أستاذ علوم سياسية أمريكي: قيس سعيّد يؤسس لنظام ”أوتوقراطي ليبرالي” وتونس لن تعود إلى ديمقراطيتها
تونس ــ الرأي الجديد (مواقع إلكترونية)
قال “دانييل برومبرغ”، أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورج تاون الأمريكية، في مقال تحليلي نشره على موقع ”المركز العربي واشنطن دي”، إنه في ظل الظروف الحالية، فإن أي مرحلة انتقالية تمر بها تونس لن تحقق العودة إلى طريق الديمقراطية.
ويرى ”برومبرغ”، أنه في حين أن رئيس الجمهورية قيس سعيّد نفسه قد لا يعلم على وجه الدقة إلى أين يريد أن يأخذ البلاد، فإن السيناريو الأكثر ترجيحا هو أن تنزلق تونس إلى نظام “شبه سلطوي”، أو ما يسمى بـ”الأوتوقراطية الليبرالية”.
ويقول الكاتب أن هذا النوع من النظام الهجين يتضمن قدرا من التسامح والانفتاح السياسي، ولكن فقط تحت مظلة القواعد التي تمنح النظام الوسائل لردع أو سحق التهديدات التي تواجه سيطرته المطلقة، وغالبا ما يكون قبول قادة المعارضة بهذا النوع من النظام مرتبط بتخوفات من البديل وهو “الأوتوقراطية المطلقة”.
وأضاف: ”بالنسبة لبعض فصائل المعارضة التونسية، قد تكون بعض أشكال الأوتوقراطية الليبرالية بديلا معقولا خاصة إذا استثنت منافسيها السياسيين من المشاركة في الانتخابات، لذلك لم يرفض العديد من قادة المعارضة التونسية انقلاب سعيّد بالكامل بعد”.
وتابع: ”بالرغم من مكاسبهم في ظلّ الديمقراطية، فإن العديد من قادة المعارضة يوافقون على استبعاد النظام للأحزاب الإسلامية وحركة النهضة على وجه الخصوص. ويعرف “قيس سعيد” ذلك ويعمل على استغلاله لخدمة مصلحته. لذلك إذا أرادت تونس أن تتجنب التحرك نحو الاستبداد الليبرالي، فإن ما تحتاجه بشكل عاجل هو معارضة موحدة تضم الإسلاميين والليبراليين واليساريين”.
وقد ظهرت مؤشرات على إمكانية تشكيل هذه الجبهة الموحدة في احتجاجات 14 نوفمبر الحاشدة أمام مبنى البرلمان والتي قادتها منظمة جديدة تطلق على نفسها اسم “مواطنون ضد الانقلاب”. لكن لا يزال بإمكان قيس سعيد الاعتماد على دعم العديد من قادة المعارضة وجزء كبير من عموم الشعب، فضلا عن الدعم القوي أو الضمني من العسكريين رفيعي المستوى”.
وقال: ”في الواقع، يمكن لسعيد أن ينتصر، خاصة إذا استمر في إظهار قدرته الكبيرة على التلاعب بالحساسيات القومية من خلال ربط خصومه بالقوى الخارجية”.
وأوضح أنه ”سيكون نجاح مخطط سعيد خسارة كبيرة لتونس، فالبلد بحاجة إلى ديمقراطية دستورية لأن البدائل السياسية والاقتصادية ستكون أسوأ وقد تنهار البلاد من الداخل بدون الديمقراطية التعددية. ويمكن أن تسير الديمقراطية والاستقرار جنبا إلى جنب لكن تعايشهما المثمر يتطلب محاولة مستمرة من قبل القادة التونسيين للاتفاق على خارطة طريق ديمقراطية متجددة. ولدى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مصلحة ملحة وملموسة في الدفع باتجاه تسوية سياسية حقيقية”.
* الأوتوقراطية الليبرالية … أربعة مكونات أساسية
ووفق برومبرغ، فإنه لكي تنجح الأوتوقراطية الليبرالية، يجب أن تلتزم بأربعة مبادئ أساسية وهي.
