بين الاتحاد وجبهة الخلاص: حسابات الحقل والبيدر بنكهة نقابية أيديولوجية مرتبكة..
تونس ــ الرأي الجديد / كتب صالح عطية
منذ تشكل جبهة الخلاص الوطني قبل عام ونيّف، بدت العلاقة بينها وبين اتحاد الشغل، في شبه قطيعة، بسبب خلافات في تقييم المشهد السياسي، على خلفية “حدث 25 جويلية”، وتلك الإجراءات الاستثنائية التي أعلنها الرئيس قيس سعيّد، بشكل مفاجئ للجميع، والتي هزت منذ تلك اللحظة البلاد، طولا وعرضا..
بداية الخلاف، انطلقت من توصيف “25 جويلية”، الذي تعتبره الجبهة “انقلابا كامل الأوصاف”، على المؤسسات المنتخبة (غلق البرلمان)، وعلى الانتقال الديمقراطي، ثم لاحقا على دستور 2014، وما تلا ذلك من إجراءات تخص القضاء والإعلام والشأن السياسي، والعلاقة بالخارج، والمسألة التنموية والاجتماعية.
فيما اعتبر اتحاد الشغل، أنّ ما حصل كان ضروريا، ووصفه بــ “العملية التصحيحية” لمسار نعته الاتحاد بــ “العشرية السوداء”، رغم أنه كان طرفا فيه، ولاعبا أساسيا في كامل تفاصيله.
هوة… اتسعت
وازدادت الهوة بين الطرفين، على خلفية مكونات جبهة الخلاص، التي تتضمن (حركة النهضة)، و(ائتلاف الكرامة)، وهما المكونين اللذين، يرفضهما الاتحاد، الأولى يحملها مسؤولية العشرية الماضية، ويصل حدّ اتهامها بالإرهاب والتسفير ونهب المال العام، والعلاقة المشبوهة بالخارج، مشككا في وطنيتها، فيما اتخذ موقفا من “ائتلاف الكرامة”، بسبب مطالبته بمحاسبة قياداته، متهما إياها بالفساد المالي، والتورط في ملفات اجتماعية ونقابية ضخمة، كانت سببا في استفحال الأوضاع، عبر استخدام المعطى النقابي، وحراك النقابات (الإضرابات)، لتعطيل مسار الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، التي لوحت بها عديد الحكومات بعد الثورة، ومارس الاتحاد ضغوطا عالية ومتعددة لوأدها قبل أن تولد..
ومع فتح ملفات اتحاد الشغل من قبل رئاسة الجمهورية، والتلويح بالمحاسبة، تراجعت قيادة الاتحاد في لهجة خطابها إزاء السلطة، رغم ما يبدو عليها من “استقلالية ومسافة”، ولذلك اتخذ موقف الاتحاد، منحى غامضا في علاقة بالسلطة، يتم من خلاله، تعويم خطاب المطلبية، مع الوقوف إلى جانب 25 جويلية، والدعوة “لحوار وطني لا يقصي أحدا”، كما كان يصرح بذلك الأمين العام للاتحاد (آخر هذه التصريحات أمس)، لكنّه يرفقه بجملة “إلا من تورط في العشرية الماضية”، في إشارة إلى بعض مكونات جبهة الخلاص، وأساسا “النهضة” و”ائتلاف الكرامة”، وبذلك كان الخطاب منذ 25 يوليو، متأرجحا، ومترنحا، يعكس ارتباكا صلب القيادة النقابية، التي يصفها بعض المراقبين، بأنها “الأضعف في تاريخ المنظمة الشغيلة”، ليس بسبب ما يقال حول الفساد الذي ينخر قياداتها فحسب، ولكن لهيمنة أطراف سياسية وأيديولوجية، متدثرة بعباءة الفعل النقابي، وهي تمثّل “العصب الحي لخطابه وتوجهاته منذ الثورة إلى الآن، رغم تعدد القيادات التي تداولت عليه، إذا استثنينا المرحوم عبد السلام جراد.
