اتصالات الرئاسات الثلاث… سحابة عابرة… أم مؤشر لبداية الخروج من الأزمة ؟؟
بقلم / صالح عطية
هل هي فاتحة لعلاقات جديدة بين رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان ورئيس الحكومة، بعد المكالمات الهاتفية التي جرت بينهم أمس بمناسبة عيد الفطر؟
هل أن هذه مجرد ذبذبات صوتية، أم هي جزء من مياه ستجري في وادي العلاقات بين الرؤساء الثلاثة؟
لا شك أنّ هذه المكالمات الهاتفية التي دارت بين الرؤساء الثلاثة بمناسبة عيد الفطر، قد بعثت شيئا من الأمل بين التونسيين، وبات الكثير من شعبنا، في حالة ترقب لما يمكن أن تؤدي إليه مثل هذه المكالمات والاتصالات..
عزلة سياسية
والواقع أنّ تحركات واتصالات عديدة، بل ضغوط كبيرة، داخلية وخارجية، مورست على الرئاسات الثلاثة، وبخاصة على رئيس الجمهورية، لكي تمضي العلاقات فيما بين مسؤولي الدولة، باتجاه التنسيق والحوار والتعاون، بقطع النظر عن اتجاهات هذا التنسيق وحيثياته وأفقه..
ووفق المعلومات التي حصلت لــ “الرأي الجديد”، فقد مورست ضغوط مهمة على رئاسة الجمهورية من دول صديقة وشقيقة لتونس خلال الأسابيع الماضية، كانت تصبّ كلها في خانة ما يمكن اعتباره “استعادة الرئاسة” لدورها المرتقب منها، سياسيا ودستوريا، في وضع صحي خطير، ومناخ اقتصادي واجتماعي شديد الحساسية، إن لم نقل خطرا للغاية.
آخر حلقات هذه الضغوط، المكالمة الهاتفية لنائبة الرئيس الأميركي، كاميلا، التي شددت على ضرورة استكمال مؤسسات الانتقال الديمقراطي في تونس، ومنها المحكمة الدستورية، وانطلاق الحوار الوطني، لحلحلة الوضع الاجتماعي والاقتصادي، ودخول رئاسة الجمهورية في ديناميكية الحوار مع مؤسسات الدولة، الرديفة لرئاسة الجمهورية، وبخاصة، رئاسة البرلمان، ورئاسة الحكومة.
لكنّ نتائج “سياسة” و”أسلوب” رئيس الجمهورية في التعاطي مع الشأن التونسي، تسببت في عزلته السياسية والمؤسساتية (إذا استثنينا المؤسسات الأمنية والعسكرية التي يزورها لكي يقدم من خلالها خطابات الاحتراب والكراهية، والرعب بين التونسيين)، وتراجع شعبيته الحقيقية (بعيدا عن عمليات سبر الآراء المشكوك في مصداقيتها)، بالإضافة إلى نفور عديد القوى السياسية والشخصيات الوطنية، من رئاسة الجمهورية، فضلا عن استنكاف المنظمات الاجتماعية من طريقته وأسلوبه غير المنتج، و”المعطّل” لمسار الحكم والعلاقات بين مؤسسات الدولة… كل ذلك، جعل “كرة القلق” تتدحرج باتجاه الجميع، ضمن حالة من الخوف على مسار البلاد، وعلى مستقبل العملية الديمقراطية، بل على مستقبل الأجيال القادمة، التي تنتظر مشروعا وطنيا ينتشل البلاد من الأزمة الراهنة، ومن حالة “العطل” القائمة منذ صعود الرئيس، قيس سعيّد إلى الحكم، بل منذ عدّة سنوات، لم يجن منها شبابنا وأطفالنا وشعبنا برمته، سوى الوعود الزائفة، وعمليات التسويف التي باتت تسبب ضجرا واسعا في هذه الأوساط، التي منّت النفس بواقع جديد في أعقاب ثورة ديسمبر 2010 ــ جانفي 2011..
بل حتى الذين يزعمون الوقوف خلف رئيس الجمهورية، بقطع النظر عن انتهازيتهم، ومحاولتهم توظيف هذه العلاقة، للابتزاز والمساومة الرخيصة على الحكم، تحت عناوين “حكومة الرئيس”، و”حوار الرئيس”، و”دور الرئيس”، وغير ذلك من هذه العناوين الجوفاء، باتوا هم أنفسهم، على قلق غير معلن بشأن أداء رئيس الجمهورية، وأضحوا في وضعية حرجة، بين وضعهم السياسي الضعيف وأفقهم المحدود، والدور الرئاسي، الذي أفقدهم البوصلة التي كانوا يتمنونها، لتغيير معادلة الحكم..
جغرافيا سياسية جديدة
جزء من هذه الضغوط التي مورست على رئيس الجمهورية، وبدرجة أقل على رئيسي البرلمان والحكومة، متأتية كذلك من التطورات التي تشهدها المنطقة منذ قدوم الرئيس الأميركي، جو بايدن إلى الحكم خلال الأشهر الأربعة الماضية.
