عبد الحميد الجلاصي: سعيد يسعى لتحويل انقلابه إلى انقلاب مكتمل الأركان.. وخارطة الطريق ضرورة خلال عام
تونس ــ الرأي الجديد
دعا السياسي التونسي البارز، عبد الحميد الجلاصي، إلى خارطة طريق جديدة بتونس، تتمثل أهم ملامحها في “تشكيل حكومة إنقاذ وطني بالتشاور مع جميع المكونات السياسية، وعودة البرلمان إلى عمله، مع تهيئة البلاد لاستفتاء حول الدستور، وإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة، وذلك في مدة لا تتجاوز العام الواحد”.
وأكد في مقابلة خاصة، أن “خارطة الطريق التي يسعى الرئيس قيس سعيّد لتكريسها دون التشاور مع أحد، هي إلغاء الدستور والبرلمان وكل المؤسسات، وذلك كي يتمكن من الحكم منفردا عبر إصدار المراسيم الرئاسية”.
ولفت الجلاصي، النائب الأول لرئيس حركة النهضة سابقا، إلى أن “ما يقوم به سعيّد يُعدّ حاليا انقلابا غير أخلاقي على الدستور، لكنه يسعى لتحويله بخطوات مترابطة إلى انقلاب مكتمل الأركان”.
ورغم أنه يرى أن “حركة النهضة هي التي تتحمل المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع من فشل”، إلا أنه أكد أن “منظومة الحكم التي كانت في السلطة في الفترة بين عامي (2015-2019) هي التي تتحمل المسؤولية الأساسية عن حالة التدهور والتردي التي شهدتها البلاد، كما أن المسؤولية لا تقع على القوى المُنتخبة فقط، بل أيضا على دوائر تأثير نافذة، مثل النقابات وقوى المال والإعلام”.
وتاليا نص المقابلة:
إلى أين وصلت الأزمة التونسية الآن بعد مرور نحو أسبوعين على قرارات الرئيس قيس سعيّد؟
** الأزمة لا تزال تراوح مكانها. تقريبا هناك اتفاق على مجموعة نقاط، أهمها أن الغضب الشعبي مبرر ومفهوم، وهو إعلان على فشل متراكم للسياسات في السنوات الماضية، وأن المنظومة التي أفرزتها انتخابات 2019 لم تنجح، لا في امتحان التعايش، ولا في امتحان الحكم، وأن الأمر كان يستدعي رجة تجنب البلاد الانفلات أو الانهيار أو حلولا من خارج منظومة الانتخابات والمنظومة المدنية عموما.
لكن الاختلاف حصل بعد ذلك حول تقييم الشرعية السياسية والأخلاقية والقانونية لما قام به الرئيس قيس سعيّد، وحول تقييم مدى نجاعة ما قام به لحل مشكلات البلاد، والاستجابة السريعة للمطالب التي ما أنفك المواطنون يذكرون بها، وآخر ذلك يوم 25 تموز/ يوليو المنصرم.
البلاد الآن في قلب صراع مفتوح بين أطروحة الاستجابة لمعنى الرجة، من خلال استخلاص الدروس والعودة إلى البرلمان، والعمل بالدستور، وإجراء كل التعديلات انطلاقا من هذا الإطار، وصولا إلى استفتاء حول الدستور، وانتخابات رئاسية وتشريعية سابقة لأوانها بمنظومة قانونية جديدة، وبين أطروحة تقويض المنظومة القانونية والمؤسساتية لما بعد الثورة، من خلال تعليق العمل بالدستور، وتجميد البرلمان، وتفويض السلطة لشخص ينفذ مشروعه.
هذا الصراع الذي سيحتد تتدخل فيه دوائر تأثير عديدة، أهمها الآن الشارع ثم هياكل الدولة ومراكز القوة فيها (الجيش، والأمن، والقضاء، والإدارة، والإعلام)، إضافة إلى المجتمع السياسي والمجتمع المدني ودوائر التأثير الإقليمية والدولية.
وحاليا، رئيس الجمهورية المنقلب هو الفاعل الرئيسي، ودور بقية الفاعلين سيدفع الحصيلة باتجاه تصحيح مسار، أو باتجاه فرد يبتلع الدولة ويدفعها باتجاه المجهول.
كيف تقيم ردود الفعل التي حدثت في أعقاب قرارات قيس سعيّد؟
** ردود الفعل متباينة ومتحركة، يمكن أن تنتقل من الموقف إلى نقيضه، والحالة يغلب عليها الترقب، وأرجح أن الحصيلة ستكون في غير صالح الرئيس؛ لغموض مشروعه، وعدم إيمانه بالتشارك. وهذا ليس حالة عارضة، وإنما هي خاصية ثابتة في تركيبة شخصيته.
