السياسة الخارجية الروسية الجديدة في إفريقيا: الرؤية.. الإستحقاقات.. الأسلوب.. والأبعاد
بقلم / عبد الحميد محفوظي
لا شك أن إفريقيا شكّلت ولازالت مطمحا استراتيجيا مهمّا، ومحورا جذّابا للصراع بين القوى العالمية الكبرى، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الأوروبي، ممثلا في فرنسا أساسا من جهة، والصين والهند والإتحاد السوفييتي أو روسيا حاليا من جهة أخرى، حيث تعتبر إفريقيا قارة شبه عذراء، ومجالا واسعا للإستثمار، والهيمنة السياسية.
في هذا السياق، تظهر رغبة روسيا في تعزيز نفوذها في إفريقيا، عبر إيجاد أسواق بديلة عن أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، بغاية تجاوز العقوبات الغربية المسلطة عليها.
الأسلوب الروسي
ورغم أن الغرب يتعمّد تبنّي خطابا مضلّلا تجاه النفوذ الروسي المتعاظم في إفريقيا، من خلال استخدام وسائل غير شرعية وغير نظامية، فإنّ موسكو في المقابل، تؤكد أنّ تطور علاقاتها مع الدول الإفريقية، يندرج ضمن مقاربة موضوعية، تجنّبها منطق “الإستعلاء” الذي ينتهجه الغرب دون إستحياء، وهو ما لخّصه وزير الخارجية الروسي، لافروف ذات مرة عندما قال: “نحن هنا من أجل الشراكة والمكاسب المتبادلة، لا من أجل أن نملي على الآخرين ما يجب عليهم فعله”.
وفي حقيقة الأمر، لم تكن موسكو تواجه الغرب بنقد لاذع تجاه هذه السياسات، وإنما كان همسا خجولا، لتفادي الصدام المباشر معها، والمحافظة على شبه آمال في مراعاة مصالحها الإستراتيجية، لكن الوضع اختلف الآن، بحيث صار الموقف الروسي، عقيدة ستبنى عليها السياسة الخارجية الروسية مستقبلا.
هذا هو الوصف الطبيعي الأنسب، لإستراتيجية السياسة الخارجية الروسية، التي أعلن عنها في 31 مارس الماضي، عند ربط مبادئها مهامها وأولوياتها، بعضها ببعض.
إن أبرز ما يمكن استنتاجه من ذلك التغيير الجدّي – على حد وصف بوتين – في السياسة الخارجية لموسكو، هو رؤية روسيا للسياسات الدولية، على أنها سياسات للقوة، يحكمها منطق التنافس والصراع بالدرجة الأولى.. رؤية سينبثق عنها عداء أشد للغرب وأمريكا على وجه الخصوص.
ويتجلّى العزم الروسي الصريح والمعلن، على مواصلة السعي في سبيل تقويض المنطق الراهن، وتعديل بنية النظام العالمي، وموازين القوى المتحكمة فيها، ولترسّخ صورة الدولة غير المعادية لقوى الهيمنة وبناها، والتي دأبت روسيا على تقديمها، منذ خطاب بوتين الشهيرفي “مؤتمر ميونيخ” لشؤون سياسة الأمن سنة 2007.
سيكون المآل الحتمي للسياسات الروسية، التي ستبنى عليها قاعدة مبادئ العقيدة الجديدة في المستقبل، مزيدا من المراكمة لعوامل القوة على جميع الأصعدة، ومنافسة أشرس مع الغرب في كل الفضاءات والأقاليم والمجالات، بما في ذلك المتوفرة في القارة الإفريقية، التي شهدت زخما غير مسبوق في تطور علاقاتها مع روسيا في السنوات الأخيرة، فما هو نصيب القارة السمراء من الإهتمامات الجيوستراتيجية الروسية ؟
الإختراق الروسي المحسوب
في البداية، يأتي عنصر القضاء على أساسيات الهيمنة التي تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية، والدول الأخرى “غير الصديقة” في السوق الدولية، وهو العنصر الذي وضعته روسيا، كأولوية للإستراتيجيتها الجديدة.
وبوصفها فضاء محبّذا للغرب، مارس فيه كل صنوف الهيمنة والإمبريالية، وبحكم ثقلها في الحسابات المستقبلية للإقتصاد العالمي وموازين القوى، بما فيها تلك الخاصة بروسيا، ستكون القارة الإفريقية بلا شك، الحلبة الأهم لمشادات جيوسياسية شرسة، بين روسيا والدول الغربية النافذة، وستكون القارة الإفريقية كذلك، مسرحا لتنافس شديد بين قطبين، يتأجج عداؤهما كل يوم بصورة أكبر.
