تونس في ليبيا الناهضة: مفاتيح أساسية لقراءة آفاق زيارة المشيشي وبوصلة العلاقات الثنائية
بقلم / صالح عطية
ثلاث مفاتيح أساسية، لتحليل نتائج وسياقات الزيارة التي أداها رئيس الحكومة التونسي، هشام المشيشي إلى الدولة الليبية يومي السبت والأحد الماضيين.
أول هذه المفاتيح، الوفد رفيع المستوى، الذي رافق رئيس الحكومة إلى الشقيقة ليبيا… وفد يتألف من نحو 250 رجل أعمال ورئيس مؤسسة اقتصادية في تونس، ورؤساء المنظمات الثلاث، اتحاد الشغل واتحاد الأعراف ومنظمة الفلاحين، بالإضافة إلى عدد هام من الوزراء “التقنيين”، ربما هو الأوسع في عدد زيارات هشام المشيشي إلى الخارج منذ اضطلاعه بمهامه على رأس الحكومة، قبل نحو عام.. وسنعود لموضوع “الوزراء التقنيين” في فقرة لاحقة.. دون أن ننسى الوفد الإعلامي الذي يتألف من صحفيين شبان، ومحللين سياسيين، من خارج “بزنس التحليل السياسي”، الذي بات يهيمن على الكثير من المؤسسات والتحاليل والمقاربات، إلى جانب، العارفين والمشتغلين على الملف الليبي، فضلا عما يمكن أن نعبّر عنهم بــ “شيوخ المهنة”..
ثاني هذه المفاتيح، الملفات التي تم التحضير لها مسبقا، ليس في إطار الحكومة فقط، إنما في علاقة بالحكومة الليبية أيضا، أي من خلال التنسيق بين مؤسسات الدولة في البلدين، جرى خلالها، “وضع النقاط على الأحرف” في القضايا العالقة بين تونس وليبيا، وذلك قبل الأفق الجديد المطروح بين القطرين الشقيقين… فقد كان رئيس الحكومة، هشام المشيشي، واعيا، بأنّ أي تقدّم في مسارات العلاقة مع الليبيين، تفترض حسم الملفات “القديمة” التي ظلت حكومات كثيرة قبل الثورة، وأساسا بعدها، مترددة في التعاطي معها، أو غلقها أو طي صفحتها نهائيا، رغم ثقلها النفسي والذهني والسياسي على الليبيين، قبل التونسيين.
وهذا ما شرع الوزراء الذين رافقوا رئيس الحكومة إلى ليبيا، في مراجعته، في إطار لجان جمعتهم بنظرائهم الليبيين، وبدأت ــ عمليا ــ في وضع حلول لتلك المشكلات العالقة..
أما المفتاح الثالث، الذي قاد المفاوضات بين الجانبين، بطريقة سلسة وانسيابية، سيما بين رئيسي الحكومتين، فيتعلق بوعي هشام المشيشي، بأنّ حركة الشعبين، التونسي والليبي، باتت سابقة لإرادة السياسيين ومؤسسات الدولتين، وأنّ المطروح ــ وبكيفية عاجلة لا تحتمل مزيدا من التأخير ــ الالتحاق بهذا “الحراك الشعبي”، الذي يتعامل فيما بين مكوناته، الشعبية والعائلية والتجارية، بــ “عقل وحدوي” تلقائي، لم ينتظر “تطبيع” الدولتين، أو إعلانهما الوحدة بشكل رسمي، وطفق ينسّق ويفتح جسور التواصل والتعامل في جميع صوره، تاركا الدولتين ومؤسساتهما، في شبه عزلة ميدانية وسياسية ولوجستية، ونعني هنا، القوانين والتراتيب والإجراءات، التي باتت “كلكلا” يجثم على أعناق الليبيين والتونسيين، ويثقل حركتهم، ويقضّ مضجعهم، ويعطّل رغبتهم في الانطلاق نحو أفق جديد، يحتاجه البلدان، وتفرضه التطورات الإقليمية المتسارعة، وتقتضيه التحالفات الدولية الجديدة، سيما منذ صعود، جو بايدن إلى الرئاسة الأميركية، وهذا ما أكده ووقف عنده رئيس حكومة الوفاق الوطني الليبية، عبد الحميد دبيبة…
وفي الحقيقة، هذا ما عبّر عنه المشيشي بوضوح، في النقطة الإعلامية التي أعقبت المحادثات بين وفدي البلدين، برئاسة دبيبة والمشيشي، خلال ساعة واحدة من الزمن، استغرقتها المحادثات، التي طالت الملفات والإجراءات والقوانين، وانتهت إلى قرارات عملية، بعضها أعلن عنه، والبعض الآخر سيتم الإعلان عنه في وقت لاحق، حتى لا يحصل “تشويش قرطاجنّي”، دأبت عليه رئاسة الحكومة، وأصبحت تتحوط منه، ومن رغبته في إفساد “الطبخات القصبوية”، التي عانت منذ زيارة المشيشي إلى باريس، من “العكعكة الرئاسوية”، و”التدخل الداخلي” في الشأن الحكومي، في سقطة أخلاقية وسياسية وقانونية، غير مسبوقة في تاريخ الدولة التونسية، وقد نعود إلى هذا الملف بأكثر التفاصيل في مقال لاحق.
