أزلام الديمقراطية ورعايا الاستبداد !؟
د.خالد شوكات*
كنت مدركا منذ اليوم الأول لانطلاق مسارها مباشرة بعد رحيل الرئيس بن علي في 14 جانفي 2011، أنّها “تجربة” وليست “نهاية التاريخ”، كما زعم البعض حينها، وعندما نقول “تجربة” فإننا نعني أن نهايتها مفتوحة، قد تستمرّ وقد تنتكس، المهم أن يكون المؤمنون بها على حذر، وان يتحلوا بالتواضع المطلوب، وأن لا يأخذهم الغرور فينقطع وصلهم مع النّاس والمجتمع، وأن يكونوا على بيّنة وانتباه مستمر، إذ لا يعلمون من أين تأتيهم الضربة أو يمزِّق أرواحهم سيف الحيلة والغدر، فالديمقراطية “تجربة حقيقية” في تاريخنا الوطني، وفيّ التاريخ الإنساني عامّة، مفتوحة نهاياتها على كل الخيارات والسيناريوهات.
الديمقراطية لم تكن الغالب على التاريخ البشري، وبالمقياس الزمني هي الاستثناء في مقابل الأنظمة الفردية المطلقة على اختلاف أسمائها ونعوتها وعناوينها، فالأنظمة الديمقراطية “تجارب” و”لحظات” و”ومضات”، أما الغالب في كل مكان فقد كان الاستبداد والطغيان والاستفراد بالحكم والسلطان.. لحظة قرطاج ولحظة روما ولحظة أثينا ولحظة الخلافة الراشدة ولحظة عمر بن عبد العزيز..لحظات أو ومضات أو تجارب، كان ما قبلها ظلام وما بعدها ظلام…وحتى ما يسمى اليوم بالديمقراطيات المستقرة، فهي بالمعنى التاريخي لم تخرج عن توصيف “التجربة”، اذ ان عمر غالبيتها لم يتجاوز القرن بعد، وماذا يعني القرن في السلّم التاريخي غير ومضة أو لحظة..
في تاريخنا المعاصر، تاريخ الدولة الوطنية المستقلة، ليست هذه التجربة الأخيرة المنتكسة التي عشناها طيلة العقد الماضي سوى “تجربة ثالثة” يبدو أن قوسها قد أغلق، سبقتها “تجربتان” أو “لحظتان” كانتا أقصر عمرا وأقل بريقاً ونضجاً، تجربة محمد مزالي بين 1981و1983، وتجربة بيان 7 نوفمبر بين 1987 و1990، وَكما نرى فان كلا التجربتين لم تعمّر اكثر من ثلاث سنوات، عدنا بعدها الى سيرة الحكم الفردي المتربّص بالحريات وحقوق الانسان والقائم على رئيس يسود ويحكم ويطغى ويتجبّر ويقمع ويستبد، ولم تحسن النخب خلال التجارب الديمقراطية الثلاث إدارة خلافاتها وصراعاتها، خصوصا الأيديولوجية منها، وغالبا ما كان ذلك سببا في “فرعنة الفرعون”.
ها قد تحوّلنا بسرعة لم تخطر على بال أحد إلى “أزلام الديمقراطية”، يعاقبنا “الحاكم بأمره” بشكل جماعي، ويمنّ علينا بأنّه لم ينصب لنا المشانق أو يقوم بإعدامنا وسحلنا في الشوارع كما كان يجري في ثورات الغوغاء والدهماء على مرّ تاريخنا ويحمّلنا بأبشع العبارات واقذعها وأكثرها تأليباً (فيروسات، ميكروبات، خونة…الخ) مسؤولية الفشل الذي انتهت إليه التجربة، ويعدنا بمصير المجاري والصرف الصحي وغسّالة النوادر، وعلينا جرّاء هذه النهاية المؤسفة والحزينة، أن لا نترك هذا الحدث الكبير يمرْ دون قراءة التجربة مليّا واستخلاص العبرْ.
وأوّل العبر في رأيي، وهو ما كرّرته مرارا وتكرارا على مسامع قادة النظام الديمقراطي، مسموعا ومرئيا ومكتوبا، أن “الديمقراطية لم تكن يوماً مطلب الشعب، رغم أنها حكم “الشعب للشعب من أجل الشعب”، فهي مطلب “نخبوي” محض، ولعل تقصيرا كبيرا جرى، من النظام والدولة خاصة، بعدم إيلاء قضية التثقيف الديمقراطي والتربية الديمقراطية المكانة التي تستحق في السياسات العمومية، فالحد الأدنى من “ثقافة المواطنة الديمقراطية”، لم يكن متوفرا، حيث تواصلت السياسة الثقافية، كما لو ان النظام السابق ما يزال مستمرا، وقد افتضح الامر ليلة 25 جويلية عندما لم تجد الديمقراطية ألف صوت يحفظ مقامها، اذ صفّق غالبية النّاس، كرعايا لا مواطنين، لمشروع “المستبّد الجديد”.
الديمقراطية التي أضحت أحد مؤشرات التنمية البشرية، واحد معايير الحكم الرشيد، قد تكون أملا تتطلع البشرية إليه، وستتحقق عندما تكون “غاية مشتركة” للنخب والمواطنين على السواء، لكن الطريق يبدو شاقّا مليئا بالمطبات والانتكاسات، كما هو الحال مع ديمقراطيتنا الناشئة التي ضربت في منتصف مسارها الانتقالي، ضربة أرجو أن لا تكون قاصمة للظهر.
إن خيبة الأمل لا تتعلق بغالبية التونسيين الذين بدا أنهم لم ينتقلوا بعد من ثقافة “الرعية” إلى ثقافة “المواطنة” من خلال تمكّن “إلفة الاستبداد” منهم، بل إن الخيبة الكبرى ذات صلة بالنخب التي أظهرت قدراً مريعاً من الهشاشة والانتهازية والاستعداد للسير في ركّاب الغالب دون وعي بقواعد التاريخ الصارمة التي جعلت من نهاية غالبية الطغاة والمستبدّين سوداء ومأساوية..
الآن فهمت أكثر كيف انتكست تجربة الرئيس “أليندي” تحت نعال بيونيشيه وطغمته العسكرية بداية سبعينيات القرن الماضي وشعب تشيلي يهلّل خوفا أو طمعاً، وكيف اغتيلت تجربة “مصدّق” منتصف خمسينيات القرن العشرين في إيران، والناس تهتف سحقا للديمقراطية ومرحبًا بالشاهنشاهية.. يا لسخرية الأقدار، كيف يكرّر التاريخ نفسه في شكل مأساة.
* كاتب وإعلامي وناشط سياسي