حمدين صباحي.. الشوبكي وفشير: عن النخبة السياسية المصرية والأزمة التونسية
بقلم / هشام جعفر*
كانت مصر حاضرة بقوة في أزمة تونس السياسية أو بالأحرى “انقلابها اللادستوري”، ليس بالمعني الشوفيني الذي لا يزال يسيطر على بعض النخب المصرية باعتبارها أهم دول الإقليم وأكثرها تأثيرا، ولكن من جهة الخبرة التي يمكن استخلاصها بعد 2013، وقد قيل إن حركة “النهضة” دخلت في الحوار الوطني عام 2014 مستفيدة مما جرى لإخوان مصر العام السابق.
نخبة 30/6 وأزمة تونس
تتبعت علي مدار الأيام الماضية، موقف وتقييم رموز 30/6 – التي كانت مناوئة للإخوان في الحكم – لما يجري في تونس، وقد لاحظت أن الصمت الرهيب هو الغالب، حيث تم تجاهل الحدث إلي حد كبير برغم أهمية دلالاته بالنسبة لمستقبل الربيع العربي وعمق تأثيره على الحالة المصرية، والأهم من وجهة نظري، أنه يمثل فرصة تاريخية للمراجعة والنقد الذاتي لهذا التيار، إلا إذا كان مستغنيا عن هذه المراجعة التي يمكن القول – بصدق- أن حجم ما كتب ويكتب من قبل الباحثين ورموز إسلامية، عن تقويم أداء الحركات السياسية الإسلامية، يفوق بمراحل بعيدة ما كتب ويكتب عن تقويم أداء ما يطلق عليه التيارات المدنية في الربيع العربي.
لا نستطيع أن نقدم أي نصيحة أو إرشادات ثورية لأخواتنا في تونس لأننا نمر بمرحلة هزيمة وانحسار وعزلة ويجب أن نعترف بذلك
توزع التيار المدني المصري على 3 مواقف أظنها تمثل الاتجاهات الأساسية داخله:
ــ الأول، التجاهل بالصمت، وهو الغالب، فلا تدوينة ولا بوست، وكأن الحدث لا يعنيهم من قريب أو بعيد..
ــ والموقف الثاني، هو استعادة لحالة الاستقطاب مرة أخرى، من خلال إظهار التشابه بين موقف النهضة وموقف إخوان مصر..
ــ أما الموقف الثالث، وهو الأهم – من وجهة نظري – لأنه يتعلق بالمستقبل ويستحق التوقف أمامه طويلا برغم أنه لم يكن السائد، فقد كان موقفا يتسم بالنقد الذاتي وإن لم يصرح بذلك، ساعده على عملية المراجعة هذه أنه وإن أكد على تحمل النهضة للمسؤولية فيما آلت إليه الأوضاع في تونس، إلا أن مخاوفه على مستقبل المسار الديمقراطي كانت هي الغالبة أو المنظور الأشمل الذي قيم به ما يجري في تونس، بما يعنيه هذا من أرضية يمكن أن يبنى عليها لتجاوز الاستقطاب الإسلامي العلماني، نحو استقطاب جديد يدور حول الموقف من الديمقراطية.
وأظن أن ما ستنتهي إليه التجربة التونسية، ومواقف الأطراف المختلفة فيها، يمكن أن تساعد على إعطاء هذه الأطروحة قوة دفع في المنطقة العربية.
صباحي وخليل
مما يعطي هذين الرمزين أهمية، أن تياراتهما السياسية لها امتدادات في تونس سواء داخل أحزاب أو مؤسسات المجتمع المدني، فالأول ينتمي للتيار القومي الناصري وأحد أبرز رموزه، والثاني محسوب على أحد تيارات اليسار وهو الاشتراكيون الثوريون، لا أقول إن مواقف الأحزاب التونسية ستتأثر بآراء هذين الرمزين، ولكن أتصور أن موقفيهما سيكون جزءا من الجدل العام داخل هذه التيارات، وهو ما نلحظه في تدوينة كمال خليل التي يؤكد في بدايتها “لا نستطيع أن نقدم أي نصيحة أو إرشادات ثورية لإخواننا في تونس” (لأننا) نمر بمرحلة هزيمة وانحسار وعزلة، ويجب أن نعترف بذلك…” وهو ينطلق من الخبرة المصرية ليجعلها أمام الناشطين التونسيين “لكن ما نستطيع أن نقوله إن هناك تداعيات ستحدث بشكل مؤكد، تداعيات مرتبطة كحلقات السلسلة الواحدة”.