وعلى قاعدة هذا المطمح، ستتلاقى أولويات السياسة الخارجية الروسية الجديدة، مع أهداف الكثير من النخب الإفريقية الحاكمة، والتي لم تعد تتحرّج من تبنّي خطاب ينآى بها عن الغرب، وسيوحّدهما تقاسم الحقد على القوى الكولونيالية القديمة، ضمن مسارات تجعل الكثير من الدول الإفريقية أقرب إلى روسيا، التي لا تتوانى عن الإستثمار في الحقد التاريخي للأفارقة على الإستعمار، كي تطرح نفسها كبديل، ولتوطّد علاقاتها بهم. ويمكن أن نستدل هنا بنماذج حيّة، على غرار ما حصل في مالي والنيجر، بالغضافة إلى بوركينا فاسو، والغابون..
استنادا إلى هذا المرتكز، سينحو النهج الروسي، الذي ينزع إلى الإشتباك الجيوسياسي مع أوروبا والولايات المتحدة في القارة الإفريقية، منحى أعتى وأشرس، وضمن فضاءات جديدة محسوبة على الغرب (كإقليم غرب إفريقيا مثلا)، وفق مقاربة جيوـ سياسية، ستجعل الحديث عن مجرد توسيع للنفوذ الروسي في القارة السمراء، من ضروب الجهل بتطورات الأحداث ومجرياتها، سيما خلال السنوات الخمس الأخيرة على الأقل.
نقول هذا، ونحن نستحضر حركية توسع النفوذ الروسي في إفريقيا في غضون السنوات الأخيرة، وهي عملية توسع دقيقة، لا تضاهيها أي فعاليات أخرى في دول منافسة على الكعكة الإفريقية، حتى أن الصين، لم تحقق ما حققته روسيا في آخر ست سنوات مضت..
دوافع جيو ــ استراتيجية
لا ينبغي لنا أن ننسى أو نغفل في هذا السياق، عن معطى مهم، وهو أن العلاقات مع الدول الإفريقية، أصبحت محددا رئيسيا للمكانة الجيوــ استراتيجية لروسيا منذ أزمة شبه جزيرة القرم في 2014. فيما شكلت الزيارات التي نظمتها الخارجية الروسية في 2022، إلى دول إفريقية ــ بما فيها الجزائر ومصر وأوغندا والكونغو الديمقراطية وأثيوبيا ــ جزءا من استراتيجية روسيا لكسر العزلة، والعقوبات التي فرضها الغرب عليها غداة إعلانها العملية العسكرية ضد أوكرانيا.
فبدوافع جيوـ استراتيجية، سنشهد تكريسا لجهد أكبر من طرف روسيا في سبيل تعزيز شراكاتها مع دول شمال إفريقيا، وتعميق النظر في محورية هذا الإقليم في الحسابات الروسية الأمنية والجيوــ سياسية، وفي معادلات التنافس الإستراتيجي بينها وبين حلف شمال الأطلسي.
إن الحرص على استقرار العلاقات مع دول الشمال الإفريقي، سيضمن لروسيا تأمين إطلالة لها في البحر الأبيض المتوسط على الحدود الجنوبية لحلف شمال الأطلسي، وفي الوقت ذاته سيساعدها نسبيا على كسر طوق الإحتواء الأطلسي المضروب عليها عند تخومها الغربية.
هنا كانت زيارة الرئيس الجزائري إلى العاصمة موسكو، تجسيدا مثاليا علي جدية الروابط الإفريقية الروسية خاصة في أبعادها الجيوستراتيجية.
علاوة على ذلك، ومن منطلق جيوستراتيجي، سيشكل سعي روسيا للتشويش على الدول الغربية في نطاقات نفوذها التقليدية في غرب إفريقيا، وفي خليج غينيا، دافعا قويا بالنسبة لها لتطوير علاقاتها الحالية بدول غرب إفريقيا، وفي الوقت نفسه، لبناء علاقات مع دول جديدة في المنطقة، تمكّنها من الدّنو أكثر إلى الضفاف الشرقية للأطلسي. وفي رأينا، تبدو دولة ساحل العاج الأقرب إلى تحقيق هذا الطموح الجيوـ استراتيجي لروسيا.