فهناك مصالحات خليجية خليجية واسعة، وثمة دماء جديدة تجري في شرايين العلاقات التركية المصرية، والتركية السعودية، والسعودية الإيرانية، بمساع عراقية لا غبار عليها، وفلسطين والمقدسيون يتحركون في أفق معادلة إقليمية جديدة، بل إنّ الحراك على جبهة العلاقة المغربية الجزائرية، والحديث المكثف من الرباط إلى الجزائر، حول سبل إنهاء موضوع “الصحراء الغربية”، والآفاق الليبية المقبلة، في ظل حكومة الوفاق الوطني، التي تتجه إلى تنظيم انتخابات مع نهاية العام الجاري، برعاية أممية صارمة، والحديث الأميركي، المتجدد عن مشروع “إيزنستات” لإنشاء سوق مغاربية مصرية واسعة، وهو المشروع الذي أوقفته أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001… جميع هذه التطورات اللافتة والمتسارعة، فضلا عن الأزمة الداخلية بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية وغيرها، تضع المسؤولين التونسيين، في أزمة علاقة بالإقليم والعالم، وقبل ذلك بالداخل التونسي المشدود إلى أجندا “مفرنسة”، تبحث عن “دور ضائع” في المستعمرات القديمة، التي تتطلع إلى إعادة صياغة علاقاتها الخارجية، ووجهتها الوطنية بشكل جديد، مختلف عن سياقات مرحلة ما بعد الاستعمار الفرنسي..
هذه الجغرافيا السياسية المتحولة والمتقلبة، تبدو على تماس بالهاجس الأميركي، الراغب في “خنق” المشروع التوسعي الصيني في المنطقة وإفريقيا، وسدّ “المناخير” الروسية التي حشرت في الشؤون العربية، على موجة الإرباك و”الفوضى غير الخلاقة”، إن صح القول،
ما يجعل استعادة تونس لبوصلتها السياسية والعلائقية بجيرانها التقليديين، وبشركائها وأصدقائها، حاجة ضرورية للمنطقة، بما يرتدّ إيجابيا على تونس، التي لم تكن في يوم من تاريخها بعيدة عن زخم العلاقات العربية والإفريقية والدولية، حتى مع رفع الزعيم الراحل، الحبيب بورقيبة، شعار “الحياد” في زمن مختلف عن زمننا والجيوبوليتيكا الجديدة للمنطقة والعالم..
توافقات على مشروع
إنّ بقاء تونس في منطقة “رمادية”، بلا دور سياسي، ومن دون سياق وطني قوي ومتجانس، وبمسار ديمقراطي معطّل، وبخطاب، زاد في عزلتها، وفي تشويش الصورة على بلد، أنتج ثورة، ونجح في جرّ جزء هام من العالم العربي باتجاه مناخات سياسية جديدة (بقطع النظر عن مآلاتها ونتائجها)، وخلق شعبه ونخبه وطبقته السياسية، وضعا إقليميا جديدا بكل معنى الكلمة، إنّ بقاء بلادنا ضمن هذا السياق المتردد والمتجمّد، سيدفع باتجاه أن تعود القهقري نحو إعادة إنتاج الماضي، بأكثر رداءة ومأساوية، على رأي ماركس، وهو أمر لم يعد مسموحا به في المناخات الدولية الجديدة، التي أشرنا إلى بعض عناوينها في فقرة سابقة..
لذلك فإنّ المكالمات الهاتفية التي جرت بين الرؤساء الثلاثة، أمس، تمثّل حتى من الناحية الرمزية، معطى سياسيا مهما، باتجاه عودة المياه إلى مجرى التوافقات التونسية الكبرى، والتنسيق بين صناع القرار، فالأوضاع الوطنية، والإقليمية والدولية، لا يمكن أن تتسع للكثير من الخزعبلات، سواء جاءت من قصر قرطاح، أو من القصبة أو من باردو..
على أنّ الأمر الهام الذي يتعيّن أخذه بعين الاعتبار في هذا السياق، هو ضرورة عدم عودة الجميع إلى المربع السابق من العلاقات الفوقية، بعنوان “التوافق”، و”بوس خوك”، وسياسة “برا هكاكا”، التي مورست زمن “النداء ــ النهضة”، تحت ما عرف بــ “سياسة الشيخين”، فالبلاد تحتاج إلى هزة عميقة في مستوى المشروع والرؤيا والتصور لواقع جديد، قد يكون رئيس الجمهورية يرنو إليه، لكنه يفتقر إلى أدواته ومضمونه، ويمكن للحوار الوطني، أن يكون مدخلا لهذا المشروع، على أن لا يتجه إلى “توافقات مصلحية ما قبل انتخابية”، بل أن يحرص المتحاورون على إيجاد أرضية لبناء سياق وطني جديد، سياسي واقتصادي واجتماعي، تحتاجه تونس، وينتظره شعبها، وتشرئبّ إليه أعناق الجهات المهمشة والمفقرة، والشباب المعطّل، والتنمية المفقودة، والثورة المغدورة…
المكالمات الهاتفية بين سعيّد والغنوشي والمشيشي، مؤشر مهم، لكنّه غير كاف، فهل يفتح رئيس الجمهورية ذراعيه لأبناء وطنه، فيساهم بفعالية في إعادة ترتيب البيت التونسي من جديد ؟؟
أمل… فهل يتحقق ؟؟
كلمة أخيرة:
حذاري من دعاة “الإرباك المأجور”، ومنظري “البراميل المتفجرة”، و”الطهوريون الجدد”، وأشلاء “المنظومة القديمة”، الذين يحاولون التموقع في القصبة وباردو، وحذاري أيضا من المتسلقين الجدد، من بائعي “الخطابات تحت الطلب”، ممن خرجوا من السياقات السابقة، “م المولد بلا حمص”، فلا هم أفادوا عندما كانوا في الحكم، ولا هم أفلحوا عندما التحقوا أو تموقعوا في المعارضة الهشة بطبيعتها.