أحداثأهم الأحداثبكل هدوءدولي

اغتيال “أبو العبد”.. والحضن القطري الدافئ

  بقلم / صالح عطية

عندما ضاقت عليه قاهرة المعزّ، وخنقته ضغوط النظام المصري، الذي حاول أن يحكم قبضته على “أبي العبد”، ومن خلال ذلك، على المفاوضات والمسار السياسي لما بعد الحرب على غزة، وجد الشهيد، إسماعيل هنيّة، في الدوحة، العاصمة القطرية، ملجأ وملاذا، بل حضنا دافئا، منحه الطمأنينة، وأريحية التفاوض، رغم كل الضغوط، و”عصير الموقف” الذي كان الرجل رحمه الله، مطالبا بأن يتجرعه، سمّا زعافا، مع كل ترحال للوفود المفاوضة إلى قطر..

زارنا قيادي حمساوي بارز في تونس قبل نحو ثلاثة أشهر، وكان أبرز ما قاله بشأن الضغوط التي تمارس على “حماس”، “إنها مرعبة، ويراد لها أن تقصم ظهورنا”.. ولما سئل عن الدور القطري، تبدّلت ملامحه الغاضبة والحزينة، تبسّم وهو يقول بكامل الوضوح والهدوء: “نحن في بيتنا هناك.. وبين رجال يسندوننا في خياراتنا، ويواجهون الضربات، قبل أن يتلقاها وفدنا المفاوض”، كان القيادي الحمساوي يتحدث، كما لو أنّه ذلك الطفل الذي يعبّر عن ابتهاجه وفرحته، لمن يقدّم له قطعة الشوكولاطة، التي طالما انتظرها..

حاول العدوّ الصهيوني، أن يغتال إسماعيل هنيّة في الدوحة بالذات، لكنّه اصطدم بإرادة صمّاء من القطريين على سلامة الدور، ونجاح المسار التفاوضي، والإنتهاء بالتفاوض إلى ما يرضي الفلسطينيين بالأساس، وفقا لمعايير القانون الدولي، وبموجب الحق الفلسطيني الواضح والبائن، دون الدخول على خطّ استراتيجيتهم، وتكتيكاتهم، التي حرصت الدوحة، على أن تتركها للمفاوض الفلسطيني، يحددها، ويكيّفها، ويضبط مخرجاتها كيفما شاء..
بل إنّ رئيس وزرائها، ووزير خارجيتها، الشيخ محمد بن عبد الرحمان آل ثاني، كلما سئل عن نتائج أي جولة من جولات التفاوض، يجيب قائلا: “نعمل على الخروج بتوافقات تحقن دماء إخوتنا الفلسطينيين في غزة”.

    مع الرئيس الإيراني في طهران

كان ذلك، أمل المفاوض الفلسطيني… أمل، عزز ثقة قيادة حماس وبقية الفصائل، ورسّخ قناعة لدى الجانب الفلسطيني، بأنّ ثمّة راعيا حقيقيا للمفاوضات، وللقضية الفلسطينية، يتخذ له مكانا، هناك، في الدوحة.. وهو الحضن الذي يستوعب الأهوال التي كان الشهيد “أبو العبد”، يتعرض لها خلال المفاوضات..
ألم تطالب إسرائيل، ونتنياهو بالذات، بتحويل وجهة المفاوضات من الدوحة إلى مكان آخر، في اتهامات صريحة لقطر، بكونها ليست محايدة في عملية التفاوض؟؟ وهو ما قابلته قطر بكثير من اللامبالاة..
ثمّ ألم تحرص الطغمة الحاكمة في تلّ أبيب، على إفساد كل “طبخة حلّ”، بحيث تنتهي بها إلى طريق مسدود ؟؟

وكان المفاوض الفلسطيني، في كلّ مرّة، يفوّت الفرصة على نتنياهو ووفده التفاوضي، بإسناد قطري لا مشاحة فيه، تأبى قطر أن تعلن عنه، لكنّه كان باديا على ملامح القيادات الفلسطينية، وهي تروي هنا وهناك، مسارات التفاوض وسياقاته والأدوار التي يلعبها كل طرف..