خطوة إلى الأمام… هروب للأمام
لذلك، كلما تقدمت جبهة الخلاص خطوة باتجاه اتحاد الشغل، في مسعى لتوحيد المعارضة والقوى السياسية والاجتماعية، ضدّ “الإنقلاب”، كما تسميه، والعودة للديمقراطية ومسار بناء الدولة الاجتماعية التي تحمي التنوع والتعدد السياسي، كلما زاد الاتحاد في “الهروب إلى الأمام”، مخلفا الكثير من التساؤلات..
إذ على الرغم من رفض رئيس الجمهورية مبادرة الحوار التي أعلن عنها الاتحاد، رفقة منظمات، “الرابطة” و”المنتدى” و”المحامين”، معربا عن قناعته بأن “لا جدوى من الحوار الوطني”، ومستهزئا من مضمونه المزعوم، ما يزال الاتحاد يراهن على قبول رئاسي للمبادرة، التي ترفضها جبهة الخلاص، لأنها جاءت من جهة واحدة بلا شراكة في وضعها، والتخطيط لها، فضلا عن أنّ مكونات المبادرة، ضعيفة بدورها، على اعتبار أن القيادات الراهنة، ليست لديها الخبرة السياسية الكافية، لإدارة حوار وطني، بحجم المرحلة الراهنة واستحقاقاتها، وهو ما تصفه بعض مكونات الجبهة، من الشخصيات السياسية والحقوقية بـ “العبث”، الذي لا يمكن السير في اتجاهه، رغم أنّ الجبهة لا تصرح بذلك رسميا..
صورة من الأرشيف
الخلاف، أو المنهجية المختلفة بين الطرفين في مواجهة المرحلة، وقاموسها السياسي، واستحقاقاتها الوطنية، تجدد أمس بمناسبة الاحتفال بعيد الشغل العالمي، حيث أعلن سمير الشفي، عضو المكتب التنفيذي لاتحاد الشغل، في تصريح إعلامي، “أنّ القيادة النقابية لا تتقاطع مع جبهة الخلاص في الموقف من مسار 25 جويلية، الذي يعتبره الاتحاد فرصة للإصلاح، فيما تصفه الجبهة بأنّه (انقلابا)”.
هذا التصريح، الذي جاء جوابا على دعوة الجبهة، اتحاد الشغل، الانضمام إلى حراكها المناهض ضدّ “الانقلاب”، واجهه رئيس جبهة الخلاص، نجيب الشابي بالقول: “نعم أوافقه (سمير الشفي) تماما في ذهب إليه، بأننا على طرفي نقيض في الوقت الحاضر، في تقدير ما حدث يوم 25 جويلية، ولكننا في الجبهة لا نلعن المستقبل”، تاركا بذلك أفق العلاقة لتطورات الأحداث وسياقاتها السياسية والمجتمعية والتاريخية.
واضح عندئذ، أنّ مساري الطرفين، مختلفين، إن لم نقل متناقضين إلى حدّ بعيد، ليس لأنّ الوضع معقّد إلى هذه الدرجة الكبيرة، وإنما لأنّ الحسابات والتحالفات وتقدير الوضع في حدّ ذاته، ومآلات الأمور في البلاد، ليس فيها ــ على الأقل في الوقت الراهن ــ أي مجال للإلتقاء بين الطرفين، في ضوء توكؤ اتحاد الشغل على طرف أيديولوجي مهيمن في المنظمة، لا ينظر لأفق العلاقة مع جبهة الخلاص، إلا من خلال “سمّ الخياط”، متسلحا برؤية متكلسة لما يجري في تونس، وبتحالفات، أقل ما يقال فيها أنها لا تخدم المرحلة الراهنة، ولا يمكن أن تؤسس لبديل ديمقراطي، أو لمخرج من أزمة معقدة، لعب الاتحاد بفضل هذه المجموعات، دورا مهما في الوصول بها إلى الدرك الذي نعيشه الآن..
ومع ذلك، فعلى المرء، ألا يلعن المستقبل، كما قال نجيب الشابي، الخبير بالمشهد السياسي، وبالصراع مع الأنظمة المستبدّة..