“النقطة الإعلامية” لوزير الداخلية: قراءة في المخرجات القانونية.. والإخفاق التواصلي..
بقلم / صالح عطية
لا يبدو أنّ وزير الداخلية، توفيق شرف الدين، إذا ما أعاد مشاهدة شريط “النقطة الإعلامية” التي قام بها أمس، سيعيد ذات الأخطاء والتقديرات القانونية والسياسية والإعلامية، إذا ما فكّر في تنظيم نقطة إعلامية أخرى..
إذ يشير الخبراء في القانون، إلى بعض الإخلالات القانونية والإجرائية في “النقطة الإعلامية”، فضلا عن الأسلوب الاتصالي، الذي بدا غير مقنع، ويفتقر إلى الكثير من “التروشيكات” الضرورية، التي كان يفترض دراستها بشكل جيّد، خصوصا وأنّ الوزير بات جزءا من الصراع السياسي، وسيواجه بانتقادات حادّة على كل خطإ، أو شبهة خطإ، يمكن أن يرتكبه.
من الناحية القانونية
أنّ النيابة العمومية، هي التي يكفل لها القانون، تكييف الوقائع والأحداث، على أنها جنايات أو جنح، خطيرة أو أقل خطورة، إرهابية أو غيرها، أما الضابطة العدلية التي أشار إليها وزير الداخلية، فلها اختصاصات أخرى، وأحسب أنّ الوزير، المحامي مدرك لذلك جيدا.
يضاف إلى ذلك، أنّ وضع المواطنين تحت الإقامة الجبرية، ينبغي أن يخضع إلى تحقيق ومعاينة للجريمة، وعملية جمع الأدلّة، وإعداد الملف بشكل جيّد، قبل تقديم “الفاعلين” أو المشتبه فيهم إلى النيابة العمومية، وهذه الخطوات الأساسية، من اختصاص الضابطة العدلية..
ومن ثمّ فالخطوات التي تم اتباعها في موضوع النائب والناشط السياسي، نور الدين البحيري، والأمني، فتحي البلدي، تبدو مختلة من الناحية الإجرائية، لأنّ عملية الخلط بين مهام الضابطة العدلية، والنيابة العمومية، بدت واضحة، من خلال المبررات التي قدمها وزير الداخلية في النقطة الإعلامية..
ويبدو أنّ وضع البحيري والبلدي، تحت الإقامة الجبرية، كان متسرعا، وتم الاشتغال عليه ــ على ما يبدو ــ دون دراسة الجوانب القانونية اللازمة، ويشعر المرء، كأنّ السلطة سارعت إلى اعتقالهما ووضعهما تحت الإقامة الجبرية، بمجرّد بلوغ تقارير أمنية أو استعلاماتية، قد تكون أغضبت قيادات عليا في السلطة، وتقرر في ضوء ذلك، الإسراع بالاعتقال، في انتظار جمع الأدلّة والحجج، وعندما طالب الصحفيون والإعلاميون، بضرورة خروج الحكومة، ووزارة الداخلية تحديدا، لتوضيح أمور كثيرة تتعلق بعملية الاعتقال وحيثياتها، تم اللجوء إلى تلك المسوّغات التي وصفها محامون ورجال قانون بــ “المبررات الواهية”.
إخلالات مثيرة
على أنّ ما أفصح عنه توفيق شرف الدين، بخصوص طبيعة الجرائم، والتصنيف الذي تقدّم به، يحتاج إلى مناقشة قانونية واسعة، رغم أننا لا ندعي التخصص القانوني، بقدر ما هي ملاحظات يفرضها السياق القانوني والسياسي للقضية، من ناحية، ولأنّ المسألة تتعلق بصورة الدولة التونسية، في مواجهة خصومها، وهي مواجهة يفترض أن تحترم قوانين الدولة ومادتها التشريعية، بفروعها الجزائية والجنائية والجناحية وغيرها..
وتأسيسا على ذلك، فإنّ “جريمة” اصطناع جوازات سفر والجنسية ومضامين الولادة، أفعال لا ترتقي إلى مستوى الجرائم الخطيرة، التي تنال من الأمن العام، أو النظام العام، كما تحدّث وزير الداخلية..