********************

وما بالعهد من قدم…

فعندما اغتيل إسماعيل هنيّة في طهران، أدارت قيادات وزعماء “دول الطوق” ــ كما تسمى، وهي في الحقيقة دول التطويق على القضية ــ ظهرها لأي إمكانية لاحتضان جثمانه الطاهر.. فلا أرض الكنانة، ولا مملكة لجنة القدس، ولا إمارة الأردن، قبلت بأن يوارى الشهيد على أرضها، ويقام العزاء الرسمي في قصورها.. وتكون مجبرة ــ عندئذ ــ على قبول القيادات الفلسطينية المناضلة، لأنّ قدراتها على التحمّل، محدودة وضيّقة، في مواجهة “الأوامر والتعليمات الإسرائيلية”، التي سبق للكيان الصهيوني أن هدد بالكشف عن حقيقة موقف هذه الدول، وغيرها، من الحرب على غزة..

لقد التزم الجميع الصمت.. فمن لا موقف ولا مبدأ له، لا صوت له.. وحالة البكم أقرب إلى سلوكه وأخلاقه وثقافته..

وسط هذا الخذلان العربي، حتى في حالة موت / استشهاد أحد القيادات الفلسطينية، يبدو الموقف القطري، أقرب إلى البيئة العربية الحقيقية، بيئة الشعوب التائقة للحرية، ولحقّها في تقرير مصيرها.. بيئة النخوة العربية، في أخلاقها وفحولتها ودلالاتها الرمزية.. تستعيض عن هذا النكوص العربي، وتعلنها في صمت وهدوء، أنّ أرض الدوحة، المعطّرة والمخضّبة بمواقف قومية، عربية وإسلامية راسخة، لا يمكن إلا أن تمضي في هذا الاتجاه، غير عابئة بمعاول الهدم، وسيوف الغدر، وما أكثرها في هذه العقود العربية المتراكمة، خذلانا وتواطئا وهزائم واستسلاما..

     أمير دولة قطر… والحزن باد على وجهه لحظة تأبين إسماعيل هنية

شرعت قطر ــ عمليا ــ في بناء نسيج من هذه المواقف منذ فترة طويلة، عبر رعايتها “اتفاق الدوحة” بين اللبنانيين، وأعقبه اتفاق مماثل، وتاريخي بين “الإخوة السودانيين”، بشماله وجنوبه، وإسلامييه وعلمانييه ومؤسسته العسكرية.. وصولا إلى “مفاوضات السلام” الأفغانية مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهي كلها توافقات رعتها القيادة القطرية، وأوقفت بموجبها، نزيف الحروب والجراح، وعطّلت مشاريع “تقسيم المقسّم”، وأكدت أنّ ما يجمع في هذه الأمة، أكثر مما يفرّق.. فقط عندما يقوم في الأمة، “رجل رشيد”، ليس مسكونا بالحسابات الشوفينية، أو المواقف القومية الزائفة، سوى الإنتصار إلى منطق السلام، والتعايش، والمشترك الإنساني، صلب الجسم العربي، أو في ما بين الكيان الواحد..

وبعيدا عن كلّ تزلّـف، لا قيمة له بأي معنى من المعاني، في زمن العاصفة الصهيونية التي تمر على أمتنا، نقول بوضوح تام، أنّ قطر، نحتت كيانها وفلسفتها وأرضيتها الفكرية والديبلوماسية، منذ قيادة الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، خلال أكثر من عشرية كاملة، وهي اليوم تستمرّ مع النسخة الجديدة لنجله الشاب، “تميم”، على أساس التفاهمات المشتركة، والرغبة الصادقة في البناء العربي الحقيقي، بعيدا عن الدسائس والمكائد، التي برع فيها آخرون، دون أن يجلبوا لشعوبهم الاستقرار والسلام والرخاء..

بهذه الروح العربية الإسلامية الصميمة، التي وجدت ترجمتها في سياق العملية التفاوضية المتعلقة بالحرب البربرية الصهيونية على غزة، أبت القيادة القطرية، إلا أن تكمل المشوار.. مشوار إسناد القضية، بحضور رموزها، أو باحتضانهم شهداء، رفاتا وجثامين.. وهكذا فعلت مع الشهيد إسماعيل هنيّة، وقرينه الذي لقي نفس مصيره في ذات العمل الإرهابي الصهيوني في طهران.

