هل ثمة من يغرر بقيس سعيد تمهيدا للانقلاب عليه؟
بقلم / بحري العرفاوي
يوم استقبل الرئيس السابق زين العابدين بن علي في مطار تونس قرطاج؛ السباح أسامة الملولي، في كانون الأول/ ديسمبر 2010، وكان محمد البوعزيزي ممددا بمستشفى الحروق بعد أن أحرق نفسه احتجاجا على ظروفه الاجتماعية وسوء معاملته، قال بعض المتابعين إن غرفة عمليات تدفع بابن علي نحو حتفه بتأجيج الغضب الشعبي ضده، وتقديمه على أنه لا يعير اهتماما لكارثة إنسانية حصلت بسبب سياسات حكمه، وأنه يسارع لاستقبال رياضي بالمطار خدمة لصورته السياسية، وقيل أيضا لحسابات أخرى نفعية لا علاقة لها بمصالح الناس.
الرئيس قيس سعيد يبدو اليوم كما لو أنه “محاصر” في “غرفة عمليات” تسيء توجيهه بنيّة سيئة تستهدف صورته التي على أساسها انتخبه الناس، صورة “النقاوة” والاستقامة والانحياز للفقراء والمظلومين، خاصة وهو يقول أنه يتخذ من الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أسوة يقتدي به في أدق تفاصيل ممارسته للعدل، حتى أنه ظهر ذات ليلة كما لو أنه عمر يزور امرأة في بيتها تطبخ الحصى لأبنائها الجائعين الذين غلبهم النعاس، غير أن قيس سعيد وبتدبير مستشاريه استبدل الحصى ببيضة حين اعترضه – صدفة – كهل يمسك بيضة واحدة يعد بطنه بها عشاء وغذاء، فإذا بقيس سعيد يرق قلبه لحاله فيذهب للعطار في ليلة دامسة ويأتيه على كتفيه العاليتين بكرتونة من المواد الغذائية وتتم تغطية “المسرحية” صوتا وصورة، ليتبين بعدها أن صاحب البيضة إنما جيء به للقيام بذاك الدور ولم يكن من الفقراء ولا المساكين.
“غرفة العمليات” تلك ظلت تشتغل على ترذيل المسار الديمقراطي، وفي الآن نفسه تستثمر في “نقاوة” سيرة قيس سعيد؛ تبالغ في تقديمه – بأسلوب ريائي – كخادم للفقراء وثائر على منظومة سياسية لا يكف عن وصمها بالفساد واللصوصية والإجرام، ويتهمها بكونها معادية للشعب و”تنكل” به وتمارس عليه “التجويع والتركيع”.
بعد إقدامه مساء 25 تموز/ يوليو 2021 على انتزاع كل السلطات بين يديه ومحاصرة البرلمان وقصر الحكومة بالدبابات، ظل قيس سعيد يدور في مدار ضيق كمن فقد الرؤية، فلم يعد قادرا على السير وكأن “غرفة العمليات” أطفأت أمامه الأضواء بعد أن أنجز لها المهمة الصعبة، أي إيقاف التجربة السياسية التي استمرت منذ 2011 تحت عنوان “المسار الديمقراطي”.
لم يحقق سعيد شيئا ملموسا مما خرج الناس من أجله في احتجاجات عنيفة يوم 25 تموز/ يوليو، ولم يتقدم خطوة في إرساء مشروعه السياسي الذي تكلم عنه طويلا، فلم يكلف رئيس حكومة ولم يكشف عن مشروعه السياسي ولم يحقق محاسبة لفاسدين كما وعد، كل ما فعله هو عمليات عزل عشوائية لبعض الولاة والقادة الأمنيين، بل واقتحم حتى مقر هيئة دستورية هي هيئة مكافحة الفساد، وكان قبلها تم اقتحام مقر قناة الجزيرة.
“غرفة العمليات” تلك تريد الكشف عن “عجز” قيس سعيد ومحدودية أفقه، حتى يصاب الناس بالإحباط فيقبلون بـ”البديل” المتخفي خلف “دخان” قيس سعيد. تصوير رئيس الجمهورية وهو يشرف على عمليات اقتحام وخلع لمخازن مواد غذائية أو مواد بناء تحت وابل من التهديد والوعيد بمفردات “خشنة” وبقاموس “الحرب” و”الحديد”؛ بدت مشاهد مسيئة لرئيس الجمهورية وما يُنتظر منه من هيبة ووقار وهدوء ورصانة.. رئيس كلما تكلم عن المحتكرين إلا ونسب المتهم بالاحتكار بكونه ينتمي إلى مرجعية دينية، ما يسمح باستنتاج أن الرجل واقع تحت توجيه جهة معادية فعلا للتيار الإسلامي، ولم يُعرف عن قيس سعيد هذه العداوة، فهي ليست معركته إنما هي معركة غيره. وقادة حركة النهضة متأكدون من هذا، لذلك عبّر عدد منهم عن دعمهم لقيس سعيد في حربه على الفساد وظلوا يتلطفون – رغم توصيفهم ما حصل بالانقلاب – في دعوته إلى استئناف المسار الديمقراطي، وإلى إعادة البرلمان إلى نشاطه وإلى التعجيل بتكليف رئيس حكومة يعرض فريقه على مجلس الشعب لنيل تزكية النواب.
الأستاذ راشد الغنوشي في حوار صحفي منذ يومين قال إن حركة النهضة لن تتصادم مع رئيس الدولة، كذلك نائب رئيس الحركة المكلف بالعلاقة بالمنظمات الوطنية الدكتور عبد اللطيف المكي عبر عن موقف إيجابي من رئيس الدولة، وقال إذا تلقينا دعوة من الرئيس سنستجيب لها.
من المؤكد أن مناضلي حركة النهضة قد استفادوا من تجارب الماضي حين كانوا يدفعون الثمن الأعلى في مواجهة الاستبداد زمن بورقيبة وابن علي، لذلك فهم يعتبرون أن مواجهة الانقلاب هي مهمة كل الأحزاب والمنظمات الوطنية والنخب الحقوقية والسياسية والإعلامية والثقافية، وليست مهمة حركة النهضة وحدها.
بعض خصوم النهضة يتمنون لو أنها تفقد رصانتها فتدخل في مواجهة مع أجهزة الدولة فتلقى “حتفها” حين تتلقى ضربات قاصمة، تماما كما حصل مع الإخوان في مصر.
الذين يتخوفون من قيس سعيد بسبب غموضه وعدم إعلانه “خارطة طريق” وعدم تحديده مدة الإجراءات الاستثنائية؛ عليهم أن يستعدوا للمعركة الحقيقية التي ستبدأ حين تقرر “غرفة العمليات” نهاية مرحلة قيس سعيد، بعد أن أنجز المهمة الكبرى وهي إيقاف المسار الديمقراطي وتعطيل كل الأحزاب عن ممارسة دورها، سواء في الحكم أو في المعارضة خاصة داخل البرلمان.
كل القوى الوطنية مدعوة بشكل عاجل إلى تجاوز خلافاتها السياسية وإعلان التعبئة من أجل استنقاذ التجربة التونسية رغم أخطائها وعثراتها، ومن أجل منع الردة نحو استعادة حكم الفرد وما جربه التونسيون عقودا من مظالم واعتداءات ضد الجميع ممن يُبدون معارضة لسلطة الرئيس دون اعتبار لهويتهم الأيديولوجية، حيث لم يميز الاستبداد بين يساري وإسلامي وعروبي وليبرالي.
ومن يمنّي نفسه بأن الدكتاتورية لا تعادي إلا الإسلاميين وأنها بعد إزاحتهم ستدعو خصومهم إلى احتفال سياسي تُقاسمهم فيه الحكم والمنافع، فهو واقع تحت ضغط الحقد الأيديولوجي الذي يحجب عنه رؤية الحقائق وتجارب التاريخ.