الحوار المفقود: الخطأ والخطيئة..
بقلم / د. رياض الشعيبي*
ما يحصل اليوم من صراع على الصلاحيات الدستورية، لاشك أنه خطأ سياسي كبير لأسباب عدة، منها طبيعته السلطوية والظرفية الصحية والاقتصادية التي تمر بها البلاد، وهشاشة التجربة الديمقراطية.
فمن غير المقبول استمرار إعاقة التحوير الوزاري لعدة أشهر، أو إثارة الخلافات حول الصلاحيات الدستورية في غياب المحكمة الدستورية، أو التشكيك في شرعية الحكومة لدى الشركاء الدوليين، بما يمس من سمعة الدولة التونسية.
لكن أن يتجاوز هذا الخطأ حدوده السياسية، ليتحول إلى أزمة دستورية تمسّ جوهر النظام السياسي، أو إلى صراع تناف بين مؤسسات الدولة، أو تراجع عن المكاسب الديمقراطية في البلاد، فإن الخطأ حينها سيصبح خطيئة، وأيّ خطيئة !!
فلا مجال للمساس بالمبادئ الأساسية الثلاث التي تقوم عليها الدّيمقراطية: احترام الحقوق والحريات، الحكم المقيّد بالقانون، والرقابة العامة (النيابية والقضائية والمدنية والإعلامية) على مؤسّسات الدولة.
المشكل في النظام السياسي
من المهم في البداية التذكير بأن جزء من مشاكلنا، هو بسبب نظامنا السياسي المختلط والقانون الانتخابي غير المنصف.
لذلك لم يبدأ صراع الصلاحيات مع رئاسة قيس سعيد سنة 2019، إنما كان قبل ذلك مع المرحوم الباجي قايد السبسي، رغم أن حزبه حاز الثلاث مناصب السيادية في الدولة، وما يفترض من توفر شروط الانسجام بينها.
لكن، رغم ذلك حصل المحظور، وخرج الخلاف أساسا بين رأسي السلطة التنفيذية للعلن، كما بقي التناقض بين رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب، أكثر احتشاما رغم وجوده.
نتفق إذن على وجود خلل ما في نظامنا السياسي، إن لم يكن في تأويلاتنا المتعددة له، وبحسب صاحب كل مصلحة في تأويله. وقد جرت العادة في الدساتير العريقة أن يُحفّ الدستور بجملة من القوانين المفصلة والموضحة له، وبمؤسّسات حارسة لحرمته، وأيضا بأعراف وتقاليد تعكس تراكم التجربة المجتمعية في تطبيقه. لكن للأسف بقي دستورنا حتى اليوم عاريا من كل ذلك، ما جعل من التعاطي معه، يكون أقرب للاجتهاد المستجد منه للعرف الجاري.
فإذا كان الوضع على هذه الحال، فلا غرابة إذن من أن يكون نظامنا السياسي الذي من المفترض أنه التعبير الأقوى عن التوافق الوطني الواسع، أن يصبح المطية الأولى التي يمكن اعتمادها لتمرير أيّ قرار سياسي، مهما اختلف مع روح الدستور ومبادئه.
وما زاد في رفع منسوب مخاطر عدم الاستقرار في البلاد، ليس فقط ضعف المدونة القانونية وفقر التجربة السياسية، بل أيضا القانون الانتخابي الذي بني بحسب رؤية تأسيسية، حريصة على إفراز التنوع المجتمعي وترجمته في الدستور الجديد. لكن المرحلة التأسيسية انتهت منذ 7 سنوات بإقرار دستور 2014، ومذاك ونحن نستكمل الجزء الأخير من مرحلة الانتقال الديمقراطي، دون الاهتداء إلى كيفية تتويجه، ودخول مرحلة الديمقراطية المستقرة.
ويبدو أن أهم عائق أمام هذا التطور غير المتحقق، هو قانون أكبر البقايا، الذي زاد في “تذرير” الحياة الحزبية وتشتيتها. وليس من تفسير لذلك غير عدم انفتاح الأحزاب السياسية لتكون قادرة على إدماج القوى المنتمية إلى نفس عائلتها الإيديولوجية والسياسية، وحتى الاجتماعية من جهة، وأنانية بعض القوى التي مازالت تُمني نفسها بفرص التموقع القوي والاستفراد بالسلطة دون غيرها.
لذلك نلاحظ الرفض المبطن لتغيير القانون الانتخابي من عديد الأطراف السياسية، بما يعيق إفراز أغلبية نيابية واضحة، يمكنها أن تحكم وأن تطبق برنامجها وأن تتحمل مسؤولية عملها.
من خارج المجتمع السياسي
ولعلّ العامل الجديد الذي انضاف بعد الانتخابات الأخيرة، لعوامل الأزمة السياسية، هو وصول رئيس للجمهورية لا ينتمي للمجتمع السياسي التقليدي، ولا يصنف وفقا لذلك بحسب التقسيمات الإيديولوجية السابقة. بل إن الرئيس قيس سعيد تموقع خارج المنظومة السياسية الحالية، واتخذ موقفا راديكاليا ضدها جميعا. والمشروع السياسي الذي رفع شعاره منذ ترشحه للرئاسيات وفاز بها على أساسه، ليس أكثر من تغيير الهندسة السياسية في البلاد، لإضعاف دور النخب الحزبية والسياسية الحالية، وفسح المجال لتغيير واسع، يعتقد أنه سيمكن من ظهور نمط آخر من الوعي السياسي في البلاد. وقد زاد هذا المستجدّ في تعقيد الأزمة ومنسوب المخاطر التي يمكن أن تواجه الاستقرار السياسي، المفقود أصلا، لأي عملية تنموية شاملة ومندمجة.
