بسبب قهوة في باريس… طيار تونسي سابق يروي معاناته المثيرة في سجون بن علي.. وهذا رأيه في التعويضات
تونس ــ الرأي الجديد
في سياق الجدل الدائر حاليا، حول التعويضات المرتبطة بالعدالة الانتقالية، وانقسام النخب والسياسيين بين التمكين لضحايا الاستبداد من جبر ضررهم الذي امتدّ لسنوات طويلة، وبين الرافضين لهذه التعويضات، خصوصا من حيث التوقيت والظرفية الصحية التي تعيشها تونس، في هذا السياق، كتب “السجين السياسي” (رغم أنه غير منتم لأي حزب)، السيد محمد المسدّي، تدوينة على صفحته على فيسبوك، جدّ مؤثرة، بعيدا عن التجاذبات السياسية والإيديولوجية الراهنة، التي تدور في الإعلام وتحت قبة البرلمان، حول هذا الموضوع..
التدوينة، بمثابة الرسالة التي بعث بها إلى إحدى الناشطات في المجتمع المدني، ممن
تطالب بعدم تمكين ضحايا الاستبداد من حركة النهضة، من هذه التعويضات، وتصفها بالجريمة، وتعتبرها تجاوزا للقانون..
محمد المسدّي قائد طائرة سابق في شركة الخطوط التونسية وهو في غرفة القيادة
رسالة محمد مسدّي، قائد طائرة سابق في شركة الخطوط التونسية، وكان أحد أبرز كوادرها (مرحلة التسعينات)، بشهادة طيارين في الخطوط التونسية، وكوادر عليا في هذه الشركة، طرح الكثير من التساؤلات المهمة، والمعلومات التي تنشر للمرة الأولى للعموم بهذه الطريقة المثيرة، لرجل ضاع مستقبله المهني والاجتماعي، بسبب فعل لم يرتكبه، وجرم لم يقترفه مطلقا، وفق الوثائق القضائية، وملف “هيئة الحقيقة والكرامة”، التي استمعت لمحمد المسدّي، وانتبهت إلى شرف الرجل، ورفعة كرامته، وهو يطالب الهيئة بعدم إسناد أي تعويضات له..
دخل محمد المسدّي السجن بسبب “قهوة” في باريس، ليجد نفسه يعاني من أقسى أنواع التعذيب، ويحاكم بــ 14 عاما بالسجن، و5 سنوات “مراقبة إدارية”… ترك نجله ابن الأربعة عشر عاما، ليخرج من السجن، وقد أصبح ابنه طبيبا، دون أن يرافقه في مشواره التعليمي والاجتماعي، ولعبت زوجته دورا مهما في هذه النجاحات الباهرة التي حصدها أبناؤه خلال فترة سجنه..
نكتفي بهذه الإشارات، ونترككم مع هذا النص الرائع، بأوجاعه والمعاناة التي تثوي خلفه..
وفيما يلي، نص الرسالة / التدوينة، التي ستكون بلا شكّ أحد أهم الوثائق التاريخية، في سياق العدالة الانتقالية، والتي ينفرد “الرأي الجديد” بنشرها، بالاتفاق مع السيد محمد المسدّي..
……………………………………………………
“صباح الخير السيدة (………)، لا أعرف أنك تساندين الظلم ولا الظالم، فكيف تشجعين عن الكراهية بين التوانسة؟ عن أي تعويض يتكلمون؟ أنا شخصيا قضيت أفضل أيام العمر وراء القضبان، خارج التاريخ والجغرافيا، والسبب الوحيد أنني شربت قهوة في باريس مع مجموعة من التوانسة، كان من بينهم رجل من “حركة النهضة”، ولم أكن أعرفه مطلقا، ولم ألتق به على وجه الإطلاق، بل لم أكن يوما معارضا، أو مناضلا، ولم أدّع ذلك إلى الآن… ساقتني الأقدار أن أكون في مكان وزمان، يراقب فيه البوليس التونسي والفرنسي ذاك الرجل.
تركت امرأة في عز الشباب، وثلاثة أطفال أكبرهم له 12 سنة. عانت العائلة من الفقر والخصاصة وإهانة البوليس، والمراقبة من شعبة الحزب، بالإضافة إلى بُعد كل الناس عنها…
عن أي تعويض وأنا الذي كنت قائد طائرة، أجد نفسي في السجن مع القاتل والمتحيّل ومروج المخدرات، ومغتصب القاصرات والمجرمين بكافة أنواعهم ؟!.
محمد المسدّي وهو ينزل من طائرة الخطوط التونسية بعد رحلة من أحد البلدان الأوروبية
…14 سنة بدون سبب… والله يعلم كيف قضيتها، ولا أعلم لماذا، علما أنّ في مثل وضعي كثيرون، وجدتهم في غياهب السجون التونسية.
عن أي تعويض يتكلمون؟
أنا اليوم أعاني من أمراض عديدة، بتقاعد لا يصل لثلث تقاعد زملائي الطيارين؟
عن أي تعويض يتكلمون؟ وزوجتي التي تعرضت لأبشع أنواع الإهانات والقهر في الشارع، وأمام السجون والمعتقلات، وهي التي كانت تنتقل من سجن إلى آخر كل 6 أو 7 أشهر تسأل عني في أي مكان أنا، حتى كادت تفقد بصرها من البكاء.
