أهم الأحداثالمشهد السياسيبكل هدوءوطنية

تلاميذ المزونة: ضحايا “النقد الدولي”.. والدولة العميقة.. وغياب المحكمة الدستورية !!

بقلم / جنات بن عبد الله**

مرة أخرى تكون ولاية سيدي بوزيد مسرحا لفاجعة هزت الشعب التونسي بكامل أطيافه وفئاته الاجتماعية، بعد انهيار جدار بمعهد ثانوي تسبب في وفاة ثلاثة تلاميذ من طالبي العلم يوم 14 أفريل 2025، بعد فاجعة الشاب البوعزيزي طالب الشغل ذات يوم من سنة 2010، وقبلها كانت فاجعة عمدون، وحادث الحافلة السياحية في ديسمبر 2019، التي تسببت في مصرع 26 شابا وشابة، وقبلها فاجعة الولدان الاثنا عشر بمستشفى الرابطة في مارس 2019.

تتعدد في تونس الفواجع التي يتبع الظاهر منها تحقيقات قضائية، ليستفيق التونسي في كل مرة على فاجعة جديدة تذكره بسابقاتها، قاسمها المشترك انتماؤها لفضاء عمومي مهترئ، مرة مؤسسة صحية عمومية، ومرة طريق عمومي، وثالثة مؤسسة تربوية عمومية.

بعيدا عن منطق المؤامرة.. والصدفة
وبعيدا عن منطق الصدفة أو المؤامرة المدبرة، تعتبر هذه الحوادث نتيجة حتمية لحالة المرفق العمومي في البلاد، التي شهدت منذ عقود، وتحديدا منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي، انخراط البلاد في تطبيق برنامج إصلاحات هيكلية لصندوق النقد الدولي، مقابل حصولها على قرض ينقذها من حالة الإفلاس، ويوفر لها عملة صعبة تؤمن لها احتياجاتها الأساسية من الخارج، وتستجيب لالتزاماتها المالية الخارجية.

هو برنامج إصلاحي هيكلي، يروج له كمنقذ للدول التي تشكو أزمة مديونية حادة، تمنع البلاد من تسديد ديونها الخارجية، وتهددها بالإعلان عن الإفلاس. برنامج تتبناه هذه الدول بقطع النظر عن تفاصيله المدمرة للشعوب، وللنسيج الاقتصادي،  ولسيادتها الوطنية.

وعلى غرار بقية دول العالم الثالث أنداك، أقحمت السلطة السياسية في تلك الفترة هذا البرنامج في مخططاتها التنموية،  ليشكل برنامج دولة تقوم الإدارة العميقة على تكريسه وتنفيذه وحمايته، من “أعداء الإصلاح”.

هو برنامج صممه النظام الاقتصادي العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، وتركيز مؤسسات “بريتون وودز” الثلاث، ممثلة في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي واتفاقية “الغات”، على مقاس الدول الغربية وهيمنتها على الدول الناشئة والاقتصاديات الفقيرة، من خلال آلية الاقتراض الخارجي، والانصياع لأوامر الشركات العالمية الناهبة لثروات هذه البلدان.

      آثار انهيار سور المؤسسة التربوية في المزونة

آلية الاقتراض الخارجي، التي روج لها أنذاك وإلى الآن، سواء على المستوى النظري وفي الجامعات، أو على المستوى السياسي، كمنقذ وحيد للبلدان التي تدخل في أزمة شحّ من العملة الصعبة، والحال أنها شكلت أحد آليات تعميق الانهيار في هذه البلدان، وسلب سيادتها على ثرواتها وسياساتها الداخلية والخارجية، بما في ذلك سياساتها الاقتصادية التي تنفذها في إطار ميزانية الدولة وقانون المالية سنويا.

الإقتراض الخارجي.. والدولة العميقة
هذه الميزانية، يتم تصميمها طبعا، من قبل الإدارة العميقة، بناء على ما سماه النظام الاقتصادي العالمي وذراعه صندوق النقد الدولي، بسياسة التقشف التي جاءت على أساس وضع سياسات تؤمن، أولا وقبل كل شيء، اعتمادات خدمة الدين الخارجي، وتوزيع باقي الاعتمادات على تسيير البلاد التي تشكو شحا في موارد ميزانيتها. وبعبارة أوضح تقوم الدولة بتوزيع الفتات المتبقي من الموارد المالية للميزانية على احتياجات الوزارات ،تحت عناوين براقة يجمعها شعار الإصلاح الهيكلي للاقتصاد، الذي يقوم على تخلي الدولة عن دورها لفائدة القطاع الخاص المحلي والأجنبي.

وبهذا الفتات من الموارد المالية ادعت تونس، على غرار بقية البلدان المشابهة، أنها حققت نهضة اقتصادية واجتماعية استنادا الى معايير دولية جديدة، تخفي الحقيقة والجوهر، وتزين الفرع والهامش، صممها خبراء هذا النظام الاقتصادي العالمي، نهضة تفضحها لحظات تاريخية مؤلمة وموجعة، على غرار هذه الفواجع التي تكشف انهيار دولة، وتخليها عن التزاماتها تجاه مواطنيها، من خلال توفير خدمات عمومية ذات جودة ومرفق عمومي، يؤمن الكرامة للمواطن.

