“محمد كريشان” في كتاب مثير: الصحافة والسياسة بسردية ممتعة
تونس ــ الرأي الجديد / كتب صالح عطية
صدر مؤخرا كتاب ضخم وأنيق للصحفي التونسي، ومقدم البرامج في قناة “الجزيرة” القطرية، محمد كريشان، الذي كانت له تجارب إعلامية مختلفة، في الصحافة التونسية، والإذاعات الأجنبية، والقناة الأهم في العالم العربي: “الجزيرة” منذ بداية تسعينيات القرن المنقضي.
قدّم كريشان في هذا الكتاب، الذي نشرته مؤسسة “جسور للترجمة والنشر” اللبنانية، في نحو 430 صفحة، مسار4 عقود من تجربته ومشاهداته وعلاقاته الإعلامية والسياسية، تونسيا وعربيا ودوليا، وذلك بأسلوب شيق، معروف عن محمد كريشان، الذي يميل للكتابة التي تفوح منها رائحة الدعابة و”الفذلكة” التي لا تخلو من جدية، يقدمها كريشان، بشكل سلس، يشدّك إلى تفاصيل الكتاب شدّا، ويفرض عليك ــ من حيث لا تشعر ــ أجندة يومية لاستكمال قراءته، بشكل يحوّل الكتاب لديك، إلى مادّة أشبه بالشوكولاطة، التي كلما التهمت قطعة منها، ازددت رغبة في التهام البقية.
طرافة الكتاب، تبدأ من العنوان، الذي اختار له “محمد”، كلمات قصيرة لكنها معبّرة وجذابة، تغريك باقتنائه وقراءته من أول وهلة، وبنهم شديد..
العنوان هو: “محمد كريشان يروي.. وإليكم التفاصيل”، ومن هنا تبدأ الطرافة والسلاسة في سرد المعلومات والأفكار والتصريحات المثيرة، والأحداث البارزة التي عايشها الكاتب، وتعايش معها، في تونس والخارج، بأريحية أحيانا، وعن مضض أحيانا أخرى، بحسب التجربة، و”مدى هضم” كريشان لحيثياتها وتفاصيلها، فالمعروف عن الزميل محمد كريشان، أنه لا يطمئنّ بسهولة ويسر إلى كل العلاقات والأعمال الصحفية والتجارب التي يخوضها، رغم قدرته على نسج العلاقات واتساع دائرتها، واستثمارها إعلاميا..
التاريخ.. والسردية.. والصحفي
يروي لنا كريشان في كتابه، تفاصيل عن تجربته في صحيفة “الرأي” التونسية، ومجلة “المغرب” اللتين عرفتا خلال مرحلة السبعينات وبداية ثمانينات القرن المنقضي، قبل أن يغلقهما الرئيس الراحل بن علي، ويقبر تجربتين مهمتين في الإعلام والصحافة في تونس وشمال إفريقيا..
وأنت تقرأ ما أورده كريشان عن هذه الحقبة، لا تملك إلا أن تتمنى لو أنك خضتها معه، نظرا للمعلومات والأسلوب والكيفية التي يعرض بها “مادّته الخاصة”.
ومن تونس، التي انتقد فيها استبداد الرئيس الراحل، عرض المؤلف، شهادات عن علاقته بشخصيات تونسية مهمة في التاريخ السياسي التونسي الحديث، خصوصا، أولئك الذين تصدروا مشهد المعارضة، والتأسيس للنهج الديمقراطي، على غرار من يعرف باسم “أب الديمقراطية” في تونس، الزعيم الراحل، أحمد المستيري، الذي كان حزبه، “حركة الديمقراطيين الاشتراكيين”، أبرز حاضنة للشخوص السياسية التونسية، ومهد للممارسة الديمقراطية، ناهيك عن الشخصيات التي أسست أو التحقت بهذا الحزب، والتي توزرت لاحقا ضمن الحكم، أو لعبت دورا معارضا في البلاد.. وفي هذا المسار، يعرض كريشان أحداثا وتصريحات وشهادات مهمة في التاريخ التونسي الحديث والمعاصر.
لكنّ محمد كريشان، المعروف بانشغاله بالقضايا العربية مبكرا، وكتب بشكل موسع في مسائل القضية الفلسطينية، والجامعة العربية، والإصلاح السياسي العربي، والعلاقة بالخارج، وموضوع “الداخل” و”الخارج”، و”التغيير السياسي العربي”، و”الديمقراطية”، و”النظام العربي”، و”الإسلام السياسي”، الذي يسميه كريشان أحيانا “الإسلام الاحتجاجي”، أشار في كتابه إلى مجمل هذه القضايا وغيرها، من خلال علاقته بأحداث عايشها، أو حوارات أجراها مع زعماء سياسيين وإعلاميين من المشهد العربي، على غرار حسنين هيكل، الذي كان محمد كريشان، ويبدو أنه ما يزال إلى الآن، متأثرا بهذا الرجل الهام في السياق الإعلامي والسياسي العربي بلا شكّ.
ومع خريطة الشخصيات الكثيرة التي عرض البعض من مشاهداته وما سجّله في “كنشه” الخاص بشأنها، على غرار ياسر عرفات، وبشار الأسد، وعبد الله غول، ورجب طيب أردوغان، والمنصف المرزوقي، والباجي قايد السبسي، وغيرهم، حاول كريشان أن يعرض الحدث والمعلومة والسردية، في علاقة بالفكرة، وهنا طرافة الكتاب ــ في الحقيقة ــ أي إنك لا تقرأ مقاربة فكرية عادية، بقدر ما يجعلك تدخل في مناقشة ما يطرح من أفكار، وأنت تتتبع رواية وسردية، بعضها جدي، والبعض الآخر، يمكن أن “ينتزع” منك بسمة أو “قهقهة خافتة”، دون أن يجعلك تغرق في الضحك، أو تنخرط في طرح أكاديمي مملّ.. وهذا هو أسلوب محمد كريشان وطريقته والسياق الذي يتحرك فيه دائما، وشخصيا عرفته عنه منذ زمن بعيد، ولم يغادر هذا “الطقس” مطلقا، بل ظل أمينا له..
المسكوت عنه في الكتاب
عنوانان بارزان تضمنتهما “رواية” محمد كريشان تتعلقان بثورات الربيع العربي، والإسلام السياسي، ومستقبل التحولات السياسية في عالمنا العربي، في ضوء التطورات التي تشهدها المنطقة حاليا، لكنّه لم يتحدث عن الثورات المضادّة ودورها، وكيفية عودة النظام العربي القديم إلى سدّة الحكم مجددا، رغم أنّ لديه بالتأكيد، أسرارا وحيثيات حول هذه الموضوعات، قد يكون وجوده في قطر، وممارسته للمهنة هناك، من أسباب تناوله الخافت لهذا الملف البارز..
بالتأكيد هناك مضامين أخرى عديدة في الكتاب، سيكتشفها القارئ، وسوف لن يندم بالتأكيد، سواء على مواجهة السعر المشطّ للكتاب، (وليعذرني الزميل كريشان على الملاحظة)، أو على قراءته والاستمتاع بمضمونه الشيق والمغري فعلا.. لكن ما يشفع له حقا، هو الإمتاع الذي يوفره للقارئ، وهو ما يجعله “يغض الطرف” عن مسائل كثيرة قد نعود إليها لاحقا..