التي اشتغلت على كسر ذلك النسيج… لكن سرعان ما استفاقت المنظومة القديمة وما اصطلح عليها الدولة العميقة، ووجدت منافذ لها فيما يخترق الشعب التونسي من خلافات إيديولوجيّة وسياسيّة، ظلت تتوسّع وتشتدّ سيما بعد مرحلة انتخابات 2011.
ثم انطلقت الصراعات الهوويّة، وبلغت حالة عالية من القصوويّة المقيتة، وتمّ توظيفها في كسر حالة الانسجام المجتمعي الطارئة، فبدأت التصنيفات: هؤلاء ثوريون وأولئك منظومة قديمة، بل ” أزلام”.. هؤلاء تقدميون حداثيون، وهؤلاء رجعيون.. هؤلاء وطنيون، وغيرهم تابعون لأحلاف خارجيّة أو لمشاريع إقليميّة أو مصنوعون من قوى أجنبيّة..
تواصل هذا الصراع الهووي، وظل يعلو فترة وينخفض أخرى، إلى أن تمّت المصادقة على دستور الجمهوريّة الثانية في 27 جانفي 2014، مصادقة حظيت بنسبة عالية من التوافق فاقت كل توقّع. عندها ظن البعض أنّ الصراع الهووي قد حسم، وأنّنا كتونسيين تواضعنا على قيم ومبادئ، هي من جوهر وصميم كينونتنا الحضاريّة، لكن لم يكن الجميع مهيّأ بالقدر اللازم إلى مثل هذا الوعي، فظلت بعض الأطراف تتحيّن الفرص، وتسعى بين كل فترة وأخرى، إلى إحياء تلك العناوين والاستثمار فيها بشكل فجّ.
لقد عرفنا خلال المرحلة الحالية، انقساما لم أجد له تبريرا مقنعا.. كيف يظهر ذلك؟
تشهد تونس هذه الأيام صنفين من الحراك المواطني.
الأول، سياسي يدافع عن احترام المسار الدستوري الديمقراطي، ويعارض ما أقدم عليه الرئيس من تدابير استثنائيّة في 25 جويلية 2021، وما تلاها من مراسيم، لاسيما المرسوم 117 بتاريخ 22 سبتمبر 2021.
والثاني، اجتماعي تنفذه فئات اجتماعيّة مختلفة، مثل عمال الحضائر، وشباب الكامور، والأساتذة النواب، وممّن عرفوا بحراك القانون 38، الذين يطالبون بحقهم في الانتداب في الوظيفة العموميّة، وفق قانون صادق عليه مجلس النواب، وختمه رئيس الجمهورية، وصدر بالرائد الرسمي.
الأكيد، أنّ المشكل، ليس في التحرّك والتعبير على الرأي، مادام سلميّا وفي إطار القانون ولكن الخلل في حالة عدم التقارب، أو الانصهار والتعاون بين الحراكين. كيف السبيل إلى تحقيق هذه الوحدة؟
أوّلا على الحراك السياسي أن يتخفف من سطوة السياسي، فيخطو خطوات في اتجاه الحراك الاجتماعي. ألا يطرح هؤلاء السياسيين أنفسهم بدائل ممكنة؟ أليس للقائمين على الحراك الاجتماعي مطالب مشروعة؟ هم مواطنون ينادون بمطالب تنمويّة، أو بحقهم في التشغيل، وأن توفر لهم الدولة كما لغيرهم، أسباب العيش الكريم في كنف تساوي الفرص. هم مواطنون… وهم الذين سيتوجه إليهم السياسيون بخطاباتهم وبرامجهم في المحطات الانتخابيّة…إذن نقدّر أنّ الحراك السياسي يتحمّل العبء الأكبر في هذه الحالة من التقسيم، أو قل عدم الالتقاء، كما أنّ الحراك الاجتماعي هو نفسه، مطالبا بأن يعدّل من “الطهريّة السياسيّة”، والحال أنّهم في حاجة إلى من يدعمهم ويتبنى مطالبهم دون اختطافها.. فيقنعون السياسيين بمطالبهم، بل يحيون فيهم الانعطافة الاجتماعيّة الحقيقيّة، فلا تبقى مجرّد شعار يرفع حينا، وينسى وقتا آخر.