وعندما نتحدث عن هشاشة الواقع السياسي، فإننا نقصد هذه الانكسارات الفكرية والسياسية، وتأثيرها السلبي على الحياة الديمقراطية والبنية المؤسساتية للدولة. ورغم محاولات البحث عن توافقات لتجاوز ضعف الأرضية السياسية لإدارة الانتقال الديمقراطي، إلاّ أن هذه التوافقات بقيت محدودة في نتائجها، ربما للعجز المتواصل عن تجاوز أسباب الأزمة ذاتها. طبعا يمكننا أن نقدر بسهولة الآثار الاقتصادية والاجتماعية لأزمات سياسية متوالدة منذ 10 سنوات، زادتها الظرفية الدولية والإقليمية المضطربة، وأخيرا ونرجو أن تكون آخِرا الجائحة الصحية العالمية.
أسباب مركبة للأزمة السياسية
اليوم، وفي الواقع، نواجه أزمة سياسية أسبابها مركبة، ولكن نتائجها المتوقعة ليست أقل تعقيدا.
فمن ناحية، أحزاب سياسية محافظة جدا في التمسك بأرضيتها الإيديولوجية، ورهينة تركيبتها النفسية الجمعية والتاريخية، وحتى في بنائها الهيكلي وخطابها، وأصبحت غير قادرة على التأطير والتعبئة، بما يمكنها من الحضور الانتخابي القويّ، فضلا عن أهلية الحكم.
ومن ناحية أخرى قوة “شعبوية” غامضة وزاحفة، تستفيد من الغضب العام على أداء النخبة السياسية التقليدية، لتأخذ لنفسها موقعا قويا تستفيد فيه من فوز قيس سعيد برئاسة الجمهورية.
لذلك من غير المتوقع الوصول إلى أرضية مشتركة بين رئيس الجمهورية من جهة، وكل المنظومة السياسية التقليدية من جهة ثانية. وما يبدو من تظاهر الرئيس بالحرص على الدستور والبناء على تأويله له (رغم شذوذ هذه التأويلات)، ليس إلاّ محاولة فاشلة لمداراة مشروعه السياسي التسلطي، للانقضاض على الدولة واغتصاب مؤسساتها.
وبالمقابل، فإنّ حرص المنظومة السياسية التقليدية، غير المتجانسة بطبيعتها، على البحث عن مجال للاتفاق مع الرئيس، ليس إلاّ نوعا من الانتهازية السياسية من بعضها، أو طمعا في احتوائه من البعض الآخر.
وإلى هذا الحدّ، يمكن تصريف الخلاف السياسي من دون تهديد استمرار التجربة الديمقراطية. فمن حيث كان النظام السياسي مرتبكا وغير واضح، فإنه أيضا ومن منظور إيجابي قد وزع السلطة داخل الدولة بالشكل الذي يمتنع معه استفراد أية جهة بها، واستغلالها ضد الآخرين. ويمكن تبعا لذلك لتجربتنا، رغم هشاشتها، أن تتحمل مثل هذا الخلاف، بل إنّ تراكم الخبرات السياسية للنخبة، بما يساعد على تمتين أسس الديمقراطية في المستقبل.
إلاّ أن الظرفية التي تمر بها البلاد، تفرض على مؤسسات الدولة، أن تكون متضامنة فيما بينها، وأن تتعالى عن خلافاتها. واستمرار هذا الانقسام داخل السلطة، خاصة بين رئيس الجمهورية والأغلبية الحكومية في القصبة وفي البرلمان، خطأ فادح يتحمل مسؤوليته الأخلاقية والسياسية كلّ متسبّب فيه. ففي مثل هذه الظروف لا يجب أن تتعطل دواليب الدولة، ولا يمكن تحمّل تراخي المسئولين في القيام بواجبهم.
الجنوح للحوار… ضروري
من الواجب اليوم بالذات، وقد بلغ الخلاف مداه، الجنوح للحوار وقبول أطراف الخلاف بالجلوس معا، ومراعاة التسيير الطبيعي للدولة. وحتى نفتح بابا لاستعادة الحد الأدنى من الثقة الضرورية لتحقّق هذا الحوار، لابد من التوقف عن التصريحات والحملات الإعلامية المتبادلة، والانفتاح على الوسطاء والحكماء من أجل التهدئة، والتغاضي عن الشائعات المغرضة من هنا وهناك، والاستعداد لسياسة التعايش المشترك مع الجميع.
خلاف ذلك، يمكن أن يؤدّي إلى تعاظم الخطأ ليتحول إلى خطيئة، وأيّ خطيئة !
إنها خطيئة بحق مستقبل شعب لازال يحلم بالحرية والكرامة، ولن يسامح كل من يصادر حلمه.
* باحث في الشؤون السياسية والدولية (المستشار السياسي لرئيس حركة النهضة).