ملفات وقضايا عالقة
لم يكن تنويه رئيس حكومة الوفاق الليبية، عبد الحميد دبيبة، بكثافة الاتصالات التونسية الليبية، أمرا مجانيا، لأنّ الرجل أعلن عن خطّ تعاون ومشاورات وتنسيق وتغيير في “لوجسيال” العلاقات الثنائية، يبدأ من تفعيل الاتفاقيات المجمدة لاعتبارات كثيرة، ليس هنا مجال التطرق إليها، ومراجعة البعض الآخر من الاتفاقيات، التي لم تعد تستجيب إلى السياق الجديد للعلاقات القادمة بين تونس وليبيا، إلى جانب التوقيع على اتفاقات جديدة، تستوجبها المرحلة وحاجيات الشعبين ورهانات الدولتين..
وكان واضحا أنّ الرجلين، ناقشا حتى الملفات، التي تخشى القيادات السياسية عادة، ذكرها أو التطرق إليها، وهو ما تفسره التفاصيل التي أوردها رئيس الحكومة الليبية في كلمته الإعلامية، عندما أشار إلى: “ديون الليبيين المستحقة”، التي جمّدت في ظروف ما بعد الثورة الليبية، مطالبا تونس بإرجاعها واستعادتها من قبل الليبيين، وهو الأمر الذي أكده المشيشي، وقال إنّ لجنة مشتركة بين محافظي البنكين المركزيين، تشكلت لبحث الآليات والحيثيات والتوقيت والإجراءات الكفيلة بإنهاء هذا المشكل..
وثمة الإجراءات الأمنية التي وصفها بــ “المعطّلة لانسياب العلاقات والمبادلات”، في إشارة واضحة إلى الضغوط التي يتعرض لها الليبيون على الحدود بين البلدين، وهي ضغوط تذمّر منها الليبيون، خصوصا وأنها لا تستند إلى قانون أو إحراء ترتيبي أو حتى قرار سياسي، وكانت تخضع لبعض الأمزجة الأمنية، و”الإجتهادات”، ولذلك تم الاتفاق على حلحلة هذه “الإجراءات المعقدة في البوابات الجنوبية للبلدين”، وبخاصة تسهيل مرور المرضى الليبيين إلى تونس.
ووفق المعلومات التي حصلت عليها “الرأي الجديد”، فإنّ الجانبان، حرصا خلال المحادثات الثنائية، على “إزالة القيود” نهائيا في هذا المجال، وفق ما أسر إلينا مصدر رفيع المستوى من داخل رئاسة الحكومة الليبية بالذات..
بالتوازي مع ذلك، فتح رئيس الحكومة الليبية، المجال واسعا أمام علاقات البلدين، عندما دعا نظيره المشيشي، إلى “أنّ الوقت قد حان، لتمكين الليبيين من التملك في تونس، ومعاملتهم مثل إخوانهم التونسيين”، في خطوة وصفت بالتاريخية في علاقات البلدين، ستمكن تونس من استثمارات ليبية واسعة، وتنشيط قطاع العقارات، الذي أصابه الجمود خلال السنوات الأخيرة، وازداد سوءا بعد جائحة “كورونا” وتداعياتها على هذا القطاع..
