حالة الاستثناء: مواجهةٌ للخطر الداهم أم للخطر الجاثم؟
بقلم / عادل بن عبد الله
منذ الخامس والعشرين من تموز/ يوليو الماضي، دخلت تونس في حالة سياسية استثنائية شرعنها الرئيس بقراءة مخصوصة للفصل 80 من الدستور. وهو فصل يكاد يكون مجرد تعريب أو تَونسة للفصل 16 والتعديلات المتعاقبة التي أُدخلت عليه في دستور فرنسي لسنة 1958. فالفصل 80 من الدستور التونسي – مثل نظيره أو مرجعه الفرنسي – يشترط استشارة رئيسي مجلس النواب والهيئة الدستورية العليا (المجلس الدستوري في فرنسا والمحكمة الدستورية في تونس)، كما يشترط الفصل 80 بقاء مجلس النواب في حالة انعقاد وعدم جواز حله. ولكنّ الاختلاف الأهم بين الدستورين هو تحديد الدستور الفرنسي للحالة الاستثنائية بـ30 يوما قابلة للتجديد مرة واحدة بموافقة المجلس الدستوري، بينما ينص الدستور التونسي على أن انتهاء العمل بحالة الاستثناء يكون بزوال أسبابها.
أهمية المحكمة الدستورية
بصرف النظر عن الخروقات الشكلية التي ميزت تفعيل الفصل 80 في تونس (عدم استشارة رئيس مجلس النواب، تجميد المجلس، حل الحكومة، رفع الحصانة عن أعضاء البرلمان، عدم وجود محكمة دستورية)، وبصرف النظر عن انقسام التونسيين في توصيف “الإجراءات الرئاسية”، بين قائل بأنها “تصحيح مسار” وقائل بأنها “انقلاب” على الدستور وعلى الانتقال الديمقراطي برمته، فإن مجرد “التسليم” بصوابية الإجراءات – رغم كل الإخلالات الشكلية التي ارتبطت بها – يمنح الرئيس الحق في التكييف الحصري لمعنى الخطر الداهم، كما يجعله في حل من تحديد سقف زمني لإنهاء حالة الاستثناء.
في ظل غياب المحكمة الدستورية، وبحكم عدم وجود أي تعريف موضوعي أو إجماعي لمعنى “خطر داهم مهدد لكيان الوطن أو أمن البلاد أو استقلالها”، أو لمعنى “تعذر السير العادي لدواليب الدولة”، ونظرا إلى قبول الكثير من الفاعلين الجماعيين بالتأويل الرئاسي المتعسف للدستور الرئيس (حل الحكومة وتجميد البرلمان، واحتكار السلطتين التنفيذية والتشريعية على خلاف ظاهر النص الدستوري)، فإن زوال الخطر الداهم أو “عودة السير العادى لدواليب الدولة” يصبحان مسألة “تقديرية” موكولة إلى الرئيس، دون أن يوجد ما يفرض عليه – دستوريا – وضع خارطة طريق أو القيام بأي حوار وطني ليدير حالة الاستثناء بصورة تشاركية أو توافقية، مع أي طرف خارج الحكومة والبرلمان.
وإذا ما سلّمنا للرئيس بحقه “الدستوري” في حل الحكومة وتجميد البرلمان للتصدي للخطر الداهم (بل إذا ما جاريناه في أنهما سبب هذا الخطر الداهم)، فإن البحث عن بديل للحكومة القائمة وللبرلمان المجمد سيكون مسألة “سياسية” لا دستورية، أي مسألة تخضع لاعتبارات سياقية ترتبط بموازين القوى بين الرئيس وباقي الفاعلين الجماعيين، سواء أكانوا من المؤيدين لإجراءاته أم كانوا من المنتقدين لها.
الدور الرئاسي في الأزمة
لا شك في أن الوضع العام في تونس قبل 25 تموز/ يوليو الماضي لم يكن وضعا مقبولا لدى غالبية الشعب، ولكن لا شك أيضا في أن الرئيس كان فاعلا أساسيا في تأزيم هذا الوضع، والدفع به نحو المأزق الذي برر الإجراءات الرئاسية، وما أعقبها من مراسيم أعادت هندسة المشهد السياسي التونسي بصورة أحادية. فالرئيس لم يكن غريبا عن الأزمة بين مؤسسات الدولة (الأزمة بين رئاستي الدولة والبرلمان، والأزمات الحكومية التي ارتبطت برئيسي وزراء كانا من اختياره هو شخصيا)، كما لم يكن الرئيس غريبا عن مشهد ترذيل البرلمان (اصطفاف الرئيس مع أطراف نيابية معينة، ورفضه إدانة ما تقوم به من تعطيل متعمد لأشغال المجلس).
لقد أراد الرئيس قبل 25 تموز/ يوليو أن يستثمر أزمات النظام البرلماني المعدّل، ليحوّله واقعيا إلى نظام رئاسي، ولكنه فشل في ذلك. ولمّا كان الوضع العام – رغم تأزمه – لا يوفر أية ضمانات لنجاح الرئيس في تمرير مشروعه لتعديل الدستور أو النظام السياسي، فقد عمل على الدفع بتناقضات المنظومة السياسية إلى الأقصى، مستعينا في ذلك بحلفاء حزبيين وإعلاميين ومدنيين ونقابيين، تقاطعوا معه في الموقف من النهضة وائتلاف الكرامة ومن طبّع معهما من مكوّنات المنظومة القديمة. وقد كان حلفاء الرئيس يظنون أن الخطر الداهم هو ما يسمونه بـ “حكم النهضة”، وكانوا يظنون أن مجرد إقصاء النهضة وحلفائها من الحكم، يعني زوال ذلك الخطر. وهو منطق سياسي أظهرت مراسيمُ الرئيس ومواقفُه حتى من الأطراف الداعمة له، تهافُتَه.
بين “الخطر الداهم”.. و”الخطر الجاثم”
إن الخطر الداهم (وهو مفهوم دستوري غير مضبوط وقابل للتلاعب السياسي)، ليس إلا مجرد “تعلة” أو “مناسبة” لإزالة “الخطر الجاثم” الذي تمثله الديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة كلها. فالرئيس لم يدفع بتناقضات النظام البرلماني المعدل إلى الأقصى ليتحرك داخله أو ليعيد هندسته مع “حزامه البرلماني” وحلفائه في المركزية النقابية والمجتمع المدني، بل استثمر تلك التناقضات لتكون مصداق خطاب تنصيبه أمام البرلمان. فوصوله إلى قصر قرطاج “هو لحظة تاريخية استعصى على الكثيرين في تونس وفي العالم فهمها”. ولا شك في أن الرئيس لم يكن يعني فقط استعصاء فهم كيفية وصول شخص من خارج المنظومة الحزبية إلى منصب الرئيس، بل كان يعني أيضا وصول “مشروع سياسي” كامل يجسده الرئيس إلى قصر قرطاج.
لقد أخطأ الفاعلون السياسيون خطأ أول عندما لم يروا في “المرشح الرئاسي” قيس سعيد منافسا جديا لكل مرشيحهم المدعومين بـ “ماكينات” حزبية وإعلامية ضخمة. ولكنهم ثنّوا ذلك الخطأ بآخر أكبر منه عندما ظنوا أن “الرئيس” قيس سعيد هو شريك وليس بديلا. وهو معطى لم يفهمه أنصاره في “الحزام البرلماني” قبل خصومه، وما زالت المركزية النقابية إلى اليوم تصرّ على إنكاره. لقد أثبتت المراسيم الرئاسية بعد 25 تموز/ يوليو أن “الخطر الداهم” لم يكن إلا الموضوع المتاح سياقيا، لا الموضوع المقصود استراتيجيا.
إن المقصود من مجمل مراسيم الرئيس هو “الخطر الجاثم”، أي الدستور والمنظومة السياسية والنظام البرلماني المعدّل ومختلف أجسامه الوسيطة. فالأهم من منظور الرئيس ليس فساد “الأعيان” – أي فساد السياسيين ورجال الأعمال – بل هو فساد المؤسسات أو فساد المسار الذي اتبعته النخب لمأسسة الثورة واستحقاقاتها. ولذلك فإن ما نراه من تصميم على احتكار للسلطة ولآليات التعديل المقترحة للدستور وللنظام السياسي، ليس إلا تجسيدا للمقاربة الرئاسية في التصدي للخطر الجاثم، ذلك الخطر الذي لم يكن “الخطر الداهم” إلا بعض تجلياته أو مخرجاته، التي لن ترتفع إلا بإعادة التأسيس في ظل ديمقراطية قاعدية أو مجالسية تجبّ الديمقراطية التمثيلية، وتعيد تحديد أدوار أجسامها الوسيطة بصورة جذرية، إن لم تنف الحاجة إليها أصلا.