في سبيل سرديّة لمسار الثورة التونسيّة: الوحدة الوطنيّة آخر الحصون
(الحلقة الأولى)
بقلم / محمد الرقـاد*
في البدء…
لعله من نافلة القول، أنّ الشعب التونسي من أكثر الشعوب العربيّة الإسلامية وحدة وانسجاما. إذ لا فوارق عرقيّة أو عقائديّة أو مذهبيّة أو لغويّة تشقه. وهذه سمة بارزة ضمنت وحدة البلاد وتقارب أهلها كما حمتهم من أيّة حروب أهليّة على مرّ السنين.كما يؤكد دارسو التاريخ المعاصر أنّ دولة ما بعد الاستقلال قد اشتغلت على التقريب بين الناس وعملت على القضاء على كل منحى قد يظهر في اتجاه القبلية أو الجهويّة. وربّما ساعدت الحضارات التي مرّت بتونس أهلها الذين اكتسبوا أقدارا من النضج والمرونة على تشرّب معاني التبادل والمثاقفة بدل الصراع أو المغالبة ناهيك عن الوصول إلى وضع التقاتل أو التنافي الكامل.
إنّ ما دفعني للكتابة في شأن الوحدة الوطنيّة، هو ما لاحظته ممّا يأتيه البعض من سلوك ومن تصريحات وكتابات، تعمل على النفخ في التقسيم والتشتيت إلى درجة تجعل بعض الناس يتخوّفون على ما ترسّخ في الشعب من وحدة وانسجام، وليس خافيا على كل ناظر من تنامي بوادر تهدّد هذا المعطى . أين تظهر هذه السلوكيات ؟ وما هي المعاول التي اشتغلت أو وظفت لإنتاج الفرقة والتباغض ؟ وما هي العناوين التي غدت محامل لتحقيق هذه الأهداف البغيضة؟
معاول التقسيم
لا أحد ينكر أنّ دولة الاستقلال كانت حاملة لمشروع مجتمعي أو هي سعت إلى بلورته خلال التطبيق وتثبيت أسس الدولة التونسيّة. تجلى ذلك في نشر التعليم وتعميمه وفي الصحة والنقل كما بذلت جهدا توعويّا للقضاء على الجهويات والعروشية، باعتبارها أشكال انتظام تنتمي إلى مرحلة ما قبل الدولة الحديثة. لكن في المقابل لم يكن الجهد التنموي عادلا أو متوازنا بين الجهات إذ سرعان ما أدرك أبناء المناطق الداخليّة في الشمال الغربي وفي الوسط الغربي وفي الجنوب أنهم مواطنون من درجة ثانية في بلادهم. لم تشملهم التنمية ولم تتحقق لهم أسباب العيش الكريم بل لم يستفيدوا ممّا تزخر به بعض تلك الجهات من موارد طبيعيّة ومنجميّة. هذه حقائق ساطعة جعلت مقولات مثل “الوطنيّة ” ” المواطنة ” ” الشعب الواحد ” لا معنى لها عند الكثيرين. إذ كيف يستقيم الحال أن يكون شعب واحد في وطن واحد لكنهم غير متساوين في الحظوظ؟ ولا يوجد بين جهاته أي معنى لتكافؤ الفرص. التي هي من أوكد أسّ المواطنة.
صنف من الخطاب الإعلامي
لم يمرّ وقت طويل بعدما أنجز الشعب التونسي ثورته المجيدة موحّدا حتى استفاقت معاول هدم متعدّدة. وقد قام بعض أهل الإعلام بهذا الدور واشتهر بعضهم من جراء تبني هذا الدور، بل هناك من كان من أشرس المناوئين للمنجز الوطني، بالرغم ممّا وفرته الثورة من حريّة استفاد منها الجميع.
لقد انبرى طيف من هؤلاء يرذّلون الثورة والثوار وكل ما ينسب لها أو نتج عنها. وقد اشتغلت “ماكينة” محترفة ومتمرّسة في مثل هذه الأدوار، ولا يشك أحد في ما كانت تقوم به بعض الدوائر من جهد في سبيل تدعيم هذا الدور، معنويّا وماديّا. فطفقوا يبثون التفرقة بين التونسيين، واشتغلوا على مقولات تحكمها ثنائيات، هي عنوان لكل تقسيم من قبيل، قديم وجديد، وحداثي ورجعي، وآفاقي وثوري وأزلام. ثم تدعّم هذا الدور إلى أن بلغ حدّ التشكيك في الثورة. فروّجوا مقارنات واستبيانات بين حال الناس قبل الثورة وبعده، وكأنّ الشعب التونسي كان في بحبوحة عيش !! لكنّه أخطأ أو غرّر به، فثار على تلك البحبوحة !! كما وجد من لم يخجل من نسبة الثورة إلى جهات أجنبيّة، متناسيا كدح ونضال أبناء هدا الشعب العظيم، على مدار أجيال ودون احترام أو إجلال لمن سقط شهيدا وروّت دماؤه الزكيّة أرض الخضراء.
كما نطقوا بعديد الروايات والسرديات والقصص التي كانت تعمل كلها على التشكيك في الحدث الثوري وعلى تيئيس أكبر قدر ممكن من الجمهور من الثورة ثم اشتغلوا على السخرية من رموزها أو ممّن انخرطوا في مسار الانتقال الديمقراطي فلم يسلم لا الغنوشي لا المنصف المرزوقي ولا المرحوم الباجي قايد السبسي أو الرئيس الحالي قيس سعيّد كما شمل غيرهم من الشخصيات الوطنية الاعتباريّة.هي عمليّة مدروسة للاغتيال الرمزي. بل لم تسلم من سخط هذا الخطاب الإعلامي الموجّه أيضا الدول الشقيقة والصديقة التي أظهرت تعاملا إيجابيا مع منتج الثورة واحترموا اختيارات الشعب التونسي الذي ثار و أهدى أمّة العرب تجربة مميّزة في الحريّة والديمقراطيّة وأبدوا استعدادهم لتدعيم الدولة التونسيّة بعد الثورة سياسيا أو ماديّا في وقت كانت بلادنا في أمسّ الحاجة إلى مثل هدا الدعم.الأكيد أنّني هنا لا أتحدث على النقد الموضوعي الذي ما فتئ يأتيه إعلاميون أو برامج أو كتابات صحافيّة توجّه سواء لمسار الثورة أو لضعف منجزها لاسيما الاقتصادي، الاجتماعي أو إزاء ما يطرأ من حالات تأزّم فذلك مطلوب بل هو من صميم الفعل الثوري ولا أقصد كل ما يدخل في ما يعتبر من قبيل حريّة الإعلام .
صنف من الخطاب السياسي
لقد عمل جزء مهمّ من الخطاب السياسي على القيام بدور التقسيم. و تنوّع القائمون به. لقد استمعنا إلى مفردات من قبيل، نحن، هم أو دمنا ودمهم وأغلبيّة وصفر فاصل وأبناء الدولة والدخلاء…. الخ. كل هذه الخطابات وظفت في التقسيم وفي شحن الخلافات لكن أشدّها خطورة، وللأسف ما تضمّنته أغلب خطابات السيد الرئيس الحالي. كيف يبدو ذلك ؟ إذ في الوقت الذي يفترض وفق ما تواضع عليه التونسيون بل ما تشرّبوه في وعيهم ولا وعيهم أن رئيسهم يجب أن يكون فوق كل الخلافات، ويكون على نفس المسافة من جميع الحساسيات بل محمول عليه أن يقوم بدور التجميع فهو من يلجأون إليه في حالة الأزمات الكبرى.
لكن لم يتحقق شيء من هذا وما جرى هو العكس. فلم يخل أيّ خطاب توجه به من تقسيم للشعب ومن سبّ لفئة منه. وما فتئ يصف مخالفيه بأشدّ النعوت فهم مخمورون، مزطولون، دراويش، حشرات، مجاري فاسدون …. الخ .بل قسّم شعبه إلى فئتين: واحدة صادقة، طاهرة وهم أتباعه ومن يقبلون بكل ما يأتيه من قول أو فعل وأخرى فاسدة ،ناهبة تشمل كل من خالفه أو عارضه أو قاومه مقاومة مواطنيّة سلميّة أو انتقدوا سياساته ولم يساندوا ما أقدم عليه ممّا أعتبر خروج على الدستور وتعطيل للمسار الديمقراطي الدستوري رغم ترشحه للرئاسة وفقه ثم أقسم على احترامه.لقد مارس رئيس الدولة كل أشكال العنف اللفظي بل أشدّها تطرّفا.
وسيكون لهذا العنف اللفظي تبعات سلبيّة على المجتمع وربّما على الشباب والناشئة أساسا سيما أنّه صادر عن أعلى سلطة في الدولة. وقد بدأ الملاحظون يسجلون بوادر عنف يقوم بها البعض.وهي من النتائج الموضوعيّة التي يساهم فيها هذا النوع من الخطاب بالقسط الأوفر.والشيء الخطير أنّ هذا الصنف من الخطاب العنيف، المنفلت، غير المجمّع والباعث على الكراهيّة ستنتج عنه تشوّهات في المجتمع ستبرز بالتدرّج لاسيما في الفئات الهشة والأكثر قابليّة لسرعة التأثر.
والأسئلة الأساسيّة هي: كم يتطلب على أهل الرأي والإعلام الوطني النزيه وعلماء الاجتماع والنفس والمربين، وعلى كل مؤسسات الدولة والمجتمع، أن يبذلوا من جهد لكي يعالجوا آثارها السلبيّة البليغة ؟؟ وكم ستكون كلفة إصلاح التشوهات ورأب الصدع في المجتمع على المجموعة الوطنيّة في قادم الأيام؟؟ وهل هي يسيرة المحو، أم يبقى أثرها وقابليتها للاستحضار بين فينة وأخرى؟؟
* باحث في الحضارة