الليبيون يرغبون منذ سنوات طويلة، في أن يكونوا طرفا في معادلة المصالح مع تونس، الأمر الذي تخوف منه الرئيس المخلوع بن علي، بخلفية أمنية معروفة، وتردد بشأنه رئيس الحكومة السابق، حمادي الجبالي، في ضوء الإرتعاشة التي كانت مهيمنة على حكومة “الترويكا”، الجديدة على الحكم وميكانيزماته، ولم يحسم الرئيس الراحل، الباجي قايد السبسي، موقفه من هذا الملف، باعتبار وضع التشابك بين الحكومة الليبية ومليشيات اللواء حفتر، ووجود تونس بين كماشتين إقليميتين، لم يقدر أن يتخذ قرارا واضحا بشأنها، وظل يمارس نوعا من التعويم لهذا الموضوع، قبل أن يأتي إلياس الفخفاخ، الذي لم يكن له التقدير الواضح لهذا الملف، وانشغل بصراعات الحكم، على حساب مصالح تونسية عليا، كان يمكن أن تعطيه زخما مهما، حتى على صعيد توازنات صراعه السياسي الداخلي..
ويبدو أن المشيشي، الذي يتحرك اليوم، في سياق وطني مختلف، وفي ظرفية إقليمية جديدة، تتسم بتركيب جديد للتحالفات والإصطفافات، يضاف إلى ذلك، استيعابه الجيّد لملف العلاقات الأمنية بين البلدين، وبالتالي إدراكه لكثير من التفاصيل والعوائق والتعقيدات، قرر الرهان على هذا الجواد، الذي تقدّر كل المقاربات السياسية والاقتصادية، ومنطق العلاقات المستقبلية بين البلدين، أنّه الأكثر ربحا لتونس، رغم حجم التراكمات التي خلفتها العشريات الماضية، وبخاصة عشرية ما بعد الثورة التونسية… لذلك، اعتبر في سياق إجابته الفورية لرئيس الحكومة الليبية، أنّ العوائق التي تحفّ بملف “تملك الليبيين” باتت من الماضي، لأنها تعبّر عن عقلية ومنطق، “تجاوزهما الزمن والتاريخ وطبيعة العلاقات بين الشعبين التونسي والليبي”، وفق تقديره..
وهو الأمر الذي أكده محافظ البنك المركزي، مروان العباسي، في تصريحات جانبية لبعض الصحفيين، عندما أشار إلى أنّ محادثاته مع نظيره الليبي، عملت على بحث آليات تفكيك هذا “اللغم” في علاقات البلدين.
خطاب سياسي مثير
يبقى المثير في خطاب رئيس الحكومة الليبي، عبد الحميد دبيبة، وعيه بثقل المسؤولية السياسية إزاء تونس.. فهو يعلم علم اليقين، حجم ما قدمته تونس لمواطني بلاده وشعبه، في فترة غير بعيدة، لذلك، وبنبرة واثقة وقوية وحاسمة، توجه بوضوح إلى السيد هشام المشيشي قائلا: “لن نترك تونس وحيدة، تواجه الظروف العصيبة، سواء من الناحية الاقتصادية، أو من جهة تداعيات جائحة كورونا”، مضيفا: “سنقوم بكل الخطوات الضرورية لتفعيل رغبتنا هذه”..
وأكد على أنّ تونس “كانت داعمة دوما لاستقرار ليبيا، وحاضنة لشعبنا في اللحظات العصيبة”، مضيفا: “كنتم مرحبين بالليبيين إبان ثورة فبراير، مناصرين لنا في محنتنا، وهو ما لا ينساه الليبيون”، على حدّ تعبيره، معربا عن إصرار ليبيا على أن تقوم بدورها إزاء تونس، حسب قوله..