قيس سعيّد أقال ما يقرب من 40 مسؤولا حكوميا حتى الآن ضمن “تدابيره الاستثنائية”.. فما أبعاد هذه الإقالات المتواصلة؟
** الرئيس المنقلب على الدستور سيستمر في التمدد في الفراغات وتملك الدولة بشخصيات من محيطه تفتقد أغلبها الكفاءة والخبرة وتلتقي معه في الخصائص النفسية. كلمة الانقلاب ليلة 25 تموز/ يوليو كانت واضحة لمَن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ومقتضاها “أني أنا الدولة”، وبعث نظرية فصل السلطات إلى الجحيم. ولكن البعض قد يتخذ شيئا من الوقت لإدراك ذلك.
البعض يصف ما حدث في تونس بأنه “أسهل انقلاب في التاريخ”.. فهل هو كذلك؟
** لندقق الأمر. ما حصل في اليوم الأول هو انقلاب على الدستور، وهو أيضا سقطة أخلاقية كبرى؛ إذ أن الرئيس أراد الإيهام ببراءته من أي مسؤولية فيما آلت إليه الأوضاع وتحميلها لخصومه في حين كان بإمكانه إنقاذ الوضع قبل استفحاله، وقد دعته قوى وشخصيات كثيرة لفعل ذلك، ولكنه آثر الاستثمار في الأزمة.
هذا الانقلاب على الدستور هل يمكن أن يتمدد ليصبح انقلابا مكتمل الأركان؟ هذا هو قلب الصراع الذي تنخرط فيه الآن القوى الوطنية والأطراف الإقليمية والدولية. وأن ترك المجال لسعيّد سيكون ديكتاتورية فردية، نظرا لشخصية وقناعات وطريقة عمل الرجل. لكني أؤكد أنه لن ينجح في نهاية المطاف، ولكن سيخسر البلاد كثيرا من الوقت، وسيبدد جرعة الأمل التي عادت. ولذلك فالموقف الأسلم هو المقاومة من الآن لدفع الأوضاع باتجاه تصحيح مسار يتجه إلى إعادة التفويض للناخبين نتيجة فشل منظومة 2019 بما فيها الرئيس في إدارة الأوضاع.
** هناك توقعات بأن يقوم قيس سعيّد لاحقا بتغيير الدستور لتكريس نظام رئاسي.. فما مدى دقة هذا الأمر؟
** إحدى ميزات قيس سعيّد هي وضوحه ورفضه لمجمل المسار منذ آذار/ مارس 2011، أي منذ تشكيل الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة، لذا فهو يرفض كل ما ترتب عن ذلك المسار من دستور وقوانين ومؤسسات، ولم يشارك في انتخابات 2011 و2014، وبالتالي فمشروعه هو عودة لتصحيح المسار منذ تلك اللحظة. ويمكن أن نكثف الصورة في أن الرئيس ينقلب اليوم على الدستور لينتقم لقيس سعيّد الناشط السياسي الذي كانت له وجهة نظره الخاصة في بدايات الثورة. إنه يريد إعادة البلاد إلى تلك اللحظة.
وبالتالي فخارطة الطريق التي سيسعى لتكريسها دون التشاور مع أحد هي التي تلغي الدستور والبرلمان والمؤسسات، وتخوله الحكم فقط عبر إصدار المراسيم من أجل بناء منظومة حكم وفقا لوجهة نظره الخاصة، وما يقوم به سعيّد يُعدّ حاليا انقلابا غير أخلاقي على الدستور، لكنه يسعى لتحويله بخطوات مترابطة إلى انقلاب مكتمل الأركان وفقا لوجهة نظره الخاصة. فالمنطلق هو انقلاب على الدستور مع اعتماد منهج الغموض، وربح الوقت، وتكريس الأمر الواقع، والتمدد التدريجي لنصل إلى انقلاب مكتمل الأركان يستولي على الدولة.
مَن المسؤول برأيكم عما وصلت إليه الأوضاع في تونس؟
** الصورة المدركة هي الحقيقة السياسية. وحالات الفوران هي حالات انفعالية في الجوهر، ولكن أحكامها مهمة جدا في السياسة. بهذا المعنى فإن حركة النهضة هي التي تتحمل المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع من فشل. لكن هل هو فشل دون مكاسب حقا؟ وهل تتحمل النهضة كل المسؤولية؟ ذلك سيكون مجال بحث عندما تهدأ الخواطر وتستقر الأوضاع.
ولكني أشير بعجالة إلى أنه خلال العشر سنوات الماضية تقلبت الأوضاع كثيرا دون تغيير في العمق؛ فمثلا عندما نتحدث عن منظومة الحكم هل تغير النظام الحالي عما كان عليه الأمر قبل الثورة؟ وما هي مسؤوليات منظومات الحكم الثلاث المتعاقبة (2011-2014) ثم (2015-2019) ثم (2020-2021).
وأنا شخصيا أحمّل المسؤولية الأساسية لمنظومة (2015-2019) ثم لمنظومة ما بعد انتخابات 2019. علما بأن المسؤولية لا تقع فقط على القوى المُنتخبة، بل أيضا على دوائر تأثير نافذة مثل النقابات وقوى المال والإعلام.
بالتالي كيف تقيمون تعاطي النهضة مع الأزمة الراهنة التي تشهدها البلاد؟
** تعاطي النهضة يغلب عليه الارتباك بالنظر إلى أوضاع داخلية صعبة؛ نتيجة اختلاف القراءات، وعدم الجرأة في تحمل المسؤولية.
وما أبرز الأخطاء التي وقعت فيها؟
** هذا شأن مؤسساتها التي آمل أن تعتبر ما حصل فرصة لاسترداد الأنفاس، واستخلاص الدروس، ومصارحة الشعب، واتخاذ الإجراءات المترتبة عن كل ذلك، وهو مسار يمكن أن يساعد عليه أو يعيقه السياق الوطني، إذ من المعلوم من سنن التاريخ أن الجماعات التي تشعر بالاستهداف تنمو فيه نزعة الانكفاء والتبرير.
ومع ذلك، فإنني اعتبر أن من أكبر أخطاء قيادة النهضة أنها لم تتحرر من مربع الخوف، ولم تحسن قراءة الأرقام، ولم تستطع التحرر من سجن الحكم، وأعطت انطباعا بممارسة سياسة دون مضمون ودون شفافية، حصيلتها التأمين الذاتي، والمراهنة على التموقع بدل البرنامج، والإيغال في الذرائعية والتكتيك.
برأيك، هل ستتجاوز النهضة خلافاتها الداخلية؟
** الحوار الهادئ والشجاعة هما اللذان يضمنان وحدة حقيقية وناجعة في الأحزاب.
هل تتوقع تمديد الفترة الاستثنائية في تونس أم لا؟
** في برنامج قيس سعيّد، لا معنى لا لدستور 2014، ولا لبرلمان 2019، ولا ربما لأي برلمان غيره، ولا الثلاثين يوما؛ فكل ما يقوم به يدل على ذلك. والسؤال: هل سيحصل ما يخطط له ووعد به؟ السياسية هي مجال الصراعات، والأيام كاشفة.
كيف رأيت ما فعله رئيس الحكومة المُقال هشام المشيشي؟
** ما فعله المشيشي هو بالضبط ما يناسب المشيشي، والمعركة حوله منذ البداية كلها أخطاء. وفِي الأخير تصرف الرجل بما يقدر عليه، ولم يدع يوما أكثر من ذلك.
هل كان ما وقع يوم 25 تموز/ يوليو قدرا مقدورا لم يكن بالإمكان تجنبه؟
** أنا مقتنع بالعكس تماما. بالطبع، الرئيس استثمر في الأزمة، ودفع نحو تعفين وتعقيد الأوضاع، ومع ذلك كانت هناك حلول لتنظيم التعايش.
كيف يمكن من وجهة نظركم إنهاء الأزمة الراهنة في تونس؟
** ما أرجوه وأدعو إليه الآن، هو طرح خارطة طريق جديدة، تتمثل أهم ملامحها في الاستمرار في حملات التطعيم ضد فيروس كورونا المستجد، على غرار ما حصل يوم الأحد الماضي، والتصدي للفساد وفقا لسياسة شاملة وغير انتقائية أو انتقامية، وألا يكون هناك توظيف للقضاء، وتشكيل حكومة إنقاذ وطني بالتشاور مع جميع المكونات السياسية، وعودة البرلمان إلى العمل، وفي جوهر جدول أعماله تهيئة البلاد إلى استفتاء حول الدستور، وإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة، وكل ذلك في مدة لا تتجاوز العام الواحد. هل هذا سيحدث؟ الإجابة تكمن في أننا في قلب الصراع بين المشروعين الذين أشرنا إليهما، إما استثمار الرجة لاستخلاص الدروس وتصحيح المسار بالتشارك، وإما التوغل في مشروع ديكتاتورية فردية لن يكون مآله سوى الفشل الحتمي، وأرجو ألا تخسر البلاد كثيرا من الوقت في الصراعات.
المصدر: موقع “العربي21”