حالات نجاح في دعم الوحدة
بالرغم ممّا سبق ذكره من معاول تقسيم، وقد فعلت أوسع ما يمكن من هدم، منتجة تشوهات عديدة، وبالرغم من العناوين التي وظفت كمحامل لهذا الجهد، فإنّ كثيرا ما يسجّل كل دارس أو متابع غلبة الطبع الأصيل التطبّع، لدى الشعب التونسي، تظهر عمق الوحدة، وصفاء السريرة، وكثيرا ما عرف التونسيون لحظات مشرقة، يكون الانسجام والتوافق والوحدة، هي العنوان..
جرى تحقيق هذه الحالة، معتمدين منهجيات فريدة في إدارة الاختلاف والتنوّع والتعدّد، في كنف الأخلاق السياسية العالية، ضمن سياق الانتقال الديمقراطي.
حقيقة هي محطات كثيرة، وستظل عناوين فخر ونياشين يحملها هذا الشعب العظيم، يتناقلها جيل بعد جيل، لذلك سأكتفي بذكر بعضها فقط على سبيل الذكر لا الحصر.
لقد أنجز الشعب التونسي موحّدا ثورة وسمت بثورة الياسمين، لما قدّمته من رسائل سلم وأمان وعدم تشفّ، وسرعان ما أدرك عقلهم الجمعي إلى أن التطوّر هو احتفاظ مع تجاوز، فتنادوا إلى طاولة حوار جامعة لكل العائلات الإيديولوجيّة والسياسية، ولعدد من أهل الرأي المعروفين باستقلاليتهم، فتوافقوا على انتخاب المجلس التأسيسي، وعلى قانون انتخابات جوهره توسيع دائرة التمثيليّة… وأقرّ التونسيون اعتماد العدالة الانتقاليّة كخيار وطني حضاري ونبيل، يكشف ما جرى في الماضي وما لحق أفراد وكيانات وجهات، من حالات ظلم زمن الدولة الوطنيّة، ويعالج آثارها، حتى ينتهي التونسيون إلى مصالحة وطنيّة شاملة، تداوي الجراح وترمّم الأوجاع، فلا يرتكب الحاضر الثوري الديمقراطي المزيد من المآسي.
الحوار والتشاركية.. والانتقال السلس
ولئن تخللت مرحلة كتابة الدستور، تجاذبات ونقاشات حادّة، وكنت أشرت إلى ما بلغته أحيانا من صراعات هوويّة، حاولت بعض الجهات استغلالها بصفة سلبيّة، وعملت جاهدة على النفخ فيها، لكن غلبت الحكمة، واعتبرت طبيعيّة كان لا بدّ أ تحدث، أو هي علامة ثراء، أو هي من سمات حيويّة شعب، ودرجات إبداع نخبه… فإنّ العقل والوجدان التونسي لم يضيرهما أن يلتقي المختلفون، وينتهوا إلى توافقات تاريخيّة، دعّمت وحدتهم وحمت ثورتهم وانتقالهم من كل متربّص… وظل الحوار هو المفتاح، كلما ضاق الأفق أو انسدّت السبل. ولعل جائزة “نوبل للسلام”، كانت أكبر اعتراف عالمي لما اكتسب التونسيون من اقتدارات نوعيّة، على إدارة التنوّع ومعالجة الخلافات والأزمات، مهما كانت حادة. وهذا ما يسّر التوافق على دستور 2014. كيف لا وعقلهم الجمعي يقول لئن نتفق على الحدّ الأدنى، خير من أن نتقاتل على الحدّ الأقصى؟
وقد مكن الدستور، إلى جانب تثبيت وحدة هويّتهم التي ترسخت على المدى الحضاري، والتي حمل لواءها الأجداد المصلحون منذ أزمان خلت، مكن التونسيين من إنجاز انتقال سلس. وقد تمكنوا من علاج ما كان عنصر قلق عند البعض من التونسيين إبان الثورة، إذ اعتبر دستور الجميع، وأن سفينة البلاد قادرة على حمل الكل الوطني، ليبنوا معا تونس الحرّة الديمقراطيّة، التي يتحقق فيها العدل والعيش الكريم لكل مواطنيها، وربّما استحضر هنا من قال “كل من دخل تحت خيمة الدستور، فهو ابن الثورة”… فلا يزايد أحد على أحد. ولا يدّعي طرف الوطنيّة وينفيها على غيره، وإنّما أمامهم التنافس النزيه لخدمة وطنهم في كنف التشاركيّة والحوكمة الرشيدة.
يوجد هذه الأيام التقاء مواطني سياسي فريد، يدعم الوحدة الوطنيّة، ويعالج بعض آثار الفرقة التي أصابت الجسم الثوري، التقت فيه عائلات فكريّة وإيديولوجيّة وسياسية متنوّعة وهي بصدد بلورة مشروع وطني جامع وطموح من أجل إعادة الديمقراطيّة لتونس ومن أجل استئناف المسار الدستوري الذي دخلت به بلادنا النادي الديمقراطي الدولي.فتذكر التونسيون هذه الأيام الاتقاء التاريخي الذي جرى سنة 2005 وعرف بحركة 18 أكتوبر ويقدّر الملاحظون أنّه كان له بالغ التأثير في حدوث الاجتماع الوطني الذي انتج ثورة الحرية والكرامة. وما الأمس عن اليوم ببعيد.
آفاق التجاوز والعلاج
سأنطلق من بعض ما أعتبره مسلمات وهي:
أ ــ إنّه لا مجال للمقارنة بين ما يجمع بين التونسيين – مهما أبدوا من اختلافات- وبين ما يفرّق بينهم. ولا أحد يستطيع أن يزايد على الآخر لا في الوطنيّة ولا في الحداثة أو في الأصالة.
ب ــ إنّ كلفة التقريب لا تكاد تذكر أمام ما يمكن أن ينجرّ عن التقسيم من تشوّهات ومن انكسارات سيظل لها بالغ الأثر السلبي في الحاضر كما في المستقبل.
ج ــ التونسيون جميعا مهما كانت مرجعياتهم أو مدارسهم الفكريّة فهم في الغالب يميلون إلى الخط الوسطي والمعتدل في كل مدرسة وليس عندهم أيّة عقدة إزاء طلب الاستفادة من المنجز الإنساني الذي يثبت جدارته استفادة نقديّة وواعية مع مراعاة لبيئتهم الحضاريّة.
الأكيد أنّ معاول التهديم والتقسيم أنتجت كما أسلفت القول تشوّهات بالرغم من أصالة الوحدة الوطنيّة وبالرغم ممّا اكتسبه الشعب التونسي من عناصر دفاع ذاتي على مدار دوراته الحضاريّة ستظل معينه الذي لا ينضب. وبناء على ما تقدّم هل يجوز لأيّ كان أن يقزّم ما يمكن أن يبذل من جهد في سبيل علاج الآثار السلبيّة وفي سبيل تدعيم الوحدة وجعلها من الأولويات ؟ وهل من الصواب ألا نعزم أمرنا في الحاضر؟ فننقذ بلادنا أيقونة العرب، ولا نورّث الجيل القادم الخيبات والنكسات التي يمكن أن ينتجها التقسيم. فيلتقي الكل الوطني على خدمة المصلحة الجامعة. وهل هذا بعزيز على شعب أبيّ، حرّ ومستنير؟ كلا..
ليترك الجميع الاختلافات إلى المحطات الانتخابيّة. وليتنافسوا فيما يمكن أن يقدّموا من برامج تنمويّة قادرة على الإصلاح وصناعة المستقبل. ليسلك الجميع الطريق غير المسلوك. أمّا من يظل جاثما ولا يبرح مربع الإقصاء او الاستئصال أو التشدّد أو التخوين فتلك أجسام محنطة عليها أن تراجع وتمارس النقد الذاتي. ما لم ينجزوا هذا سينتهون إلى ظواهر عابرة حالها كحال المنبت الذي ” لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى “.
* باحث في الحضارة