وفي منطق العلاقات بين الدول، ليس من مهمة السياسيين بحث الترتيبات العملية للمشكلات والملفات والاتفاقيات، لأن ذلك تضطلع به اللجان التقنية والفنية، التي يعهد إليها وضع الأرضية والتفاصيل العملية، وهو ما تجنبته المحادثات السياسية بين الجانبين، برعاية فاعلة ونشيطة من المنظمات الاجتماعية الثلاثة، وبخاصة اتحاد الشغل، الذي وصفت مداخلة أمينه العام، نور الدين الطبوبي، خلال المحادثات التونسية الليبية، بــ “العقلانية”، المدافعة عن الجوانب الاجتماعية على الجبهتين الليبية والتونسية، فيما كان رئيس منظمة الأعراف، مسوّقا لدور أكثر فعالية للقطاع الخاص والمستثمرين التونسيين، مراهنا على دور فاعل له في الخضم الليبي الجديد، سيما في مجالات إعادة إعمار ليبيا، الخارجة للتو من حرب أهلية، كادت تعصف بالأخضر واليابس في الدولة الليبية، وهو ما وعد به عبد الحميد دبيبة، المعروف برهانه على المستثمرين والقطاع الخاص، وهو القادم من عالم الاستثمار، والرجل العارف بشروط وآليات “البزنس”، ومحدداته وآفاقه في صناعة البلدان، وبناء الإقتصاديات الجديدة..
الصورة والرمزية.. وسجلّ الأغبياء
الذي يشفع للعلاقات التونسية الليبية، ليس تاريخيتها، ولا توازناتها السياسية فحسب، بقدر ما يرتبط الأمر ببوصلة واتجاهات المرحلة المقبلة، ولعل هذا ما أسره لنا رئيس الحكومة، بعيدا عن التصريحات الرسمية، من خلال إشارته، بأن هذه الزيارة تأخرت، وكان يفترض أن تتم قبل فترة، “لأنّك عندما تتغيّب، يستحوذ الآخرون على موقعك، من جغرافيات مختلفة”، حسب قوله..
ليبيا، هي اليوم أرض خصبة لبناء دولة جديدة، عمل العقيد الليبي، معمر القذافي، على أن يجعل منها كيانا متخلفا، بلا مؤسسات أو أفق أو مستقبل، وتبدو القيادة الليبية الراهنة، في سباق مع الزمن والتاريخ لإرساء لبنات دولة تمتدّ على رقعة تضاهي 7 مرات الرقعة الجغرافية الفرنسية، وستكون تونس، أحد أبرز الروافد لبناء هذه الدولة، من منطلقات تاريخية وثقافية وسياسية واقتصادية وجيو استراتيجية لا غبار عليها..
لقد كانت صورة رئيس الحكومة الليبية، وهو يقود سيارته الخاصة رفقة نظيره التونسي من مقر قصر الحكومة بطرابلس، إلى موقع المعرض التونسي الليبي في دوائر المدينة، الناهضة من جديد، تمظهرا رمزيا لدفء علاقات الرجلين والبلدين، ومستوى التطابق السياسي بينهما، ولمن يحاول قراءة مستقبل علاقات البلدين، أكثر من معنى ودلالة..
ثمة مشكلات حقيقية بين تونس وليبيا، ليس بوسع هذه الزيارة ــ على أهميتها ــ أن تأتي عليها كلها وتحسمها في “رمشة عين”، وهي مشكلات متراكمة منذ سنوات، بل منذ عقود، لكنّ الأهم في اعتقادنا، هو أنّ مسار العلاقات الثنائية استؤنف من جديد، عبر اتفاقات تم توقيعها، وتفاهمات، شرع الجانبان في وضع آليات لتفعيلها، ومستوى من الحوار السياسي، غير معهود في علاقات البلدين، لم يكن “حوار مجاملات”، ومنطق “بوس خوك”، بقدر ما كان حوارا مسؤولا، بحث فيه كل طرف عن مصالح بلاده، بما تتيحه موازين القوى، وسياق العلاقات في إطار إقليمي متحرك، تلعب فيه ليبيا، دورا مركزيا، فهي القبلة والبوصلة والهدف، وهي “المادّة الرئيسية” للعجين الجديد للمنطقة المغاربية..
أما ما يتم تحبيره من تدوينات ومقالات وتصريحات، حاول أصحابها اللعب ــ كالعادة ــ على وتر “إفشال” الزيارة، من “غرف مظلمة”، باتت بارعة في إفشال كل محاولة تونسية للنهوض من جديد، فتلك يتكفل التاريخ بالإجابة عنها، لأنّ الشيطان لا يسكن في التفاصيل فقط، إنما يبدو بارعا في أن يضمن لك مقعدا في جهنّم، يذهب إليه الأغبياء وهم يتوهمون أنهم في طريقهم إلى الجنة..