إذ وفق الفصول 193 و194 و199 من المجلة الجزائية، فإنّ هذه الأفعال تدخل ضمن خانة الجنح، التي تتراوح العقوبات في شأنها، بين عامين وثلاث سنوات سجنا، وبالتالي، فهي لا تستدعي البتّة، اتخاذ قرار الوضع تحت الإقامة الجبرية..
ولعلّ السيد وزير الداخلية، يعلم علم اليقين، أنّ لكل فعل “إجرامي” زمن قضائي وقانوني يحتكم إليه، وإذا كانت هذه “الجرائم المزعومة”، تعود إلى سنة 2013، كما صرح بذلك توفيق شرف الدين، وعلى فرض ارتكابها من قبل البحيري والبلدي (أو أي مواطن تونسي آخر)، فإنّ زمنها القانوني والقضائي، يجعلها تسقط بالتقادم، وفقا لأحكام الفصل الخامس من مجلة الإجراءات الجزائية، الذي ينص هنا على أنّ الدعوى العمومية، تسقط بمرور 3 سنوات من ارتكاب الأفعال الإجرامية، وهو ما يدركه الوزير بلا أدنى شكّ، وتدركه الاستشارية القانونية لوزارة الداخلية، التي تتوفر على كفاءات عالية المستوى، من دون شكّ، ما يجعل السؤال مطروحا بجدية: كيف تسمح الوزارة بهكذا إخلالات، وهي تواجه قضية، أدواتها قانونية، ومضمونها وإخراجها وتداعياتها، سياسية بكل معنى الكلمة؟
هكذا يبدو ــ في نظرنا ــ ومن زاوية القراءة القانونية الصرف، أنّ وضع “مجرمين” كما تم توصيفهما ضمنيا، في النقطة الإعلامية، رهن الإقامة الجبرية، بعد مرور أكثر من 7 سوات على هذه الأفعال، التي تزعم الداخلية، ارتكابها من قبل البحيري والبلدي، يصبح عملا غير قانوني بكل المقاييس، حتى وإن استند السيد توفيق شرف الدين، على الأمر المتعلق بحالة الطوارئ، ومن بين دفته، موضوع الإقامة الجبرية.
يضاف إلى كل ذلك، أنّ ثمّة إجماعا حول عدم مشروعية هذا النص، الذي تعتبره النخب السياسية والحقوقية، ورجال القانون في تونس، معرّة لا تشرف المنظومة القانونية التونسية، فكيف تلجأ إليها وزارة الداخلية، وهي المنخرطة منذ 25 يوليو، فيما يعتبره البعض “تصحيح مسار”؟ ألم يكن من الأجدى أن تمثّل قضية “الإقامة الجبرية” هذه، مناسبة للشروع في عملية التصحيح التي بشّر بها رئيس الجمهورية، وكان يفترض عدم استخدام ما يلام عليه الخصوم، من الناحية الإجرائية، فضلا عن مضمون البوصلة التي اختارتها “الداخلية” ؟
لماذا ينتقد الحكام الجدد ــ في كل فترة ــ ما أتاه من سبقهم، ثم سرعان ما يكررون أخطاءهم وخزعبلاتهم، وتجاوزاتهم؟
الجانب الاتصالي
على أنّ النقطة الإعلامية، تطرح من ناحيتها، الكثير من الملاحظات، سنختزلها في النقاط التالية:
** غير معروف إلى حدّ الآن، لماذا لجأ وزير الداخلية، إلى “نقطة إعلامية” بدلا من مؤتمر صحفي.. هل كان مكلفا من الرئاسة، بسرد ما قرأه من نص في هذه النقطة؟ أم أنّه اختار عدم الزجّ بنفسه، وبالسلطة في نهاية الأمر، في موجة من التساؤلات التي كان سيطرحها الصحفيون، لو أتيحت لهم إمكانية طرح الأسئلة، التي يبحث الرأي العام التونسي، وحتى النخب السياسية والقانونية، بعد اعتقال أو احتجاز، البحيري والبلدي، عن إجابات عليها؟
أم أنّ الوزير تجنّب الدخول في بعض التفاصيل، التي كان تناولها من قبل الصحفيين، سيلقي الضوء ــ بالضرورة ــ على الكثير من “البقع السوداء” في حادثة الاحتجاز أو الاختفاء القسري للرجلين؟
** يمكن القول من منطلق التجربة في علاقة بالمؤتمرات الصحفية، في تونس والخارج، أنّ تجنّب الخوض في موضوع شغل العالم يوم أمس الأول، عبر استبعاد أسئلة الصحفيين، يدلّ دلالة واضحة، على أنّ ثمة “ريموت كونترول” كانت تقود وتحدد مضمون النقطة الإعلامية، وكيفية مجاراة التطورات السياسية والقانونية في البلاد..