والله لو يعطوني المليارات لن يوفروا حقي وحق الغالية نجوى… يوم حرية واحد، لا يقدر بثمن يا سيدتي المحترمة.
ولا يعرف قيمة الحرية إلا من افتقدها، مثل الصحة تماما.
ومع هذا، أنا شخصيا لا أترقب تعويضا من أحد إلا من الله، ولي في ذلك أسباب عديدة، أذكر من بينها 3 فقط.
1) لقد أتم أبنائي تعليمهم، وتخرجوا بشهائد عليا: أحدهم أستاذ جامعي جراح كلى، والثاني مهندس، وله إجازة في تسيير الأعمال، وهو حاليا مسؤول في مؤسسة معتبرة، أما الثالث فهو مهندس من كندا من “البوليتيكنيك”.. أليس هذا الكسب خير من فلوس الدنيا: أنا فخور بأبنائي فخرا كبيرا… ولدي أحفاد رائعيين، أحبهم ويحبونني.
2) أتقاضى تقاعد مقابل 19 سنة عمل، تقريبا ثلث تقاعد زملائي، ولست في خصاصة ولا رفاهة، القناعة كنز لا يفنى والحمد الله على ذلك. بينما أعرف من هو في سني، وهو يتقاضى 128د تقاعد، ويعيش على صدقات أهل الخير… أعرف من هو في حالة إعاقة، وهو يقضى يوما بالمستشفي للمعالجة… وأعرف من تعمل زوجته بالبيوت، كي توفر له القوت اليومي… هؤلاء توانسة ذنبهم الوحيد أنهم لا يفكرون مثل عبير موسى أو محمد عبو أو التبيني… لا يعنيني هل هم على خطإ أو على صواب؟ إنهم ينتمون إلى نفس الوطن، ولهم الحق في العيش فوق تراب تونس العزيزة.
في كلمة لمحمد المسدي خلال تأبين الشهيد محمد الزواري بصفاقس
لا يمكن أن تعيش في أمان، وفي بلادك هناك مظلوم ومقهور وفقير ومعدم ومهمش ومكروه…
3) وصلتني من رئاسة الحكومة شهادة، تعترف فيها السلطة، أنني تعرضت لمحاكمة ظلما وزورا، وتقدمت لي بالاعتذار لما أصابني، وأبدت عزمها على تعويضي 173،6 ألف دينار عمّا أصابني!!! عن أي شيء سيعوضونني ؟؟
ـــ حوالي 174 ألف دينار؟؟ تعويض عن العذاب وشتى صنوف التعذيب المادي والمعنوي ؟؟
ـــ أم عن القهر الذي عانيته لأكثر من 19 عاما ؟؟
ـــ أم عن بعد حبيبتي وقرة عيني عني طوال هذه الفترة ؟؟
ـــ أم عن حرماني من أبنائي؟؟
ـــ أم عن فقدي لوالدي، ووفاته، بينما منعوني حتى من حضور جنازته، رحمه الله ؟؟
ـــ أم عن حرماني من عملي الذي حلمت به طول حياتي، وعملت من أجل بلوغه ؟؟
عم يمكن أن يعوضوا لي سيدة (………) ؟؟
ـــ حوالي 174 ألف دينار؟؟؟؟ أي ما يعادل 750 دينار عن كل شهر من تلك الأعوام التسعة عشر ؟؟
… المال لا قيمة له أمام كل ما ذكرت.
سيدة (………)، مع كل الاحترام.. هذا الخطاب لا يبني مستقبل أبناءنا وأحفادنا…
لو كان التونسي للتونسي رحمة، كما كان يُقال، لكان الخطاب مغايرا..
التوانسة الذين ظلمهم النظام من سنة 1955 إلى 2013، هم إخوان لنا في الوطن، لا نريد أن يعيشوا بيننا وقلوبهم غير صافية، على المجموعة أن تجبر خاطرهم، حتى تكون تونس بدون أحقاد وبدون إقصاء، وبدون تمييز، وبدون حقرة، وبدون مظالم… علما أن المال الذي سيقدم للبعض مأتاه من الخارج وليس من خزينة الدولة.
محمد المسدّي اليوم… صورة التقطت له قبل بضعة أسابيع
فقط أضيف إليك…
1) بعد 14 جانفي 2011، وفي نقاش مع الكاتب العام لنقابة الطيارين، الذي أشكره بالمناسبة شكرا كبيرا، قال لي: سأطلب من الطيارين، وعددهم 360 طيارا تقريبا، أن يتطوّع كل واحد بما قدرة 500 دينارا، تقدّم لي لتحسين وضعي المادي، لكنني رفضت رفضا قاطعا، إذ أنني لا أقبل العطايا ولا المعونات.
2) أمام هيئة الحقيقة والكرامة، وفي استماع لشهادتي، كان آخر سؤال وجّه إليّ هو: ماذا تطلب في نهاية المطاف ؟؟
قلت: شيئا واحدا لا غير، تم إيقافي وابني عمره 7 سنوات، وعمري ما يقرب من 40 عاما، أطلب أن أعود وأعيش مع ابني.. وألعب معه، وأعيش عمري الذي سُرق مني.
رجاء السيدة (………)، أن تقرئي هذه التدوينة، لأحد من الذين عانوا في السجن كمناضلين من أجل آرائهم وأفكارهم…
مع الشكر والتقدير…“…