أزمة “الديمقراطية التونسية”.. الرابطة واتحاد الشغل.. ونخبة “المنّ العسكري”
بقلم / صالح عطية
الديمقراطية تحتاج إلى ديمقراطيين متشبعين بفكر الإختلاف والرأي والرأي الآخر، والتسامح والقدرة على البناء على المشترك.
غياب رابطة حقوق الإنسان، واتحاد الشغل، ومنظمات حقوقية كانت تتصدر المشهد، وصمتهم عما يجري في موضوع نور الدين البحيري، شيء مخز في الحقيقة، ومؤشر على أنّ الديمقراطية التونسية في مأزق حقيقي، وهي تحتاج إلى نضال حقيقي، من أجل تحويلها إلى “مادّة” للتعايش، وليست فقط، أداة للتنافس السياسي.
لقد هيمن الحقد والعمى الإيديولوجي، وسكنت قلوب كثيرين عواطف التشفي والانتقام، وباتوا يفرحون لخبر انتهاك خصمهم السياسي، واستباحة عرضه ونفسه وحقه في الوجود، عبر السكوت على القانون الذي يقع دوسه، واستخدام سلطة الدولة، لضرب الديمقراطية، وليّ ذراع الدستور وتطويعه، وتوظيفه بشكل بربري فاشي، وتعطيل مؤسسات الدولة، ومن أبرزها البرلمان، رمز الشرعية الشعبية، ورمز الحياة الديمقراطية، ورمز التاريخ التونسي، الذي خرج مواطنوه في العام 1938 لينادوا ببرلمان تونسي، كخطوة فاصلة بين فاشية الإستعمار، ورغبة التونسيين في بناء عقد اجتماعي ديمقراطي فيما بينهم..
هيمن هذا الحقد في القلوب، لكي يعمي الأبصار والعقول، وينزع عن الكثيرين إنسانيتهم، وقدرتهم على التجاوز، وبات الزجّ بمناضلين، نعم مناضلين، في السجون والاحتجاز والإقامة الجبرية، على غرار البحيري وغيره كثيرون، بلا ملفات ولا قضاء ولا تهم، فقط لأنّ “سي السيد” أراد ذلك، أو دبّر عليه، أو جعل ذلك شرطا وأداة وسبيلا لما يزعم أنه “دفاع عن الدولة”، التي لا يعرف أحد كيف يجري التفكير فيها، أو التنظير لمستقبلها، بات كل ذلك أمرا مستباحا، ومفروغا منه..
نحن لسنا في زمن التفاهة فقط، بل في زمن بيع الذمم “بلاش”، من تيارات كانت تعيش بيننا في زمن الاستبداد بلا ألسن، وبلا أصوات، ومن دون أثر كتابي، طلعوا علينا اليوم مطبلين للإنقلاب، مزينين له ما يفعل، باحثين عن مبررات له، فقط لأنه أراحهم من خصم سياسي عجزوا عن هزمه بالصندوق الانتخابي، فوجدوا في التخلص منه بالإنقلاب، مبررا للركوب على الديمقراطية والحريات والدولة والمستقبل الذي يريدونه بلون واحد، وصوت واحد، وخيار واحد، وهو خيار الدولة الفاشية المستبدّة، دولة البوليس، والعسكر (والعسكر براء منهم)، على النمط المصري والسوري، الموغل في الفاشية والديكتاتورية والإستبداد في التاريخ السياسي العربي الحديث والمعاصر..
نحن في لحظة تونسية فارقة، بين من يؤيدون الخيار الديمقراطي بكل تمظهراته، ومخاضاته، وصراعاته، ويجعلون منه “الآليات” الأساسية لحلم أجيال من المناضلين من مختلف الحساسيات، ومن يرغبون في “كعكة” الحكم، بطريقة “المنّ العسكري”، بديلا عن التنافس السياسي الديمقراطي، والصراع على الحكم بالآليات المتعارف عليها في الدول المؤسسة لهذه الثقافة والآليات والأدوات.
إننا اليوم في امتحان حقيقي، يفترض أن نقول فيه ما يفترض قوله بشكل واضح لا غبار عليه.
