“مذكرات رقيب على الكتب”… عندما تعود أدوات الاستبداد للظهور من جديد !!!
بقلم / صالح عطية
كتاب “مذكرات رقيب كتب” الذي أصدره أنس الشابي مؤخرا، يمثل أعلى درجات الصفاقة والوقاحة في البلاد..
فقد عرف هذا الرجل، المتخصص في التفكير الإسلامي، بتكليفه زمن الاستبداد، بالرقابة على كل المنتجات ذات العلاقة بالفكر الإسلامي، كجزء من الحصار، وكأداة في المحرقة التي حصلت ضدّ “حركة النهضة”، والإسلاميين التقدميين خلال سنوات ما بعد انقلاب بن علي عام 1987.
واللافت، أنّ الرجل الذي يتبجح بكونه كان رقيبا على الكتب والمنشورات، كان أداة قمع فكري وثقافي وإبداعي زمن انقلاب بن علي، وقد اختفى منذ الثورة التونسية، ليخرج اليوم، بعد انقلاب 25 يوليو، (وكأنه يعيش في مناخات الإنقلابات)، ويعيد على مسامعنا، دوره الذي أقل ما يقال عنه، أنه “قذر” و”لا إنساني”، وهو ما يعني أنّ الرجل كما بعض النباتات، التي لا تينع إلا في وسط ترابي لا ينتج إلا النباتات ذات الأصول والمظاهر المتعفنة..
لست أدري ماذا يعني، إصدار “الرجل” هذا الكتاب الآن، ودعوته من الإعلام الوظيفي، لكي يمنح فرصة الترويج لتلك الأدوار البوليسية التي كان يقوم بها، في تحدّ واضح للدولة والنظام والنخب والثورة والانتقال الديمقراطي، وقبل ذلك وبعده، في تحدّ صارخ، لدور الإنسانية في هذا الوجود.. أليس تاريخ الإنسانية، هو تاريخ أفكارها وإبداعاتها واجتهاداتها الفكرية والثقافية والفلسفية والدينية والعلمية والأدبية وغيرها ؟؟
لم يحصل في التاريخ الإنساني، أن خرج من يزعم أنه مثقف، وتقدمي، وحداثي، ويبشر بعالم أفضل، لكي يعلن أمام الملإ، أنّه كان يراقب المصنفات الفكرية والثقافية والسياسية لتونسيين، من جلدته، وأبناء بلدته، اختاروا أن يكتبوا وينشروا مقارباتهم وأفكارهم ومساهماتهم، للعموم، بكل شفافية، ليصطدموا برقابة هذا الرجل، ومنعه هذه المصنفات وقبرها، وإحالتها إلى جحيم التعتيم والمنع وما يعرف بــ “الثلاجة”، في نوع من الإبادة للفكر والثقافة في بلادنا.
إنّ ما اقترفه هذا “الرجل”، يمثّل دور محاكم التفتيش التي شهدها العالم في القرون الوسطى، وثارت ضدّها الإنسانية، لأنها ببساطة، جريمة ضدّ الإنسانية بكل معنى الكلمة، وهل ثمّة أقسى على البشرية من منعها من التفكير والاجتهاد والإنتاج المعرفي، بصرف النظر عن تمظهراتها الفكرية أو الفلسفية أو العلمية أو الدينية أو السياسية، فذلك ما يمثل هوية المجتمعات، وقدرتها على البقاء والمقاومة..
إنّ تاريخ المجتمعات، هو تاريخ الأفكار، والمنتجات الفكرية، وهو الجهد البشري، الذي يعطي معنى للحياة والاستمرار الإنساني.
والغريب أنّ هذا “الرجل”، يعلن انتماءه لـ “الحداثة” والتصورات “التقدمية”، بل لليسار التونسي، الذي طالما رفع شعارات الديمقراطية والتحديث والعلمانية، لنكتشف اليوم، أنّ هذا اللون من اليسار، ليس سوى أداة استبدادية ديكتاتورية مقيتة، لا تقف فقط ضدّ الحريات والديمقراطية وحق الإنسان في التفكير، ــ وهو حق منصوص عليه في مواثيق ومعاهدات دولية أممية وكونية، منذ أكثر من قرنين من الزمان، على الأقل ـــ بل إنّها تترجم وجود “كائنات” بيننا، تظهر انتماءها للتحديث، وللنوع الإنساني، وهي تقوم بدور وظيفي، ضدّ حق الناس في التفكير والاجتهاد والنشر..
إنّ على النخب التونسية، بيسارها قبل يمينها، وبأحرارها ومثقفيها الحقيقيين، والغيورين على مستقبل الأجيال القادمة، ومناخات عيشها الآمن والمشترك، أن يكون لديهم موقف واضح من أصحاب هذه المهمات القذرة، الذين تطوعوا ــ بزعمهم ــ (ولكنّهم استفادوا بشكل لا مثيل له من نظام الاستبداد)، لكي يلعبوا دور “قاضي الأفكار”، و”بوليس الثقافة”، و”الرقيب على عقول الناس”، كانوا الوقود الخلفي للظلم الذي سلّط على تونسيين، بصرف النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا معهم في التفكير والمقاربة والتصور والنظرة للعالم.
حريّ بالدولة التونسية اليوم، أن تتخذ موقفا واضحا من مثل هذه الكتابات، التي لا تشرف تونس، ولا تشرف النخب التونسية، سواء كانت في الحكم أو في المعارضة، أو في أجهزة الدولة، إنها فضيحة بكل معنى الكلمة، لم يجد بها تاريخ البلاد مطلقا..
دعك من بعض الكتابات المتحذلقة، التي تحاول أن تقدّم الكتاب على أنّه كشف لمرحلة سابقة، وتفاصيل القمع فيها، وهل نحتاج إلى هذا “الكشف المزعوم”، لكي نتبيّن مدى ضخامة ما حصل خلال سنوات حكم بن علي.
إنّ تعطيل آلية المحاسبة منذ الثورة إلى الآن، وفرت فرصة لهذه “الكائنات” أن تعود للمشهد من جديد، ولا غرابة أن يخرج علينا أحد المعذبين في أقبية وزارة الداخلية سابقا، لكي يحدثنا عن يوميات معذّب في السجون ومراكز الإيقاف التونسية، مفتخرا ومتباه بأفعاله.. فماذا سيقول المتحذلقون السذّج، سياسيا، عندئذ.. هل سيبشروننا بفتح عظيم في مجال التعذيب ؟؟
تبقى الإشارة، بأن ثمّة اليوم من يشبهون أنس الشابي، موجودون في المشهد الإعلامي والسياسي والمجتمع المدني، وهم لا يقلون عنه تفكيرا عنيفا وقمعيا واستئصاليا للفكرة والرأي والموقف والوجهة السياسية..
ولعل السبب وراء هذه العودة لمنظومة استبداد بن علي إلى المشهد اليوم، هو أنّ هذا الانتقال الديمقراطي، الذي عاشت البلاد على خلفيته 10 سنوات أو تزيد، لم يكن سوى نسخة هشّة، تم إنهاؤها بجرّة لسان، لتعود إلينا مثل هذه الكائنات في استعلاء وقح ومقزز إلى أبعد الحدود..