مداخل روسية أساسية
أما من الناحية السياسية، فإن الأصوات الـ ،54 التي تمتلكها دول القارة الإفريقية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، هي هدف جذّاب بالنسبة لروسيا، يستحق الرهان عليه في خضم حرب عقوبات يخوضها الغرب ضدها، ولا يلوح في الأفق حاليا ما يؤشر لإمكانية رفعها.
كلما ضمت روسيا عددا أكبر من هذه الأصوات لصالحها، أو حيادها على الأقل، ساعدها ذلك على تلافي تصويت أممي ضدها. لذا، فإن المطالب الإفريقية من قبيل دعم الحلول لمشكلاتها، أو مقاومة الإستعمار الجديد، أو مناهضة سلوكيات الهيمنة متعددة الأبعاد (بما فيها الثقافية)، هي مطالب سيتردد صداها أكثر في الخطاب الرسمي الروسي مستقبلا.
وفضلا عن هذا، فإن الإتفاقيات الأمنية المبرمة إلى حد الآن بين روسيا وعدد من الحكومات الإفريقية، هي مما يتوقع تعزيزه خلال الفترة المقبلة، باتفاقيات اقتصادية وتعليمية وتكنولوجية، تحتاجها القارة، وتتطلع إليها روسيا، ضمن بحثها عن أسواق متعددة، بل ضمن حرصها على تغيير نسيج الاقتصاد الإفريقي، بشكل يخدم شراكاتها الإفريقية النوعية.
ولذلك، فإنّ المطالب التنموية والإقتصادية للأفارقة، بقدر ما تعدّ محورية بالنسبة لدول القارة، بقدر ما تتجه الإستراتيجية الجديدة للسياسة الخارجية الروسية، إلى جعلها قاطرة رئيسية في شراكاتها، تمهد الطريق لمضاعفة المبادلات التجارية بين الطرفين، التي تعتبر العصب الحيّ في اي علاقات دولية ــ ثنائية.. بما يجعل لها آثارا على الشعوب في كلا الضفتين..
في هذا السياق، لا بد من القول، بأنّ حجم المبادلات التجارية بين روسيا وإفريقيا، ما يزال متواضعا إلى أبعد الحدود، إذ لا يتجاوز 14 مليار دولار، فيما تصل هذه المبادلات بين القارة الإفريقية والصين، إلى مستوى 295 مليار دولار، وتبلغ نسبة 254 مليار دولار مع الولايات المتحدة الأمريكية، و65 مليار دولار مع الإتحاد الأوروبي، وهو ضعف، يفرض على روسيا التحرك بأكثر نجاعة، وبإلحاح كبير، لتغيير المعادلة في هذه المنطقة..
ونعتقد أنّ الروس، واعون بهذا الأمر، بل هم يخططون لبلوغه، فالوقت لا يسمح بمزيد من التأخير، أو التلكؤ، أو التردد، سيما وأنّ زعماء القارة ونخبها، باتوا يتطلعون إلى هذا الأمر، أكثر من أي وقت مضى.
ويقيننا، أنّ الأفارقة لن يقبلوا مستقبلا، إلا بسرعة الإنجاز الروسي، لكي تجري مياه جديدة في الوادي الإفريقي الراكد، كما يقال.
تبقى الإشارة هنا، في سياق الحديث عن هذه الإستراتيجية الروسية المستقبلية، ضرورة أن لا تكرر موسكو أخطاء الغرب.. فالدخول إلى إفريقيا، يقتضي خطة ذكية، لا تقفز على نخب القارة ومفكريها و”إنتلجنسيتها”، ولا تتعامل باستعلاء مع شعوبها، كما فعل ويفعل الغرب، ولا تقتصر علاقاتها على المكونات الأمنية والعسكرية، فما يؤسس لعلاقات مستقبلية حقيقية، هو نبض الشعوب الذي تمثله نخبها، ومحيط المال والأعمال، الذي يجب العمل معه، تخطيطا واستثمارات، للمساهمة في تغيير المعادلة الاقتصادية والتنموية، وجعل الشراكة والتعاون، “قاعديا”، وليس فوقيا..
عندئذ، ستشعر إفريقيا برمتها، أنها امام فرصة متاحة، وجب اقتناصها واستثمارها، وعدم التفريط فيها..
** كاتب ومحلل في الشأن الروسي