لا يمكن لمن برر السطو على الدستور، والإلتفاف على القانون، وتعطيل مسار ديمقراطي بكل مخاضاته السياسية والحزبية والبرلمانية، ولا لمن سكت عن “العربدة الدستورية” في البرلمان، عبر تلك الفصول والأدوار البائسة التي اضطلع بها الحزب / التجمع الدستوري، سابقا، ويراد لها أن تستأنف من جديد، بشكل التفافي على ثورة شعب، ومسار ديمقراطي وليد، لا يمكن لهؤلاء، الذين يرفعون أصواتهم اليوم، مساندة للانقلاب، أن يكونوا طرفا في البناء الديمقراطي، لأنهم في اللحظة التي احتاجتهم الديمقراطية انقلبوا عليها، ومارسوا البلطجة الإيديولوجية والسياسية، في تشفّ واضح، وإرادة انتقام واسعة وموغلة في الأحقاد التي تجاوزها الزمن، أو تلك التي يفترض أن نطويها جميعا إلى الأبد، لأنها لا تصنع إلا أجيالا مريضة متخاصمة وفي احتراب دائم.. وهو ما لا تحتاجه تونس اليوم..
قد يكون نور الدين البحيري، أخطأ، وأنا من الذين لديهم الكثير من التحفظات والنقد لأسلوب الرجل وطريقته في العمل السياسي، وربما كانت للرجل قضايا ــ كما يردد البعض دون أية دلائل أو قرائن ــ لكن لا أعتقد أنّ كميات الحقد والشماتة التي أظهرها كثيرون، بينما كان الرجل في وضع صحي شديد التعقيد، يمكن أن تبرر ذلك الصمت المريب لرابطة حقوق الإنسان، ولاتحاد الشغل، ولمنظمات وأحزاب أخرى، لطالما شنّفت آذاننا “بفكرها الديمقراطي”، و”خلفيتها الحقوقية”، ومساندتها لكل تحرك نضالي من أجل الحريات..
نور الدين البحيري، المحتجز دون أي وجه حقّ، ومن دون أيّ مسوّغ قانوني، يوجد حاليا في العناية المركزة بأحد المستشفيات، لا يحتاج إلى دفاع مني، فلديه حزبه وزملاؤه المحامين، يمكن أن يفعلوا ذلك، لكن اعتقاله واحتجازه من دون إذن قضائي، ضمن ما يمكن اعتباره “اختفاء قسري” بالمنطق الحقوقي، ينبغي أن يشغل كل غيور على المسار الديمقراطي في تونس، وعلى أوضاع الحقوق والحريات، وعلى المساواة أمام القانون، ضدّ أي محاولة أو مسعى لمروق الدولة التونسية، والعودة بنا القهقري إلى سنوات “البلطجة الأمنية”، ودولة “الريع السياسي” الذي يجعل “عصابات” تتحكم في القرار السياسي، وربما تدفع باتجاه التمهيد للفوضى، لتبرير حكم عسكري، يسعى إليه حاكم مصر، وتبحث عنه جزء من النخبة التي تربت في قصور الانقلابات، على الطريقة الشرقية البائسة..
رابطة حقوق الإنسان تحتاج اليوم، إلى مؤتمر جديد، يعيدها إلى البوصلة التي ساهم في بنائها سعد الدين الزمرلي، وحسيب بن عمار وحمودة بن سلامة، وخميس الشماري ومختار الطريفي، والدالي الجازي، وتوفيق بودربالة، وخديجة سعد الله، وعبد الرحمان كريم، وغيرهم كثير، أما هذه النسخة البائسة من الرابطة، التي ترى المشهد من شرفة الحزب الشيوعي السوفياتي، فهي خارج التاريخ، لأن التاريخ السوفياتي ذاته انتهى منذ نحو عشرين عاما.
أما اتحاد الشغل، ورغم أنّ زعيمه اليوم عاشوري حتى النخاع، فيحتاج إلى “بريسترويكا” جديدة وحقيقية، تنفض عن بعض قيادته، لباس الاقصاء والإستئصال، فنسترجع جميعا بكل النقابيين دون استثناء، اتحاد “حشاد” العظيم، الذي استثمر في البناء الديمقراطي بكل التونسيين، وليس بفئة دون أخرى.. وفي إمكان المنظمة الشغيلة، أن يكون لها موقف مختلف في قضايا الحريات، سواء في علاقة بملف البحيري، أو “مواطنون ضدّ الإنقلاب”، أو غيره من المسائل الحقوقية التي تنتهك اليوم، باسم “انقلاب 25 يوليو”، الذي انتهى ــ على ما يبدو ــ قبل أن يبدأ..
دعك من الجهلة الجدد، و”المثقفين المزيفين”، والشعبويين الذين يتحدثون باسم شعب لا يعرفهم، فهؤلاء يراودهم حلم “النظام القاعدي” الذي يقول عنه اساتذة القانون الدستوري، الحقيقيين وليس المزيفين، أنّه لم يعد يدرّس في الجامعات، لأنّ الزمن والفكر السياسي العالمي، والشعوب، قبل ذلك، تجاوزته إلى غير رجعة…