بمعنى آخر، من الواضح أنّ “إدارة” وزارة الداخلية، لا تتم في الوزارة، بقدر ما تضطلع بها رئاسة الجمهورية، على الأرجح، التي ترفض التعامل مع الصحافة الوطنية، وهي منذ صعود الرئيس قيس سعيّد إلى الحكم، في قطيعة شبه تامة مع الصحفيين والإعلاميين، إلا ما كان البعض القليل والمحدود، ضمن وظائف اختارتها الرئاسة، وقبل بها هؤلاء.
أما وجود خطة إعلامية للتعامل مع الإعلام الوطني، بكيفية واضحة وشفافة، فهذا ما رفضه ــ وما يزال ــ قصر قرطاج، والنقطة الإعلامية لوزير الداخلية، دليل إضافي على ذلك، وقد كانت نقابة الصحفيين نبهت، بل نددت بذلك في مرات عديدة، لكن، “على من تقرأ زبورك يا داوود”، كما يقول المثل العربي الشهير..
ويبدو أنّ علاقة السلطة بالإعلام، لا تقتصر على وزارة الداخلية، موضوع الحال، بقدر ما تنسحب على بقية الوزارات الأخرى، بما فيها رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية..
** بدا وزير الداخلية، مرتبكا، رغم أنّه يقرأ نصا جاهزا، وكان يبدو عليه الإعياء (وهذا مفهوم)، بل كان الرجل يلتقط أنفاسه أحيانا، من أجل المرور من جملة أو فكرة إلى أخرى، وكأنه كان يحسب كلماته، ويتخيّر جمله، وهو الرجل الواقع تحت ضغوط شديدة، بدءا بالقيادات والمسؤولين الأمنيين من حوله، ومرورا برئاسة الجمهورية التي لا يبدو أنها تسمح له بالأريحية التي يرغب فيها، ووصولا عند المحيط السياسي والإعلامي والشعبي، وأحيانا الهرسلة المعنوية ــ على الأقل ــ التي يتعرض لها من خصومه السياسيين، حتى وإن لم يختار أن يكونوا خصومه بالضرورة..
وهذه الصورة، لا تبدو جيّدة، لوزارة، يفترض أنها تمرّست منذ الثورة إلى الآن، على إدارة مثل هذه الأحداث “إعلاميا”، ويفترض كذلك أنها تعرف كيف تخرج منها “اتصاليا”، ولو “بأخف الأضرار”، كما يقول المعلقون على مباريات الكرة..
في النهاية كان يمكن لوزارة الداخلية، إصدار بيان كتابي، تطرح فيه مقاربتها لما جرى، دون اللجوء إلى النقطة الإعلامية، التي تعدّ ــ في الحقيقة ــ آلية لا تليق بالإعلام التونسي، فضلا عن كونها أداة يستخدمها الضيوف، من وزراء ودبلوماسيين، لتجنب الوقوع في الأخطاء التقديرية أو السياسية..
الإعلام، فلسفة وخطة ورؤية، ومنهجية وميكانيزمات وعلاقات وحيثيات ولوجستيك، وهو أيضا، قدرة على المطارحة والمواجهة، بلا خوف أو تردد، فمن يخاف الإعلام، أولى له أن ينزوي ليفعل شيئا آخر، غير السياسة والمسؤولية في الحكم..