كيف نغلق قوس “اليعاقبة”؟
بقلم / د. خالد شوكات
ثمّةَ من المفكّرين المغرمين بــ “التحقيب التاريخي” (تقسيم التاريخ إلى حقب) من يقول بضرورة ظهور “موجة يعقوبية” بعد كل ثورة، مستشهدا بأمثلة من الثورات الانجليزية والفرنسية والروسية، حيث برزت حركات خليط من “المثالية” و”الفوضوية” و”الرعاعية / الجماهيرية”، اتسمت هيمنتها على الفضاء العام بارتفاع منسوب العنف المادي واللفظي وشيوع ممارسة “التخوين” ودعوات الإعدام والإقصاء ونصب المشانق لمن يصنّف في خانة “الخونة”، حتى تبلغ السياقات مداها بتصديق عبارة “الثورة تأكل أبناءها”، وشنق بلاد الثورة “روبيس بيار”ها.
وعلى الرغم من عدم التطابق الكلي في الوقائع، وقبل ذلك في الأفكار المحركة ودوافعها، بين الثورات الكلاسيكية أنفة الذكر والثورة التونسية غير الكلاسيكية، فإن هناك عديد الملامح المتشابهة التي تشجع على وسم الراهن المستجد منذ وصول الرئيس سعيّد إلى قرطاج بعد انتخابات 2019، بــ “القوس اليعقوبي”، حيث بدت حركة الرجل خليطا من المثالية والفوضوية والرعاعية (نسبة الى الرعاع)، المتسمة بسلوك سياسي عنيف، يقوم بالدرجة الأولى على آليات “إقصاء” الأعداء، و”تخوين” الخصوم وطنيا وأخلاقيا، ورفض الحوار، في مقابل مزاعم “طهورية” تطرح على الجماهير “المذهولة” أو “المنافقة” “مسيحاً” مخلّصاً أو “مهديا منتظراً” منقذاً.
فكيف يمكن للقوى الديمقراطية إغلاق هذا القوس اليعقوبي، الذي كلّما طال، ستكون عواقبه أوخم وأكثر استعصاء على الإصلاح؟ والعودة بالتالي إلى مسار جمهوري ديمقراطي طبيعي، يستفاد فيه من دروس السنوات العشر التي تلت الثورة، ومن عبر هذه التجربة اليعقوبية الفارقة، التي نبّهت إلى نقاط ضعف قاتلة لم تؤخذ بالجدية المطلوبة عندما جرى استشرافها والتنبيه إليها، لعلَّ أهمها التخاذل في استكمال المؤسسات الديمقراطية من قبيل المحكمة الدستورية، واختراق الفساد للنخبة السياسية، وتهميش المسألة التنموية، وهشاشة الثقافة الديمقراطية، وعدم وحدة رأس السلطة التنفيذية.
إن المخيف في حركة “اليعاقبة” القدامى أو الجدد، أنها حركة “ضدّية”، أي أن مفهومها من طائفة المفاهيم السلبية، حيث يعرّف الأنا من خلال معاداة الآخر لا من خلال تقدير الذات، ومن هنا فانه لا برنامج متوقعا من هذه الحركة إلا المضي في الهدم والتخريب وإشاعة الكراهية والتقسيم بين المواطنين ونشر الرعب والخوف والعنف بينهم، ولهذا فإن من يتوقع من التونسيين أن ينتج هذا القوس اليعقوبي شيئا مختلفا، سيتبيّن وهمه ولو بعد حين.
لعلَّ تقدير قيم الواقعية والوسطية والاعتدال سيكون أصلب عوداً، لو تمكنت تونس من تجاوز “سكرة اليعاقبة” بأخف الأضرار، فطبيعة البلاد وموقعها وسيرتها التاريخية وشخصيتها الجمعية، لا تتفق مع التوجهات الراديكالية والحركات العدمية، وفيّ نهاية الأمر فان مصالحها العليا وبنيتها الاقتصادية والاجتماعية، وشخصيتها الجمعية تتناقض في جوهرها بنيويا، مع السيرة اليعقوبية، ومن هنا فإن اتحاد القوى السياسية والمدنية من أجل استعادة الحياة الجمهورية والديمقراطية في أقرب الآجال، وتفكيك الظاهرة اليعقوبية، يبدو واجبا وطنيا ونداء مواطنياً لا مندوحة عن تلبيته.
إن توافق هذه القوى على برنامج نضالي سياسي ومدني، وتشكيل جبهة وطنية من أجل الديمقراطية والتنمية، يبدأ بحوار جماعي لتقييم السنوات العشر، وتشخيص نقاط الضعف، ثم المرور إلى تحرك شامل وتعبئة مواطنية حقيقية، للحفاظ على تراث تحرري واستقلالي وديمقراطي وتنموي ممتد على ما يقارب القرنين، فضلا على اعتماد خارطة طريق واضحة المعالم، تقوم على التزام أخلاقي وفكري وسياسي مكتوب موقع من قبل كافة الأطراف المنخرطة في الحوار، كل ذلك سيكون كفيلا بوضع حد للعبث اليعقوبي لحاضر البلاد ومستقبلها.. وهذا ممكن لو صدقت النوايا وخلصت الأعمال.