هذا الفتات من الموارد المالية أضحى، على مر السنوات، غير قادر على تأمين، حتى كتلة الأجور التي جمدت بمقتضى برنامج الإصلاحات، الذي دخل الى تونس مرة أخرى سنة 2013، بحصول تونس على أول قرض بعد الثورة بقيمة 1.7 مليار دولار، لتتوالى الانهيارات الاقتصادية والمالية والاجتماعية بتفاقم القروض الخارجية، وامتصاص تسديد الديون الخارجية لموارد الدولة التي جففت مصادرها، على غرار مصدر الرسوم الجمركية التي كانت أحد أهم الموارد المالية للميزانية قبل سنة 1986، وتم إلغاؤها بمقتضى اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي في سنة 1995.

مثل هذه الوضعية تمرد عليها الرئيس الأمريكي ترامب، وأدخل بسببها العالم في حرب تجارية كارثية، وفرض رسوما جمركية ليؤمن دخلا إضافيا للميزانية، معتبرا أن الولايات المتحدة استغنت عبر التاريخ بفضل الرسوم الجمركية.

ورغم إقرارنا في هذا المستوى، باستحالة المقارنة. فهذا الفتات من الموارد المالية للدولة وميزانيتها، المتبخر بحكم التضخم وانزلاق الدينار، يوزع في الوزارات على غرار وزارات الصحة والنقل والتجهيز والتعليم، لتغطية أجور ضعيفة تتبخر هي أيضا بحكم التضخم وانزلاق الدينار، إضافة لارتفاع نسبة الفائدة في البنوك، فلا يبقى لبقية عناوين ميزانية هذه الوزارات من صيانة وتكوين وتجهيز وبناء وتشييد، إلا فتات الفتات، وهو ما تؤكده نتائج التحقيقات المتعلقة بفاجعتي الولدان وعمدون، وستؤكده أيضا تحقيقات فاجعة مزونة.

تحقيقات قضائية.. ولكن
فقد أظهرت النتائج الرسمية لفاجعة مستشفى الرابطة، أن سبب وفاة الولدان، هو تعفن جرثومي وقع أثناء تحضير المستحضر الغذائي. وأثبتت التحقيقات وجود عدة اخلالات أبرزها غياب الحوكمة في التسيير داخل القاعة التي يتم فيها اعداد المستحضر الغذائي للولدان والتي تأكد عدم احترامها لشروط السلامة المطلوبة وقواعد التعقيم.

      رئيس الدولة مع مسؤولة “النقد الدولي”

ويشير التحقيق الى أن من بين الاخلالات عدم تعويض المسؤولة الأولى عن القاعة التي غادرت منذ سنوات والتخفيض في عدد الصيادلة من 4 الى 3 وغياب التأطير والتكوين والصيانة. نتائج التحقيقات المتعلقة بحادث الحافلة السياحية بعين السنوسي بعمدون لم تختلف في ادانة سياسة الدولة التقشفية التي أددت، عبر سنوات، الى الغاء الاعتمادات الضرورية لوزارتي الصحة والتجهيز الموجهة لصيانة الطرقات وتشييد طرقات جديدة وبناء المنشآت الصحية في الجهات الداخلية.

فقد أفادت لجنة التحقيقات البرلمانية أنذاك أن الطرقات في باجة هي طرقات الموت، ورغم وقوع عديد الحوادث في نفس المكان منذ سنوات فانه لم يتم اصلاح هذه الطريق. كما وقف النواب على هشاشة البنية التحتية وافتقار المنشات الصحية للتجهيزات والمعدات والاختصاصات القادرة على التعامل مع مثل هذه الحوادث.

أما فيما يتعلق بفاجعة مزونة، فقد صرح الناطق الرسمي باسم المحكمة الابتدائية بسيدي بوزيد، بأن النياية العمومية قد أذنت بفتح تحقيق في حادثة سقوط جدار بالمعهد الثانوي بالمزونة، ومحاسبة كل من يثبت تقصيره في صيانة المعهد أو تجاهله لعلامات الخطر.

أين المحكمة الدستورية؟؟
وتشير المعطيات الى أن الحادث أسفر عن وفاة ثلاث تلاميذ تتراوح أعمارهم بين 18 19 سنة واصابة اثنين اخرين. من جهته دعا رئيس الدولة الى التحسب من تكرار مثل هذه الحوادث والقيام بأعمال الصيانة لكل المؤسسات التربوية التي تستوجب وضعيتها لذلك.

لكن لسائل أن يسأل وهو يقرأ تصريح رئيس الجمهورية، من أين ستأتي الدولة بالاعتمادات، في وقت غرقت فيه ميزانية الدولة بالفوائد الموظفة على القروض الداخلية والخارجية، والتي تجاوزت 7 مليار دينار سنويا، وهي مرشحة للارتفاع في المدى القصير باعتبار تفاقم القروض؟

في هذا السياق المرير، ألم يحن الوقت لتركيز المحكمة الدستورية للنظر في سياسات الدولة ووضعها تحت مجهر الدستور الضامن للحقوق الاجتماعية والاقتصادية للمواطن، والتي سلبت منه بمقتضى سياسة التقشف؟

** خبيرة في التجارة الدولية، والموازنات التنموية

إضغط هنا لمزيد الأخبار.

شاهد أيضا :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى