صناديق الاستثمار الأجنبية: هل البيئة التشريعية التونسية مهيّأة لقوانين من هذا القبيل ؟؟
بقلم / جنات بن عبد الله
ينظر مجلس نواب الشعب يوم غد الثلاثاء 26 مارس 2024، في مشروع اتفاقية مقر بين تونس وصندوق قطر للتنمية حول فتح مكتب للصندوق بتونس.
وينتظر أن تشهد هذه الجلسة جدلا بين الكتل البرلمانية، رغم التطمينات التي قدمتها الحكومة بخصوص ما اعتبره عدد من النواب “مخاطر يمكن أن تمس بالسيادة الوطنية للبلاد”. .
ونشير إلى أن هذا المشروع سبق أن طرح على مجلس النواب السابق في سنة 2021، إلا أنه شهد تعطيلات حالت دون مروره، حيث تم التصويت عليه في جلسة عامة انعقدت عن بعد (زمن الكورونا) يوم 30 جوان 2021، وقامت أنذاك المعارضة ــ التي اتهمت حكومة النهضة ببيع تونس إلى قطر، من خلال إصرارها على تمرير المشروع، معتبرة أنّه يمس بالسيادة الوطنية ــ بالطعن فيه لدى الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين التي رفضته. كما أن رئيس الجمهورية قيس سعيد، لم يوقع عليه ليتم تمريره من جديد إلى البرلمان الحالي من قبل حكومة الحشاني..
وجهة نظر المعارضة
ففي ظل الخيارات الجديدة لرئيس الجمهورية، كان من المفترض أن يعرف نص المشروع مراجعات تتماشى مع هذه الخيارات، التي لا تختلف في جوهرها مع ما تقدمت به المعارضة، من ذلك مجالات تدخل الصندوق التي اعتبرتها واسعة وحساسة، وتشمل قطاعات كالصحة والتعليم والتربية والفلاحة.
كما ترى المعارضة أن مشروع الاتفاقية يعطي امتيازات هامة للصندوق كحق امتلاك الأراضي الفلاحية، واختيار الموظفين دون أن يكون للدولة إمكانية إجراء أي شكل من أشكال الرقابة أو التدخل في هذا الاختيار، ولا يمكن للدولة أيضا اتخاذ أي إجراء تشريعي أو ترتيبي من شأنه أن يعيق المشاريع “التنموية” التي سيساهم الصندوق في تمويلها، وهو ما اعتبرته المعارضة خطر على السيادة الوطنية…
ورغم هذه المعارضة دافع بلاغ صادر عن البرلمان وبشدة، على مضمون الاتفاقية التي اعتبرها “ستضفي إلى إبرام عدد هام من الاتفاقيات التمويلية وفق التشريع التونسي وبشروط يناقشها الجانب التونسي، للحصول على فائدة أكبر للطرف التونسي” وفق نص البلاغ.
ورغم الصيغة المطمئنة لنص البلاغ، إلا أنه لا يخلو من مغالطات خطيرة تتعلق بطبيعة التشريع التونسي، الذي أراد البرلمان الاحتماء به، والحال أن هذا التشريع التونسي عرف تغييرات في عهد يوسف الشاهد ضربت كل آليات حماية السيادة الوطنية وخياراتنا وأولوياتنا لتتعامل مع المستثمر الأجنبي “معاملة وطنية”، لا تختلف عن معاملة المستثمر المحلي رغم أن مصالحه، أي الأجنبي، لا تتطابق بالضرورة مع مصلحة البلاد.
فتركيز صناديق استثمار في تونس، جاء بمقتضى هذا التشريع الجديد الذي صادق عليه برلمان ما بعد انتخابات سنة 2019، والذي يندرج ضمن برنامج الإصلاحات لصندوق النقد الدولي وأولويات الاتحاد الأوروبي في تونس.
ففي مقال صادر في شهر جويلية سنة 2021 جاء تحت عنوان “عودة على صندوق قطر للتنمية”، أكدنا فيه أن الانتقادات التي وجهتها المعارضة أنذاك لمشروع الاتفاقية كان حري بها أن تتوجه بها إلى الإطار القانوني الذي تم الاستناد إليه لفتح مقر الصندوق في تونس، وهو القانون عدد 71 لسنة 2016 مؤرخ في 30 سبتمبر 2016 يتعلق بقانون الاستثمار، والقانون عدد 47 لسنة 2019 مؤرخ في 29 ماي 2019 يتعلق بتحسين مناخ الاستثمار.
نشاط صناديق الإستثمار
وقد شكل هذا الإطار القانوني الجديد المستند الأساسي لنشاط صناديق الاستثمار الأجنبية في تونس، وحدد لها مجالات تدخلها وطرق ذلك بما يضمن لها جميع حقوقها حتى وان تعارضت مع سيادتنا الوطنية باعتبار أن هذه القوانين الجديدة جاءت بمقتضى أحكام اتفاقيات المنظمة العالمية للتجارة في باب تحرير قطاع الخدمات وتحرير الاستثمار..
لقد فات الأوان اليوم للمعارضة من أجل المعارضة أو التعطيل فـ “التشريع التونسي”، أصبح هو الحكم والفيصل، وهو تشريع صيغ على مقاس رأس المال العالمي، وليس على مقاس أولوياتنا التنموية..
فمثلا في باب الانتدابات وتشغيل الأجانب، جاءت الانتقادات على أساس أن الاتفاقية سمحت بجلب العمالة من الإطارات وغير الإطارات بالكامل من الخارج، في حين أن الفقرة 6 من الفصل 7 من اتفاقية صندوق قطر نصت على:” أنه يسمح لمكتب صندوق قطر للتنمية باستخدام الموظفين والمستشارين والتابعين ذوي الجنسية الأجنبية وتسند لهم تراخيص عمل عند الاقتضاء”، وهو ما لا يتضارب مع ما جاء بقانون الاستثمار لسنة 2016 في هذه المسألة حيث نص الفصل 6 من القانون على أنه:” يمكن لكل مؤسسة انتداب إطارات من ذوي الجنسية الأجنبية في حدود 30 بالمائة من العدد الجملي للإطارات بالمؤسسة وذلك إلى نهاية السنة الثالثة من تاريخ التكوين القانوني للمؤسسة.
وتخفض هذه النسبة وجوبا إلى 10 بالمائة من السنة الرابعة من هذا التاريخ. وفي كل الحالات يمكن للمؤسسة انتداب أربعة إطارات من ذوي الجنسية الأجنبية، وفي صورة التجاوز يخضع الانتداب إلى ترخيص من قبل الوزارة المكلفة بالتشغيل”، وهو ما تم التنصيص عليه في الفقرة 6 من الفصل 7 من الاتفاقية صراحة وبكل وضوح بخصوص إسناد تراخيص عمل عند الاقتضاء أي عند تجاوز أربعة انتدابات حسب حاجيات المكتب.
ماذا تضمنت الاتفاقيات ؟
الانتقادات شملت أيضا الامتيازات التي يتمتع بها الصندوق والتي جاءت بمقتضى القانون عدد 47 لسنة 2019 مؤرخ في 29 ماي 2019 يتعلق بتحسين مناخ الاستثمار وهو القانون الذي سوق له يوسف الشاهد واعتبره تاريخيا حيث ألغى ما اعتبرته الحكومة معوقات تعترض المستثمر الأجنبي، ضاربا بذلك كل الإجراءات التي من شأنها حماية المستثمر التونسي ونسيجنا الاقتصادي وحقوق الدولة التونسية في تطبيق خياراتها الاقتصادية والاجتماعية والمالية والتي أعيد فيها النظر على مقاس مصالح رأس المال العالمي والشركات الأجنبية بمقتضى هذا القانون الذي حرر الاستثمار وكل الخدمات بما في ذلك الخدمات المالية التي تشكل أحد المحاور الأساسية لمشروع مجلة الصرف الجديدة التي لا تخلو من مخاطر تهدد استقرارنا المالي والاقتصادي.
فقد نص الفصل 19 من قانون تحسين مناخ الاستثمار لسنة 2019 على:” تضاف إلى الفقرة الأولى من الفصل 20 من القانون مطتان رابعة وخامسة تتمثل في:
** تكفل الدولة (كتشجيع للمستثمر الأجنبي) بمساهمة الأعراف في النظام القانوني للضمان الاجتماعي بعنوان الأجور المدفوعة للأعوان التونسيين على فترة لا تتجاوز العشر سنوات الأولى من ابتداء تاريخ الدخول طور النشاط الفعلي.
** إسناد الأراضي الدولية غير الفلاحية (للمستثمر الأجنبي) في صيغة كراء طويل الأمد أو بالدينار الرمزي ويسقط حق المستثمر على الأرض المسندة وتسترجعها الدولة في حالة توقفه عن النشاط نهائيا”.
;من الانتقادات التي وجهت الى اتفاقية المقر تلك المتعلقة بأهلية الصندوق في المشاركة أو بعث صناديق استثمارية تابعة له وفقا للتشريع التونسي. واعتبرت الجهات الرافضة للاتفاقية، وهي جهات برلمانية، أن ذلك يسمح للصندوق بتملك العقارات الفلاحية دون رخصة، لنتساءل عن مدى اطلاع هذه الجهات على القوانين الجديدة وعلى توجهات الدولة في باب تحرير الاستثمار في اتجاه إلغاء التراخيص، ومن ضمنها البلاغ الصادر بتاريخ 20 جوان 2021 عن رئاسة الحكومة آنذاك الذي تم الإعلان فيه عن إلغاء التراخيص بالنسبة لــ 27 نشاط اقتصادي.
شركات التصرف
وقد شمل القرار تحرير الاستثمار في المحافظ المالية، وتحديدا حذف التراخيص المتعلقة بتكوين صناديق الاستثمار وتعويضها بكراس شروط..
ويتمثل نشاط شركات التصرف في المحافظ المالية وصناديق الاستثمار، وهي شركات خفية الاسم، في استثمار الأموال المجمعة لديها لاقتناء أسهم أو سندات دين أو رقاع تصدرها الدولة أو شركات لفائدة الغير (وهو مجال خطير سنتعرض له بالتحليل في مقال قادم حول مجلة الصرف)..
وقد عرف قانون تحسين مناخ الاستثمار لسنة 2019 صناديق الاستثمار بالفصل 22 تاسع عشر كالتالي: “تعتبر صناديق الاستثمار المتخصصة صناديق مشتركة للتوظيف في الأوراق المالية (أسهم وسندات دين ورقاع خزينة) تقوم بإنجاز استثماراتها لمصلحة مستثمرين حذرين وفقا لسياسة استثمارية يتم ضبطها في نظامها الداخلي. وتكون الموجودات المكتتبة بواسطة عملة أجنبية على ملك مستثمرين غير مقيمين تونسيين أو أجانب على معنى القانون المتعلق بالصرف أو مستثمرين مقيمين”.
وبالرجوع إلى الفصل 15 من القانون عدد 47 لسنة 2019 مؤرخ في 29 ماي 2019 يتعلق بتحسين مناخ الاستثمار الذي سمح لشركات الاستثمار باقتناء أو اكتتاب أسهم أو حصص في رأس مال مؤسسة تتم إحالتها بصفة اختيارية بسبب إعادة هيكلتها، والذي يعرف عملية إعادة الهيكلة كل ترفيع في رأس مال المؤسسة موضوع الاستثمار في إطار برنامج إعادة هيكلة، فإننا نفهم توجه الحكومة الرامي الى تفريط الدولة في المؤسسات العمومية بعنوان إعادة الهيكلة والتي تسوق لها كعبء على ميزانية الدولة، وأن اتفاقية المقر تستجيب لتوجهات الدولة التونسية بل أن هذه الاتفاقية هي نموذجا لما ينتظر البلاد من تفريط في المؤسسات العمومية لفائدة صناديق الاستثمار وشركات التوظيف في الأوراق المالية. وفي صورة المصادقة على المشروع فمن حقنا أن نتساءل عن حقيقة ما تغير في تونس بعد 25 جويلية 2021.