“فرق تسد”: وهذه استراتيجية مجربة من قبل العديد من المستبدين، لكنها مهمة أيضا في الأنظمة الأوتوقراطية الليبرالية حيث يحتاج الحكام في هذه الأنظمة إلى ساحة سياسية مفتوحة بشكل معين لممارسة فن دعم مجموعة ضد الأخرى. لذلك فإن نوعا من التعددية المربكة ضروري لبقاء النظام. وتوحي تأكيدات “سعيد” المتكررة بأنه لن يكون “طاغية” بأنه يفهم ذلك، وإن كان بشكل غير كامل.
تجنب وتخفيف إصلاحات السوق الرئيسية: وللحفاظ على استراتيجية فرق تسد، من الضروري أن يتجنب الحاكم فرض سياسات اقتصادية واجتماعية قد توحد الجماعات المتنافسة ضد النظام. وخلال الأعوام الـ10 الماضية، أدى فشل الحكومات المتعاقبة في صياغة أي نوع من برامج الإصلاح الاقتصادي إلى إثارة خيبة الأمل واسعة من الديمقراطية. لكن هذا السجل التعيس لا يعني أن “سعيد” سيفوز بقلوب وعقول الشباب إذا سار على نفس الطريق. ولكن قد يفضل “سعيد” استراتيجية تأمين المساعدات الاقتصادية الخارجية لتجنب قرارات اقتصادية صعبة.
جهاز قضائي أمني معزز: وفي حين أنها تسمح بقدر من الانفتاح، فإن الأنظمة الأوتوقراطية الليبرالية يجب أن تكون قادرة على استخدام الأجهزة الأمنية والمحاكم للردع. ويجب أن تكون الخطوط الحمراء التي يفرضها الحكم التعسفي للسلطة التنفيذية غامضة ومتغيرة باستمرار، ما يعزز السلطة النهائية للرئيس.
رئيس واثق وقادر: وتتطلب إدارة هذا النظام قائدا لا يكون واثقا وحازما فحسب، بل يكون أيضا عقلانيا وذكيا. ولن يستطيع القائد المحاط بالمتملقين الذين يشجعون الأحكام السيئة، أو الذين لا يستطيعون تعويض أوجه قصور القائد، الحفاظ على التوازن المعقد بين الانفتاح المسموح به والسيطرة التي يفرضها النظام على التضاريس المؤسسية والقانونية التي تعتبر ضرورية للاستبداد الليبرالي.
القيادة غير المكتملة لـقيس سعيّد
ويقول الكاتب في ورقته التي ترجمها موقع الخليج الجديد، ”ينضح خطاب “سعيد” بالثقة الزائدة لكن ذلك لا يعني بالضرورة أنه يتمتع بمزيج من الفطنة السياسية والرؤية العقلانية الأوسع لإدارة التحديات المؤسسية والاستراتيجية التي يواجهها. ويبدو أنه يضمن ولاء كبار المسؤولين في الجيش وقوات الأمن الداخلي والجهات الفاعلة الرئيسية في القضاء، كما يبدو أنه بارع في لعبة “فرق تسد”. ومن الواضح أيضا أن اعتداءاته اللفظية شبه المباشرة على حركة النهضة محسوبة لردع القادة الذين قد ينضمون إلى معارضة الانقلاب”.
وأضاف: ”ويشير وعد “سعيد” بتنظيم حوار وطني يستثني “الذين سرقوا أموال الشعب والخونة” ويقوده “الشباب” إلى الممارسة العريقة في العالم العربي والمتمثلة في إجراء حوارات تهدف إلى تقسيم المعارضين مع تمكين الحكام في نهاية المطاف. ويشير اعتقال ما لا يقل عن 6 صحفيين وقادة سياسيين من المعسكرات الإسلامية واليسارية ومحاكمتهم إلى استراتيجية القمع الانتقائي لفرض حدود المعارضة المقبولة”.
ومع ذلك، حسب الكاتب فإن ”أفعال رئيس الجمهورية وكلماته لا تشير إلى استراتيجية حكم متماسكة وفعالة. فلم يتخل عن “رؤيته الطوباوية” بشأن إنشاء لجان شعبية محلية بدلا من الأحزاب السياسية أو حتى البرلمان. وعلى العكس من ذلك، فإن شعبويته تحركها حساسية تجاه مؤسسات الحكم الرسمية وهو ما يتعارض مع العقلانية السياسية والاقتصادية المطلوبة لدفع نظام شبه سلطوي”.
وأوضح: ”وفي حين أننا لا نعرف سوى القليل عن الفريق الذي يقدم المشورة لـقيس سعيد، فإن الانشقاق الأخير لأحد المقربين منه يشير إلى مدى صعوبة التأثير على زعيم مفتون بطريقة حكمه الخاصة”.
وتابع: ”أدى عناد قيس سعيد إلى تداعيات اقتصادية حادة وتشير تصريحاته إلى فقر كبير في المعرفة الاقتصادية الأمر الذي جلب السخرية من جانب النخب والغضب المتزايد من جانب عموم الناس. وحرصا على عدم تنفير قاعدته، أرسل “سعيد” رئيس الوزراء ومسؤولين آخرين للقاء القادة السعوديين والإماراتيين من أجل طلب الدعم. وتتمثل مهمة مبعوثي “سعيد” في تأمين مساعدات ضخمة تستطيع أن تخفف الآلام الاجتماعية التي ستصاحب الإجراءات الاقتصادية المحفوفة بالمخاطر السياسية مثل تخفيض فاتورة أجور القطاع العام. لكن لا يوجد حتى الآن ما يشير إلى أن الرياض أو أبوظبي ستلبي مثل هذه الطلبات”.
وأشار إلى أنه ”على العكس من ذلك، قال محللو السياسة في واشنطن الذين تواصلوا مع مسؤولي الإدارة إن البيت الأبيض يشجع دول الخليج على تجنب تمكين “سعيد”. ومع فقدان أحد المكونات الحاسمة لتشكيل حكم أوتوقراطي ليبرالي، من المحتمل أن تزداد الأزمة الاقتصادية في تونس سوءا”.
المعارضة تناضل من أجل الوحدة
ولفت برومبرغ، إلى أن ”مظاهرة 14 نوفمبر، التي خرج فيها على الأقل 6 آلاف متظاهر أمام البرلمان، قد تشير إلى إحراز بعض التقدم على طريق تشكيل جبهة معارضة أوسع”، ونقل عن أستاذ القانون الدستوري “جوهر بن مبارك” تأكيده ”أن الحكومة منعت آلاف المتظاهرين من الوصول إلى المظاهرة التي نظمتها حركة جديدة تطلق على نفسها “مواطنون ضد الانقلاب”، وهو تأكيد تدعمه تقارير أخرى”.
وقال ”الأكثر خطورة، أن “بن مبارك” أكد مؤخرا أنه كان يزور مقهى محليا عندما حذره رجلان في ثياب مدنية قائلين: “نحن نعرف أين تعيش والمدرسة التي يذهب إليها أطفالك”. ويوحي هذا التهديد بأن الحكومة تريد تحجيم شخص قد يكون لديه الكاريزما والرؤية لتوحيد العلمانيين والإسلاميين”.
وأقر دانيال برومبرغ بأنه ”مع ذلك، ستكون مهمة توحيد المعارضة مهمة شاقة بالتأكيد، حيث تتواصل الانقسامات الأيديولوجية والاجتماعية والاقتصادية التي تعقد جهود “بن مبارك” وغيره من منتقدي الحكومة لتشكيل أرضية مشتركة. ومن الأدلة على ذلك أنه بينما كان متظاهرو 14 نوفمبر يقدمون قائمة طويلة من المطالب، وأهمها إعادة البرلمان، قال رئيس الاتحاد العام التونسي للشغل للصحفيين إنه أبلغ الرئيس “سعيد” بأن النقابة مستعدة لقبول الانتخابات دون إعادة البرلمان”.
ولفت إلى الاتحاد العام التونسي للشغل يتمتع بالقدرة على حشد عشرات الآلاف من العاملين الحكوميين، ويشير موقفه إلى انقسام كبير يمكن أن يصب في مصلحة “سعيد”.
وبين أنه ”لا يوجد صديق للإسلاميين، وأنه ”قد تخلق الاستقالة الأخيرة لعدد من قادة “النهضة” المخضرمين من الحركة وعزمهم تشكيل حزبهم الخاص شريكا مناسبا لبعض الجماعات والقادة العلمانيين. ولكن يمكن أن يكون لهذه الخطوة تأثير معاكس من خلال تشجيع القادة المناهضين للإسلاميين على استنتاج أن المعسكر الإسلامي منقسم للغاية بحيث لا يوجد سبب لتقديم تنازلات له، ناهيك عن إشراكه في جبهة معارضة”.
