افتتاحية القدس: محاكمات تونس: قضاء التعتيم والظلام الدامس

تونس ــ الرأي الجديد
تعليقا على المحاكمات السياسية التي بدأت في تونس أمس من خلال الجلسة الأولى لمحاكمة نحو 40 معتقلا سياسيا بتهمة “التآمر” كتبت “القدس العربي افتتاحية هذا نصها..
وهذا نص الافتتاحية..
بدأت في تونس أمس الجلسة الأولى لمحاكمة نحو 40 مواطناً تونسياً، بينهم ساسة قادة أحزاب ووزراء سابقون ونقابيون ونشطاء مجتمع مدني وأكاديميون وإعلاميون ورجال أعمال، في القضية التي تصنفها السلطات القضائية التونسية تحت مسمى «التآمر على أمن الدولة» والتي بدأت فصولها في شباط/ فبراير 2023 مع اعتقال العشرات منهم.
التُهم المنتظر توجيهها إلى هؤلاء خطيرة، مثل تكوين مجموعات إرهابية أو التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي أو تبييض الأموال أو الاتصال بجهات خارجية، وعقوبات بعضها يمكن أن تصل إلى الإعدام رغم أن البلاد لم تشهد تنفيذ هذه العقوبة منذ 1990.
ويلفت الانتباه أولاً أن السلطات القضائية اتخذت قراراً إشكالياً مستنكراً، ونادر الحدوث حتى خلال النظام البائد في عهد زين العابدين بن علي، وهو إجراء هذه المحاكمات عن بعد وعن طريق الفيديو، من دون حضور الموقوفين إلى قاعة المحكمة، الأمر الذي رجّح لجوء محامي الدفاع إلى مقاطعة الجلسات أيضاً. ومن المعروف أن مبدأ العلانية يضمن فتح المحاكمة أمام الشعب التونسي بما يتيح للجمهور تقدير الصواب أو الخطل في سلوك القضاة والنيابة العامة ومحامي الدفاع والمتهمين، ومدى استيفاء العدل والمساواة أمام القانون.
وهذا الإجراء لا يتسبب في حرمان الرأي العام التونسي من متابعة وقائع المحاكمة فقط، بل يحول أيضاً دون وجود مراقبين يمثلون منظمات حقوق الإنسان والقانون الدولية، وبالتالي يمنح القضاة والادعاء حرية التفرد. ومما يدعو إلى السخرية أن التبرير اتكأ على تدابير تعود إلى فترة جائحة كورونا، أو التذرع بمخاطر إرهابية مقترنة بالمحكمة رغم أن أياً من المُحالين إلى القضاء ليس متهماً بالإرهاب في عرف المحكمة ذاتها.
يضاعف عواقب هذا الإجراء الزجري أن ذوي المعتقلين ومحاميهم وشرائح واسعة ضمن الرأي العام التونسي تساجل بأن ملفات الاتهام فارغة عملياً، ولا قيمة قانونية ملموسة لما يُساق في أوراقها من ادعاءات، خاصة في ضوء ما يتردد من أن بعض الذين تولوا التحقيقات جرى لاحقاً توقيفهم في قضايا تخص انعدام النزاهة، أو هربوا خارج البلاد وكشفوا النقاب عن تلفيق القضية بتوجيه من السلطات السياسية العليا.
ولا عجب أن يجنح هذا القضاء إلى التعتيم وقاعات الظلام الدامس، بالنظر إلى أن سجلاته العدلية بات مطعوناً في صدقيتها على امتداد وقائع متعاقبة ومتنوعة سيق خلالها العشرات من نساء ورجال تونس إلى الاعتقال والاتهامات الجائرة، التي كانت أبرز معجزاتها أنها تضعهم في سلة «تآمر» واحدة رغم اختلاف مشاربهم السياسية والاجتماعية والمهنية. وهذه حال مكشوفة ما دام تسيير القضاء رهن بالتدابير الانقلابية التي عمد إليها الرئيس التونسي قيس سعيّد يوم 25 تموز/ يوليو 2021، وكانت تصفية الخصوم السياسيين في صلب قراراته بحلّ البرلمان ومجلس القضاء وإلغاء الدستور واستبداله على عَجَل.
وإذا لم يكن من حق المواطنين والأحزاب والنقابات وهيئات المجتمع المدني أن تعارض سلمياً استفراد سعيّد بالسلطات الثلاث، فأيّ معنى يتبقى لثورة 2011 التي طوت صفحة الاستبداد وبشّرت بتونس المستقبل؟