يعدد القيادي اليساري -الذي دخل في مواجهة شديدة مع الإخوان المسلمين بعد وصولهم إلى السلطة برغم ما كان بين تياره وبينهم من تعاون ما قبل 2011، كما دخل السجن فترة النظام الحالي جوهر هذه السلسلة التي تستهدف بناء دكتاتورية جديدة، والتي ستدور حول مكافحة الإرهاب “بعد انحسار السلطة في قبضة ما، سوف تبدأ عمليات إرهابية وسوف تصبح المهمة (من وجهة نظر السلطة الجديدة ) هي: مواجهة الأعمال الإرهابية”، وهنا تبرز الخبرة المصرية كما يراها خليل فـ “لا صوت يعلو فوق أي صوت لمكافحة الإرهاب”، وهذا يستلزم فرض حالة الطوارئ ضد الإرهاب الداخلي وضد التدخلات الخارجية.
وهذا يستلزم تعديل كثير من القوانين، يجب تقييد حق التظاهر، ويجب مصادرة حق الإضراب، ويجب سن لوائح جديدة للسجون وللحبس الاحتياطي.. إلخ، وهذه الحلزونة اللولبية لن تضع حدودا فاصلة بين الإرهاب والمعارضة السلمية، وهذه الحلزونة ستهدف لتصفية الحياة السياسية، وقفل المجال العام بالضبة والمفتاح”.
ونأتي للنقطة الأهم في موقفه الذي يعد – من وجهة نظري – قلب عملية المراجعة والنقد الذاتي حين يقول “ولن تستهدف حظر فصيل محدد بل حظر الجميع”. أما السيد حمدين صباحي – المرشح الرئاسي السابق وأحد قيادات جبهة الإنقاذ 2013 – فقد تطور موقفه بين تدوينتي اليوم الأول (26 يوليو) والثاني. ففي الأول كانت عينه فقط على الديمقراطية “قلبي مع تونس – الثورة الناجية من كل ثورات ربيع عربي اختطفته الثورة المضادة”.
كان الانتقال الديمقراطي شائكاً لكنه بكل عيوبه أهون وأضمن من انفراد أي طرف بالسلطة، وإقصاء باقي الشركاء أو الفرقاء، ويختتم تدوينته بالدعاء لشعب تونس “اللهم ألهم شعبنا في تونس الصواب ونجه من محنة الاقتتال”.
تدوينته الثانية سارت في نفس الاتجاه حيث عينه على المسار الديمقراطي، ومحاولة لبناء موقف أكثر تركيبا للحدث، فتونس التي هي “في مفترق” يأمل لها “ألا يجرجروها إلي منزلق” علي حد قوله. وبرغم ضبابية الموقف التونسي، فإنه لا يوحي بأن دواعي الأمل في تفادي المنزلق لها فرصة نجاح لا يمكن تأكيدها “لكن يمكن تعزيزها”.
يتحدد موقفه – كما أشرت – بمستقبل المسار الديمقراطي فيها، باعتبارها آخر معاقل الربيع العربي، لكنه يبنيه على 4 أسس: أولها الشعب التونسي الذي لن “يقايض لقمة العيش المستحقة بالحرية المستحقة. وهو موقف مهم من منظور تجربة عبد الناصر 1954-1970 الذي قام عقده الاجتماعي على المقايضة بينهما، والثاني وجود كتلة مدنية عاقلة وازنة، ويتصور أن يلعب أحد أقطابها المعتبرين وهو الاتحاد التونسي للشغل دور الوسيط كما لعبه من قبل، وهو بالمناسبة ما افتقدته – أي دور الوسيط – التجربة المصرية في 2013، وثالثا: فإنه يري أن “تجربة تونس الثورة -بخلاف المصرية – تميزت بقدرة على التعايش بين الفرقاء، والبحث عن حلول وسط دون الوقوع في وهم الانتصار بالضربة القاضية، وهو ما يحتاجه فرقاء تونس الآن”.
وأخيرا فإنه ينتقد تجربة النهضة، ويقدم لها عددا من النصائح، ولكن ليس من أرضية الاستقطاب الإسلامي العلماني، ولكن استنادا لتقويم سياسي، فهي “تتحمل الوزر الأكبر في فشل منظومة الحكم، وعليها أن تعترف بمسؤوليتها، والأهم أن تعي درس الإخوان في مصر، تكرار مأساة رابعة في تونس هو المنزلق الوعر الذي ينبغي تفادي الوقوع فيه، هو إهدار لدم حرام، وعصف بطريق التطور الديمقراطي وضربة قاصمة للثورة الوحيدة الناجية ‐ حتى الآن ‐ من ثورات الربيع العربي المغدور”.
فشير وداود.. مواقف ليبرالية متباينة
يقدم لنا كل من عز الدين شكري فشير، الروائي الشهير ومستشار الببلاوي رئيس الوزراء المصري بعد انقلاب 2013، وخالد داود الصحفي بالأهرام ورئيس حزب الدستور السابق، مثالين للموقف الليبرالي من الأزمة التونسية.. فالأول موقفه واضح ومحسوم حتى قبل هذه الأزمة بزمن طويل حيث قال:
مقال الشوبكي اختزل المشكلة في مسؤولية النهضة، وكأنه يشير ضمنيا إلى مسؤولية الإخوان في مصر، واعتقاد بأن ما يفعله الرئيس قيس سعيد هو تجديد للنظام السياسي وإزالة خطر النهضة “ومن هنا فسيصبح أمام الرئيس تحدى تحويل هذه القرارات إلى آلية لتغيير النظام السياسي وليس فقط وقف الخطر الذى تمثله حركة النهضة وحلفاؤها.
في تونس، كما في حالة جيرانها، حكم الفرد ليس الحل، ويوصف القرارات التي اتخذها الرئيس التونسي بأنها “انقلاب دستوري يهدف فيما يبدو لاستبدال النظام الديمقراطي الهش بحكم الفرد”.. ويناقش عبر حجج متعددة المستويات ومن خلال حالتي مصر والسعودية، كيف أن “حكم الفرد قد يؤدي لاستعادة الاستقرار وتحقيق عدد من الإنجازات في المدى القصير، لكنه لا يستطيع حل مشاكل البلاد الأكثر ترسخًا”.
وفي حين أن فشير لا يستدعي في مقاله من قريب أو بعيد مسألة الإسلاميين، والتي طالب من قبل بإعلان التعايش بينهم وبين العلمانيين لربع قرن، فإن خالد داود بمشاركته لمقال الصديق عمرو الشوبكي المستشار بمركز الأهرام الذي نشره في “المصري اليوم”، فإنه يستدعي الاستقطاب العلماني مرة أخرى.
فمقال الشوبكي اختزل المشكلة في مسؤولية النهضة، وكأنه يشير ضمنيا إلى مسؤولية الإخوان في مصر، واعتقاد بأن ما يفعله الرئيس قيس سعيد هو تجديد للنظام السياسي وإزالة خطر النهضة “ومن هنا فسيصبح أمام الرئيس تحدى تحويل هذه القرارات إلى آلية لتغيير النظام السياسي وليس فقط وقف الخطر الذي تمثله حركة النهضة وحلفاؤها”.
مع عدم مناقشة المخاوف من إمكانية إعادة إنتاج الدكتاتورية من جديد: “لقد حانت لحظة تجديد النظام السياسي التونسي، وتعديل قانون الانتخابات، حتى تستطيع أن تستكمل البلاد مسار بناء دولة القانون والانتقال الديمقراطي”.. بهذه الكلمات يختم الشوبكي مقاله ويعلن من خلاله خالد داود موقفه.
وهكذا، فإن مواقف النخب المصرية المتباينة من الانقلاب التونسي مما يحتاج إلى رسم خرائطه التفصيلية، لأنه أحد تجليات المستقبل فيما يخص المسألة الديمقراطية والاستقطاب الإسلامي العلماني.
وإذا قدر لي في هذا المقال أن أرصد التيار العلماني في موقفه من الأزمة التونسية، إلا أن متابعة موقف الإسلاميين بالغة الأهمية خاصة من جهة مدى قدرته على تجاوز خطاب المظلومية الذي يمكن أن ينحشر فيه ولا يخرج منه أبدا، فهذا الخطاب – وهو الأخطر من وجهة نظري – قد يلقي بظلاله على الموقف من المسألة الديمقراطية، بعبارة أخرى فإن موقف الإسلاميين يجب أن يتأسس على النقد الذاتي، الذي ينطلق مما أطلق عليه سردية الربيع العربي وليس مراجعة الموقف من المسألة الديمقراطية.
* صحفي وباحث