قانون قيس سعيّد للموازنة
ورجح الكاتب أن ”يستغل قيس سعيد أيضا الاحتكاكات داخل الجماعات الإسلامية لاستقطاب المنشقين عن “النهضة”. ويمكن أن يؤدي حصول “سعيد” على دعمهم الضمني إلى تعزيز نفوذه التفاوضي لأنه يحاول الموازنة بين الحاجة إلى الحفاظ على قدر من الانفتاح مع السعي بنفس القدر لمعاقبة منتقديه”.
ورجح أيضا، أن ”يأتي النهج القاسي بنتائج عكسية من خلال منح جماعات المعارضة حافزا لتركيز غضبها على الرئيس. ويظهر ذلك في الانتقادات التي وجهتها جماعات وقادة حقوقيين إلى الرئيس التونسي بعد إصدار مذكرة توقيف دولية بحق الرئيس السابق “منصف المرزوقي” بتهمة بتقويض الأمن التونسي، وذلك بعد أن عقد مؤتمرا صحفيا في باريس دعا خلاله التونسيين إلى مقاومة الانقلاب”.
ولاحظ أن ”حملة سعيد قد جاءت بنتائج عكسية بطرق توحي بوجود خطوط حمراء يجب على الرئيس ألا يتجاوزها خشية أن يخاطر بتوسيع دائرة المعارضة. لكن يبدو أنه يفتقر إلى المزاج والخيال والمهارة اللازمة لعمل توازن معقد لتجنب الانزلاق إلى هاوية نظام استبدادي بالكامل”.
ولتجنب هذا المنحدر الزلق، يجب على “سعيد” تقديم تنازلات لا يمكن بدونها أن يكون هناك حوار وطني هادف أو فعالن وفق الكاتب.
الصراع الداخلي والمعادلة الدولية
يقول دانيال برومبرغ: ”وفي الوقت الذي تستجمع فيه المعارضة زخما ويحاول منتقدو “سعيد” التغلب على حالة انعدام الثقة، يواجه المجتمع الدولي تحديا يتمثل في إيجاد طريقة للاستفادة من الانتقادات المحلية للرئيس دون تقويض مصداقية خصومه. ولن يكون من السهل إدارة هذه المعضلة الصعبة، وإن كانت مألوفة، نظرا للحملات الإلكترونية النشطة التي أطلقها أنصار “سعيد” المتحمسون لشيطنة منتقديه وربما حتى تعريضهم وعائلاتهم للخطر”.
ويصيف: ”ولكن يوما بعد يوم، فإن انتزاع الرئيس للسلطة يكلف تونس على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي. ومؤخرا لقى أحد المتظاهرين حتفه في صفاقس في أعقاب مظاهرات عامة ضد مكب نفايات خطير على ما يبدو، ما مهد الطريق لاحتجاجات جديدة وحملة موسعة للتنديد بالقطاع الأمني. ويظهر ذلك أن استعادة الديمقراطية الدستورية شرط ضروري، وإن لم يكن كافيا، لمنع حدوث انهيار اجتماعي”.
وأوضح: ”وبالتالي، يجب أن يستمر انتقاد الاتحاد الأوروبي وإدارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” لانتهاكات حقوق الإنسان، إلى جانب الدعوات لإعادة البرلمان وإقامة حوار وطني حقيقي وليس مزيفا”.
وتابع قائلا: ”ويعتبر هذا الأمر مهما بشكل خاص للإدارة الأمريكية التي توشك على عقد مؤتمر دولي حول الديمقراطية، لكنها تتماشى مع كل حكم أوتوقراطي في العالم العربي. وعلى خطى الإدارات السابقة، ترى إدارة “بايدن” معضلة في التوفيق بين التزاماته المعيارية والأمنية في العالم العربي، ومن الواضح أنه يفضل الأخيرة”.
وخلص ”دانييل برومبرغ” أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورج تاون، إلى القول: ”وإجمالا، فإن الانتقال إلى أوتوقراطية ليبرالية بدلا من أوتوقراطية مطلقة قد يشجع التونسيين على مواصلة العمل وإحياء تجربة الديمقراطية التي بدؤوها قبل عقد من الزمان بدلا من التخلي عنها تماما”.