********************

احتضنت قطر قائدا مفاوضا.. واستوعبته قائدا شهيدا..

نال الرجل شرف الرقاد على تراب طاهر، في طهورية شعب قطري مضياف، لم يبع نخوته ومروءته العربية، ولم يشتري عزة موهومة في سوق نخاسة الدولة العربية، الملطخة بدماء أبناء شعبها ومناضليه..
ونالت قطر، شرف احتضان رجل، قائد مجاهد نادر، بما سوف يجعلها أرض طواف للفلسطينيين، وكثير من العرب والمسلمين الذين سيتخذون من الدوحة قبلتهم، ومن قبره مزارا، يتلون الفاتحة على روحه الزكية في عليائها، بين الأنبياء والصديقين والشهداء.. ويستلهمون من سيرته المجاهدة، دروسا وعناوين لمساراتهم المقبلة..

بمواراة جثمان إسماعيل هنيّة، رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس”، التربة القطرية، تكون الدوحة، قد ارتقت “مصاهرة” مع القضية الفلسطينية..

فليس بوسع أي كان منذ اليوم، أن يزايد على قطر، دورها الإقليمي والدولي، وليس بإمكان أي طرف، التشكيك في صدقية النوايا والغايات، فعند الشدائد والعواصف والمحن، يظهر الأحبة الحقيقيون، والمساندون غير الوهميين، والمبدئيون، أصحاب المواقف الثابتة، غير المتاجرة بقضايا الشعوب العادلة..

      قبيل استشهاده ببضع ساعات في طهران

من حيث لا تدري كثير من العواصم العربية، التي ركبت حصان هذه القضية العادلة لعقود، باطلا وكذبا وبهتانا، أنها خرجت من “الجلباب” الفلسطيني، لتلبس القضية قميصا أبيض ناصعا، بـ “عقال”، يشهد على إرث الصحراء العربية، وعزة مواقفها، وثبات رؤيتها..

********************

بكت الدوحة، هنيّة، كما لم يبكه بقية الأعراب ــ دون تعميم ــ، وشيّعته أجيال من القطريين، سيذكرون وتذكر أحفادهم، أنّ ثمة بينهم، قائد فلسطيني شهيد، يرقد مطمئنا بينهم، ويعطّر بدمائه الطاهرة، أرضهم وتربتهم… تربة “لوسيل”، التي تشي بكل معاني ودلالات المستقبل..

أو ليست “لوسيل”، مدينة المستقبل، بمظهرها ومكوناتها ومخزونها الرقمي الهائل ؟؟

لقد أرادت القيادة القطرية ــ بدفن إسماعيل هنيّة في منطقة لوسيل ــ أن تبعث برسالة واضحة لا غبار عليها: أنّ للقضية الفلسطينية، مستقبل وضّاء.. وأنّ الرجال العظام، لا تموت.. بل تولد من أرواحها وصفائها وصدقها، عناوين للمستقبل..

ألم يقل أبو العبد في آخر كلمات له أمام المرشد الأعلى لإيران، علي خامنئي، قبيل استشهاده ببضع ساعات: أنّ “هذه أمّة خالدة ومتجددة.. إذا مات فيها سيّد.. قام سيّد”!!؟؟

لقد رحل الشهيد إسماعيل هنيّة إلى الفردوس الأعلى.. لكنّ طيفه سيظلّ يتجوّل في كل أنهج “لوسيل” وساحاتها وحدائقها وبيوتها، وسيكون كما الظلال التي تحيط بشوارع الدوحة، من المطار العالمي، إلى الكورنيش الخلاب، مخلّفا وراءه، ثقل قضية عادلة، ترك مشعلها عند قيادة قطرية شابّة، ستزيدها إصرارا على المضيّ قدما، باتجاه النهايات التي لن يكون سقفها، أقلّ من إيقاف الحرب، وبناء دولة فلسطينية من النهر إلى النهر.. رغم أنف العدوّ.. ووكلائه.. والمتواطئين معه..

رفعت الأقلام.. وجفّت الصحف..

شاهد أيضا :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى